وفاة آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته، فلما بلغ صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه -ومعه أم أيمن رضي الله تعالى عنها تحضنه- إلى مدينة يثرب، تزيره خُؤولة جده فيها،[1] وتزور قبر بعلها الحبيب عبد الله بن عبد المطلب، كما أنها كانت تريد أن تخرجه من جو مكة المزدحمة بالسكان حيث كانت تخشى على وليدها العزيز في هذا الجو وباء مكة،[2] فأقامت بيثرب شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مُقامه ذلك،[3] وفي عودتها إلى مكة أدركها الموت بمكان بين مكة والمدينة وهو إلى المدينة أقرب، اسمه “الأبواء”، واجتمعت له وحشة فراق الأم الحنون ووحشة الغربة، وذلك الشأن معه من يوم ولد، وفيها من أسرار التربية الإلهية ما لا يعلمها إلا الله.[4]
يقول أبو زهرة: وبذلك صار محمد صلّى الله عليه وسلّم يتيما من أبويه إذ ادخره الله تعالى للإنسانية هاديا بالحق، داعيا إلى الرحمة، فكان نبيَّ الرحمة، لأن الرحمة بالناس تنبع من الآلام الذاتية التي تعترض في أثناء الحياة، فإنه لا تنبعث الرحمة بالضعفاء إلا ممن ذاق مرارة الضعف، وأيُّ ضعف أشدُّ من اليتم، وإن القسوة في كثير من الأحيان تكون من الذين ينشؤون في الحلية فاكهين في نعيم الحياة.
ولقد ماتت الأم الطاهرة، وهو يدرك الحياة، وقد ذاق حلاوة حنانها، ولطفَ عطفها، وهي التي كان هو لها كل الوجود، واستبشرت به، واتخذت حبَّه عوضا عن الحب الزوجي الذى فقدته في باكورة زواجها، وإذا كان قد فَقَدَ أباه من قبل، فقد كان ذلك هو في غيب الله المكنون، وقد عوَّضه جدُّه عطفَ الأب فلم يحس بألم الفقد، لأنه لم يعلمه، واستقبل الحياةَ بهذه الحال، ولم يجعله جده عبد المطلب يحس بالفقد الذى لم يعه، أما الأم فقد فَقَدها وهو في وعي، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وإنه لا شيء يعوَّض عطف الأم الرؤوم، وهو حرمان من شيء موجود شَعَر به، وأصابته لوعته، علَّمتْه الصبرَ وعُودُه أخضر.
وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، آن الموتُ، وهما غريبان، وليس لهما إلا الصحراء، وطريق مدعثر/متعثر، وشُقَّة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألمُ الغربة، وألم الفقد، وألم الانقطاع، وصار الركب في رعاية الله تعالى الذى صنعه على عينه، وذلك ليحس مع الصبر واحتمال الآلام كريمَ الرعاية الإلهية، والعناية الربانية، ويكونَ له من هذا زاد نفسي يذكره عندما يلاقي الشدائد في الدعوة إلى الحق، ومناوأة الشرك وتكاثف المشركين عليه، وتعرُّضِه للأذى والتجائه إلى الله إذا أحس بالضعف.
وإن الذي حلمه، وحل محل أمه في حضانته جاريةٌ حبشية، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأتْه وحمته. وإن ارتباط حياته الطاهرة بأمة حبشية تزويد من الله تعالى له بزاد إنساني. لِيشعره بأن الناس سواسية، وأن كل الفضل فيمن يُحسن في عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنةُ التي لا يستغنى عنها محمد صلى الله عليه وسلم أَمَةً حبشية، لأنه تربية ربانية على المساواة الإنسانية، وأنه لا شرف إلا بالنفع والعاطفة. لذلك لم يكن غريبا من الذي حضنته جارية حبشية أذاقته حب الأمومة. وإن كان دون حبها، وأوصلته إلى جده محوطا بعناية الله وعطفها- أن يكون نصير الأرقاء، والمانع للرق الإنساني، فليس غريبا أن يغضب أشد الغضب، عندما يسمع بعض صحابته يعير اخر بقوله “يا ابن السوداء” ويقول في قوةٍ: “لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى فمحمد ابن البيضاء حضنته السوداء فكان ابنا لهما معا. (إلى هنا كلام أبي زهرة)[5]
ويُروَى أنها قالت قُبيل وفاتها: “كلُّ حيٍّ ميتٌ، وكلُّ جديد بالٍ، وكلُّ كبير يفنى، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركتُ خيرا وولدتُ طهرا”.[6] ثم فاضت روحها الطيبة وتوفاها الله تعالى.
ومن المؤكد أن لله تعالى حِكما عظيمة في قبض روح والديه قبل أن يشبَّ ويترعرع نبيه بل وقبل أن يكلفه بالرسالة.. ومن ألطف ما قرأناه في ذلك هو ما ذكره الأستاذ النُّورسي في هذا السياق.
حيث يورد سؤالا حول ما إذا كان والداه وجده عبد المطلب قد ماتوا على الإيمان أوْ لا؟ فيجيب:
إن والدي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أهل النجاة ومن أهل الجنة، ومن أهل الايمان، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يؤلم قلب حبيبه صلى الله عليه وسلم ولا يجرح شفقته اللطيفة التي تملأ ذلك القلب المبارك.
فان قيل: ان كان الأمر هكذا فلِمَ لم يوفَّقوا للإيمان ولم يدركوا بعثته؟
الجواب: ان الله سبحانه وتعالى بكرمه العميم لا يجعل والدي الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم تحت ثقل المنّة، تلطيفاً لشعوره صلى الله عليه وسلم، اذ اقتضت رحمته سبحانه أن يرضي حبيبه الكريم صلى الله عليه وسلم ويسعد والديه ويجعلهما تحت منّة ربوبيته الخالصة، لكيلا ينزلهما من مرتبة الوالدية الى مرتبة الاولاد المعنوية، فلذلك لم يجعل والديه ولا جدّه من أمته ظاهراً، في حين أنعم عليهم بمزايا الأمة وفضائلها وسعادتها. نعم! لو حضر أمام مشير عظيمٍ في الجيش والدُه وهو برتبة نقيب لظل والده تحت تأثير شعورين متناقضين. لذا فالسلطان رحمةً بمشيره الكريم، لا يجعل والده تحت إمرته.[7]
ومن المعلوم أن والدي الرسول صلى الله عليه وسلم كانا من القلة القليلة التي كانوا لا يزالون يحافظون على الحنيفية التي ورثوها على أبيهم إبراهيم عليه السلام.. كما أنهما من حيث لم يَبلغا عهد النبوة، يعتَبَران من أهل الفترة.. وقد قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(الإسراء: ١٥).
وشاء الله تعالى أن يبقى محمد صلى
الله عليه وسلم فريدا وحيدا في تلك الأراضي ليس معه إلا حاضنته أم أيمن رضي الله
عنها، وذلك في التاريخ الموافق ٥٧٦ ميلادية، وقد وقع على عاتقها أن تقوم بسد
الفراغ الذي حصل بوفاة أمه بعد أن كان محروما من الوالد أيضا، فلم تزل ترعاه وتحضنه
إلى إن كبر. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أُمُّ أَيْمَنَ أُمِّي بَعْدَ
أُمِّي”.[8]
[1] حيث إن أم عبد المطلب بن هاشم: سلمى بنت عمرو نجارية. فهذه الخؤولة التي ذكرها ابن إسحاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم.
[2] أبو زهرة، خاتم النبيين ١/١١٥.
[3] حيث إن أمه نزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهرا. ولما نظر صلى الله عليه وسلم إلى أطم بني عدي بن النجار عرفه فقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع الغلمان من أخوالي نُطير طائرا كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار. (ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى ١١٤).
[4] السيرة، ابن هشام ١/ ١٥٥؛ ابن سعد الطبقات ٢/ ٩٣؛ الندوي، السيرة النبوية ١٦٣.
[5] أبو زهرة، محمد خاتم النبيين ١/١١٦.
[6] السيوطي، الخصائص الكبرى ١/١٣٥.
[7] بديع الزمان سعيد النورسي، المكتوبات، المكتوب ٢٨، المسألة الثامنة، النكتة السابعة….؟؟؟
[8] ابن كثير، البداية والنهاية ٦/٣٤٧.