مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الشباب إلى المستقبل (1)
بقلم: يوجَل مان
جمع فرعون أهل مصر والسحرة المهرة، كي يُظهر عجز موسى أمام شعب مصر، ويحافظ هو على مكانته واعتباره أمامهم. ولقد كان فرعون يثق في هؤلاء السحرة، والسحرة يثقون في حيلهم وخدعهم، أما موسى عليه السلام فقد كان يثق في الله رب العالمين. وبدأت المنافسة بعرض السحرة لمهاراتهم وخدعهم السحرية، وأخذت الأعين المسحورة تلتفت إلى موسى عليه السلام. وما إن ألقى موسى عصاه، تنفيذًا لأمر الله عز وجل حتى تحققت المعجزة بفضل من الله وعنايته، وقضت على حيَل السحرة وأفسدت ألاعيبهم. ولما رأى السحرة هذه المعجزة علموا أنها ليست من السحر بحكم فنهم وعلمهم بالسحر، فأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين وأعلنوا إيمانهم برب العالمين، رب موسى وهارون رغم تهديدات فرعون وتوعده لهم بالقتل. فأراد فرعون أن يمحو التأثير الذي بثَّته معجزة موسى عليه السلام في نفوس شعب مصر، والتي تحققت على مرأى ومسمع الجميع، وما أعقبها من إيمان السحرة بموسى؛ فاتَّهم موسى عليه السلام بالسحر، والسحرةَ بالتواطؤ مع موسى، ووصفَ المعجزةَ بالسحر.
رجع موسى عليه السلام إلى قومه بعد أن خاض هذه المنافسة، وأخذ يدعوهم إلى التوحيد؛ إلا أن بني إسرائيل خافوا من ظلم فرعون وطغيانه، فلم يؤمن منهم سوى فتية من قومه: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/83). فأوصى موسى عليه السلام هؤلاء الفتية أن يعتمدوا ويتوكلوا على الله، وألا يثقوا في أحد غيره: ﴿فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/85-86). فأوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة يُونُسَ: 10/87)، ليبين لهما أين وكيف سيتم تنشئة هؤلاء الغلمان في وسط إمبراطورية الخوف هذه التي أسسها فرعون.
كانت فئةُ الشباب أولَ المجيبين لدعوة موسى عليه السلام كما هو الحال في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأغلبية العظمى ممن آمن به من السابقين الأولين كانوا من الشباب؛ حيث كانت أعمار بعضهم عند إسلامهم: “سيدنا طليب بن عمير 8 سنوات؛ وسيدنا علي بن أبي طالب ومُعَطِّب بن عوف ومِسْطَح بن أُثاثة 10 سنوات؛ وسيدنا طلحة بن عبيد الله وعبد الله بن سهيل بن عمرو وسعد بن خولة والسائب بن عثمان 13 سنة؛ وسيدنا أيمن بن عبيد 14 سنة؛ وسيدنا الأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن مخرمة وسعيد بن زيد 15 سنة؛ وسيدنا الزبير بن العوام وشجاع بن وهب 16 سنة؛ وسيدنا سعد بن أبي وقاص ومسعود بن ربيع وسهيل بن بيضاء وعبد الله بن مظعون 17 سنة؛ وسيدنا شماس بن عثمان وخالد بن أبي البكير 18 سنة؛ وسيدنا صهيب بن سنان وقدامة بن مظعون 19 سنة؛ وسيدنا جعفر بن أبي طالب وعاقل بن أبي البكير 20 سنة؛ وسيدنا خباب بن الأرت وعامر بن فهيرة 23 سنة؛ وسيدنا عبد الله بن جحش والمقداد بن عمرو 24 سنة؛ وسيدنا مصعب بن عمير 25 سنة؛ وسيدنا عثمان وعمر وعتبة بن غزوان 26 سنة؛ وسيدنا أبو بكر الصديق 38 سنة… رضي الله عنهم أجمعين”. ولم تكن الصحابيات من النساء يختلفن كثيرًا عن الرجال.
فتح دار الأرقم لاستقطاب الشباب وتنشئتهم
كان مشركو مكَّة وهم أهل جاهلية يتبعون سياسة قاسية صارمة في مسألة الحفاظ على الأعراف والتقاليد التي توارثوها عن أجدادهم. فكانت ردة فعلهم لما علموا بأمر الوحي الأول الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تتشابه تمامًا مع ردة فعل فرعون وملئه مع موسى عليه السلام؛ فقد اتهموه صلى الله عليه وسلم بالجنون، وأخذوا يسخرون من الوحي الشريف1. فدفع هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى التزام الحيطة والحذر في تحركاته حتى لا يصعّد حدة التوتر بينه وبينهم، ولا يستثير عداوتهم ويجعل منها مرضًا مستعصيًا. فكان يقوم بمجالسة هؤلاء الشباب فرادى، ويأمرهم بالصلاة ومدارسة القرآن الكريم في شعاب مكَّة بعيدًا عن أعين قومهم. وفي إحدى المرات ظهر عليهم نفر من قريش، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم، فلم يتمالك سعد بن أبي وقاص نفسه وكان ابن السابعة عشرة. فضرب سعد رجلًا بلَحيِ جمل فشجه2.كانت هذه أول حادثة تقع بين المسلمين والمشركين. ولذا كانوا يتعاملون في بعض الأحيان بدافع معنوي عند مواجهة جحود مشركي مكَّة ونكرانهم، فضلًا عن أن سور القرآن التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تتجاوز بعدُ السورتين، وهذا يعني أن هؤلاء الشباب يحتاجون إلى وقت وتعليم ومنهجية وفلسفة للحركة لضبط مشاعرهم وانفعالاتهم.
فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في هذا الأمر، فعرض عليه الأرقم بن أبي الأرقم -وهو ابن خمس عشرة سنة- داره للدعوة إلى الله ورسوله، وكانت على سفح جبل الصفا. فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح الصائب، وبدأ في مقابلة الشباب في هذا المكان، يدعوهم فيه إلى الإسلام، كما كان يهتم بمن آمن من السابقين الأولين، فيتذاكر معهم أوامر الله تعالى، وسور القرآن، ومعاني الآيات، ويحاول معهم إيجاد حلول لمشكلاتهم، فجعل الفقراء وأصحاب الحاجة من المسلمين في ذمة الميسورين والآمنين منهم، مؤكدًا على روح المؤاخاة، ومطوّرًا من مهارات وقابلية التحرك الواعي المتزامن لديهم. ولقد كان للتعليم الذي تلقوه في دار الأرقم بن أبي الأرقم الأثر الكبير في صبرهم رغم الكثير من الضغط والظلم والاضطهاد الذي تعرضوا له، وكذلك في مواجهتهم هذا الظلم بالعفو والمسامحة والمثابرة دون الوقوع في شجار ونزاع مع أحد، وفي الصفح عن المسيئين، وفي السلوك الناضج الذي يتبنّونه حيث ذهبوا.
الهجرة إلى الحبشة: خطوة مهمة لحماية الشباب وتنشئتهم
مع البدء في الدعوة الجماعية والعلنية في السنة الرابعة من البعثة أخذت ممارسات المشركين تأخذ منعطفًا آخر؛ إذ تحولت السخرية والاحتقار للمسلمين إلى تعذيب وحبس وقتل. فكانوا يسومون من يعلمون بإسلامهم من فتيان المسلمين عن طريق الإبلاغ أو الملاحقات بشتى ألوان العذاب والظلم، محاولين بذلك إعادتهم إلى الكفر. على الرغم من الحياة الشهوانية الفاسدة الدنيوية التي تسود مكَّة فقد دخل هؤلاء الشباب في دين الإسلام الذي يضع عليهم العديد من القيود التي تحل هذا وتحرم ذاك، واتبعوا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وصبروا على ما يلاقون من ظلم لا يُطاق؛ وكانوا يرجحون دائمًا نعيم الجنة الآجلة على شهوات الدنيا العاجلة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغذيهم منذ اللحظة الأولى بالدروس الإيمانية التي تملأ قلوبهم طمأنينة وسكينة وأرواحهم يقينًا يبعدهم عن هذه الحياة الفانية، وتنقذهم من الفراغات والأمراض النفسية التي كانوا غارقين فيها. ثم إنه ضرب لهم بنفسه المثل الأعلى في الصبر على الظلم، فشحذ الهمم، وزرع الثقة بالجماليات الإنسانية الكامنة في معاملاته، وحصد ثمار الحب والوفاء. وقد شكل النبي صلى الله عليه وسلم جوًّا من التآخي والمودة بين هؤلاء الذين يتقاسمون نفس المشاعر والأفكار، ودفعهم إلى التعاون والتضامن، فارتقى بهم بالإيمان والشورى إلى منزلة أصحاب الشأن ومتخذي القرار، كما كان يكلفهم بالوظائف والمهام التي تصقل خبراتهم وتجاربهم، وكان حاضرًا بجانبهم دائمًا في كل أمر أو مشكلة تخصهم، محاولًا بذلك الحيلولة دون سقوطهم في دوامة الوحدة سواء في عوالمهم الداخلية أو العالم الخارجي، وكان يغذيهم باستمرار، ولا يسمح بوقوعهم في الوحدة والانعزال.
وعلى الرغم من أن مشركي مكَّة قد أذاقوا هؤلاء الشباب شتى أنواع العذاب فإنهم لم يستطيعوا إعادتهم إلى الكفر مرة ثانية، ولا تحريضهم على العنف، ولا جذبهم إلى محيطهم المليء باللهو واللعب والشهوات، وذلك كله بفضل هذه التعاليم والمبادئ النبوية التي تربوا عليها. وهذا ما أثار غضب المشركين واستفزَّهم ودفعهم إلى إزهاق روح سيدنا ياسر وزوجته السيدة سمية رضي الله عنهما. وبناءً على ذلك أذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين كان أغلبهم من الشباب بالهجرة إلى الحبشة؛ فهاجر الصحابة إلى الحبشة في مجموعات وقلوبهم معلَّقة برسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعثت قريش عمرو بن العاص رسولًا إلى ملك الحبشة ليرد عليهم المسلمين الذين هاجروا من مكة فرارًا، فقال عمرو للنجاشي: “إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ…”3.
والواقع أنه كانت تكمن بين ثنايا قرار الهجرة الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأهداف والحكم التي يجهلها هؤلاء الشباب. فقد أنقذ الشباب بداية من الضغط الشديد في مكَّة؛ كما أظهر ضرورة البحث عن طرق وحلول بديلة بدلًا من الوقوف في وجه المشركين الذين لم يسمحوا ولم يدعوا مجالًا لمعايشة الدين. وقد أفسحت الهجرة إلى الحبشة المجال أمام معايشتِهم الإسلامَ، وجعلِه بعدًا عميقًا من أبعاد طبيعتهم في جو مفعم بالحرية والأمان. فلقد استغل صلى الله عليه وسلم المظالم والاضطهادات التي استمرت إلى هذا اليوم في جعل هؤلاء الشباب أكثر صمودًا وصبرًا. وها هم الآن ينتقلون إلى مرحلة جديدة، وفي سبيل القيم والقضية التي يؤمنون بها يتمكنون من الهجرة إلى ديار جديدة تاركين خلفهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأكثر أحبائهم وجميع ممتلكاتهم؛ إذ كان ينتظرهم في المستقبل أزمات أكبر ومراحل أصعب بكثير. وخاصة أنهم في بلد أجنبي يختلف عنهم كلية من ناحية الثقافة والطباع ولا يوجد بينهم المعلم والمربي صلى الله عليه وسلم، فتحتم عليهم أن يتعلموا كيف يعيشون دون أن يتغيروا، وأن يعبروا عن أنفسهم، ويدافعوا عن هويتهم، ويشكلوا وحدة وتكافلًا فيما بينهم؛ وذلك بما تلقوه من تربية روحية وحسية حتى هذا اليوم.
أغلب من قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة من الشباب
كان السابقون الأولون في المدينة المنورة من الشباب أيضًا كما كان الحال في مكة. ففي السنة الحادية عشرة من البعثة في منى بالعقبة قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة من شباب المدينة فتحوا له خيمتهم أولًا ثم قلوبهم، وهم: أسعد بن زرارة، عوف بن الحارث، رافع بن مالك، قطبة بن عامر، عقبة بن عامر، جابر بن عبد الله. وقد كان سيدنا جابر على سبيل المثال في الرابعة عشرة من عمره. وعلى نفس الشاكلة كان الغالبية العظمى من الاثني عشر نفرًا الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى، وكان الخمسة وسبعون بمن فيهم المرأتان الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية؛ من الشباب أيضًا. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تقابل مع عمه العباس قبل أن يتقابل مع هؤلاء الخمسة وسبعين نفرًا الذين سيبايعهم في العقبة. فقال له العباس: “يا ابن أخي، لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب”، معرِبًا عن قلقه بشأنهم، ورافقه إلى مكان البيعة. فلما نظر العباس في وجوههم، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث” أي إن هؤلاء حديثو السن4.
لقد كان لهؤلاء الشباب الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة السبقُ في التطورات التي ستغير مجرى التاريخ الإسلامي بل والإنساني على حد سواء. فقد اتفقوا فيما بينهم على التصدي لجميع أعداء الإسلام، قائلين: “حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف، ويطرد في جبال مكة”5. فاتخذوا قرارًا جادًّا بعيدًا عن قومهم؛ وهو دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت النتيجة هي “الهجرة”.
وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يسكنها حوالي ستة آلاف مشرك. وفي فترة زمنية قصيرة اعتنقت الغالبية العظمى من أهل المدينة الإسلام، وكان معظمهم أيضًا من الشباب. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن السبب وراء هذا التغيير السريع هو حرب “بعاث” التي عاشتها المدينة قبل الهجرة. ولقد وقعت هذه الحرب بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين تكبدتا خسائر فادحة، وسقط أشراف وزعماء القبيلتين صرعى، وأصيب الكثيرون أيضًا. فأصبحت القبيلتان في هذه الحالة المؤسفة تحاولان أن تستجمعا قوتهما من جديد، وتبحثان عن مخرج من هذه الأزمة. فكانوا جميعًا مستعدين ومتهيئين لاستقبال النظام والإنسان الذي سيقضي على جميع تلك النزاعات والأوجاع6.
ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها محقة في ذلك. فإنه قبل حرب بعاث وفد أبو الحيسر على رأس خمسة عشر فتى من الأوس إلى مكة يلتمسون الحلف من عتبة بن ربيعة على الخزرج. فاحتج عتبة بطول المسافة ولم يتم لهم الحلف. فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم بذي المجاز، وقال لهم: “هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ”، فذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال فتى من بينهم وهو إياس بن معاذ وكان غلامًا حدثًا: “أيْ قوم، هذا والله خير مما جئتم له”، فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: “ما أشغلنا عن هذا، ما قدم وفد إذا على قوم بشر مما قدمنا به على قومنا. إنا خرجنا نطلب حلف قريش على عدونا فنرجع بعداوة قريش مع عداوة الخزرج”. ليحول بذلك بين هؤلاء الشباب وبين هدايتهم7.
كانت بعاث هي نهاية الحروب التي دامت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين عامًا. فقد وقعت قبل الهجرة بثلاث أو خمس سنوات!!، وقد صُرع فيها عدد من رؤوس الشرك في المدينة الذين كانوا يقدرون على الإتيان بمثل ما مارسه رؤوس مكة من ظلم وقهر أمثال الوليد بن الوليد، العاص بن وائلٍ، أبي جهل، أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة وشيبة بن الربيع، ونضر بن الحارث. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخلاقه الحسنة وقيادته الرشيدة ورسائله الإنسانية ووعده بالثواب للمؤمنين بمثابة النور والأمل لشباب المدينة الذين يتوقون إلى السلام والاستقرار، والذين ضاق بهم العيش بسبب النزاعات التي لا تنتهي، ودعوات الثأر التي لا تتوقف، والحروب والتهديدات والمخاطر الدائمة، واضطرارهم دائمًا إلى التضحية بأقربائهم وأهليهم. والحقيقة أنه عندما أقبل عليهم صلى الله عليه وسلم في المدينة استقبلوه فرحين مهللين: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع…”8.
حتى إن عبد الله بن أبيّ الذي كان يستعد حينئذ لأن يُتوَّج بتاج الزعامة يومها ما استطاع إثناء ابنه الصغير عبد الله وابنته جميلة وهي أيضًا حديثة السن من الخروج وراء هذا النور الساطع. لقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تأثيرٌ كبيرٌ في الشباب لدرجة أن اليهود كانوا يشعرون بالقلق عندما يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمام بيت المدراس الذي يعلم فيه اليهود الشباب التوراة. وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بعدم التعرض للشباب بقدر الإمكان في ساحات القتال مع المشركين بسبب ارتفاع احتمالية كسب قلوبهم9.
خلاصة القول
إن الصفة المشتركة في المجتمعات التي يُبعث فيها الرسل عليهم صلوات الله وسلامه جميعًا هي انحراف أقوامها وزعمائها عن طريق الحق، وتدني أخلاقها، وانغماسها في اللهو واللعب، وابتعادها عن العدل ونسيان الآخرة تمامًا. فكان أول مَن آمن بهؤلاء الرسل وقدم الدعم الأكبر لهم في هذه المجتمعات هم الشباب والصبيان. فلم تكن سلبية الزمان ولا المكان عائقًا أمام جذب الشباب وتوجيههم إلى الخير، بالعكس تمامًا كانت فرصة ذهبية، المهم هو أن يوضع أمامهم المرشد الذي يفتح قلوبهم، ويقوي أرواحهم، ويشحذ هممهم، ويغذي أهدافهم وأحلامهم، ويضفي معنى على حياتهم؛ كما فعل الأنبياء والمرسلون بالضبط.
كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثاني من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم عام 610م، وهو ابن العاشرة، بينما كان آخر صحابي وافته المنية هو عامر بن وسيلة رضي الله عنه وقد وُلد في السنة الثالثة من الهجرة، وتوفي في مكة في سنة 710م.
لقد أضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قرنًا من الزمان بجيل من الشباب أنشأه ورباه على يديه، وترك خلفه جيلًا مجهزًا بالكامل لإرشاد الناس الذين سيعيشون خلال تلك المائة سنة (610-710م). ولقد حملوا هم أيضًا على عواتقهم مسؤولية الإسلام، فنشروه بين الأمم، وأعلوا راية الحق والحقيقة، وحملوا الإسلام للأجيال القادمة10.
Footnotes
- سورة القلم 68/1-6؛ سورة الطور 52/52، 53
- ابن هشام، السيرة النبوية، 120؛ تاريخ الطبري، 2/318؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 3/37
- ابن هشام، السيرة النبوية، 155
- أحمد بن حنبل، المسند، 3/339، 340 (14588)؛ الحاكم، المستدرك على الصحيحين، 2/734 (4310)
- أحمد بن حنبل، المسند، 22/347 (14456)؛ صحيح ابن حبان، 15/475 (7012)؛ البيهقي، السنن الكبرى، 8/251 (16556)
- صحيح البخاري، مناقب الأنصار، 1، 27
- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 3/334، 335
- لبيهقي، دلائل النبوة، 2/506.
- سنن الترمذي، السير، 29؛ أحمد بن حنبل، المسند، 33/321 (20145).
- من هذا الجانب يمكننا القول بأريحية: إن العصر المقصود في سورة العصر: “وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” (سورة العصر، 103/1-3) هو ذلك الزمان، والمستثنى في الآية هم هؤلاء الصحابة الذين أغلبهم من الفتية والشباب. ولعلّ الحكمة من وراء نزول هذه السورة بين الصحابة وقراءتهم لها قبل رحيلهم بلا استثناء؛ أنها نزلت لتذكرهم بزمانهم وموضعهم ومهمتهم التي يحملونها!