فتور/فترة الوحي
لقد بدأ الوصال في حراء، ولكنه سرعان ما انقطع بعد ذلك، فقد تجرع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم آلام الفراق بعد ما بدأ يتنسم أنفاس جبريل التي تنفخ الحياة في الأرواح.
فحُبب إليه الخلاء، فكان في طريقه إلى ثبير يتردد كثيرا إلى حراء، ولكن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وكأن الزمان متوقف لا تمر بها ثواني ودقائق.. فقد عاش إلى سنه الأربعين في حيرة من أمره، فما إن وجد بصيص أمل إلا وقد انقطع عنه هذا الوحي.[1]
وكانت هذه الفترة حتى يَذهب عنه صلى الله عليه وسلم ما وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود.[2]
وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم:
“بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الملَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي،” فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر:١- 5). فَحَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ.[3] وكان هذا يعني أنه قد عاد الاتصال بالسماء، والتقى الأمينان مرة أخرى.
فقد نزلت خمس آيات أيضا، ولكن ستتوالى الآيات هذه المرة، وسيعم النور البشريةَ بأنفاس جبريل عليه السلام.. وكان اللافت في هذه المرة أن الآيات كانت تتضمن تحميله صلى الله عليه وسلم مهمة تبليغ الرسالة الإلهية.. فتأمره بأن يقوم فينذر، ويكبر ربه ويطهر ثيابه من الأنجاس ومحيطه من الأوثان الارجاس. مما يعني أن يعيش حياة نقية من الأوساخ المادية والمعنوية.
وقد نزلت الآيات الخمس الأولى من سورة العلق بحراء، وأما باقي السورة فقد نزلت في وقت لاحق، وقد قال بعض العلماء: أول سورة تتعلق بالنبوة هي سورة العلق، وأما سورة المدثر فهي أول سورة تتعلق بالرسالة.
فسورة المدثر جاءت لتُبلور مهمة النبي الخاتم، حيث كان ربه يأمره بأن يأخذ بيد الآخرين ويُسمِعهم ذكره، ويتحدث للناس عن وجود الله ووحدانيته ويركز على ترسيخ عقيدة الإيمان باليوم الآخر حتى تتضح لديهم الحقائقُ الإيمانية بأكملها.
وكان لا بد لإقامة هذه الحقائق من أن يبادر بنشرها أناس نذروا أنفسهم لله، وضحَّوا بملذاتهم، وأوقفوا كيانهم في سبيل صلاح مجتمعاتهم..
ويلاحَظ أنه إلى جانب العمل على التكامل الفردي جاء دور نشر الفضائل في المجتمع أيضا، وإنما يمكن ذلك بالإنذار، لأنه بذلك يتسنى الابتعاد عن الرذائل التي يعافُها كل من له وجدان نظيف، والتحلي بالفضائل التي يتوق لها كل ذي قلب سليم. وكان لا بد أن يكون هناك مرحلة جديدة لإنشاء مجتمع مختلفٍ عن سابقه من كل النواحي، فلذلك جاء الأمر: “قم فأنذر”.
ويا لها من جدية كان يتحلى بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم! حيث إنه لم يخلع لباس الطاعة لهذا الأمر الإلهي إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، بل إنه كان يحمل في جنباته حرارةَ تطبيق هذا الأمر حتى بعد رحيله، حيث عقد اللواء لجيش أسامة حتى لا تتوقف تلك المسيرة المباركة في قابل الأيام.
وكان من الأمور الملفتة للنظر في هذه الآيات هو التأكيد على الصبر، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزال في بداية الطريق، وكان عليه أن يقطع مسافات شاسعة، فالطريق طويل، والغمار عميق، والزاد قليل، فكان لابد من التزود لهذه الرحلة الشاقة بالصبر الذي هو القوة الخارقة.. فإن الصبر هو خير ما تُقاوَم به القوة الغاشمة.. ولا بد من صبر يكون الإنسان به مستعدا منذ البداية للصمود أمام جاذبية المعاصي التي تعترض طريق المسلم عندما يؤدي تكاليفه التي كلفه بها ربه… صبرٍ يعطيه طاقة الثبات أمام جميع هجمات الخصوم وحملاتهم.. مع مواظبة التحرك والمبادرة واستثمار كل دقيقة من الوقت في سبيل رضا الحق سبحانه وتعالى.. أجل، هذا هو الصبر الذي يوصي به القرآن المؤمنَ الذي لا يزال في بداية الطريق.
وبعد مدة ليس بالطويل أنزل الله تعالى على رسوله قوله:)يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ((المائدة: 67)
وكان لا بد لمن يسلك هذا الطريق أن يلاقي الأذى ممن يمتعضون من هذا النور ويريدون أن يطفئوه بأفواههم. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كرهوا. وغاية ما يريد الله من الناس أن يتحلوا بإيمان صامد لا يتزعزع، وحياةٍ تجري على حسب موازين التقوى، بالإضافة إلى التوسل بالأسباب التي يمكن التعبير عنها بـ”العمل الصالح”. ولا يهم بعد ذلك ما ذا يقول الآخرون.
وكان هذا الوحي يضرب الأمثال عن التاريخ البشري، ليُثبت للناس أن هذا الأمر ليس بدعا على الإنسانية، كما أنه كان يذكر كيف كان عاقبة الذين اتخذوا موقفا معاديا للحق، ويسرد أسماء الشخصيات التي كانت شموسا ونجوما في سماء الإنسانية، وما لاقوه من أنواع الأذى والشدائد، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون متأهبين لما يلاقونه.
وكان من المواضيع الرئيسية التي يعالجها الوحي السماوي، قضية البعث بعد الموت والحساب في الآخرة، حتى يأخذ الناس بالحسبان أنهم سيحاسَبون يوما على ما كانوا يفعلونه في الدنيا، فعيشوا حياتهم وفق ذلك، ويعلم المستضعفون أن ما يلاقونهم لن يذهب سدى، وأن عدالة الله لن تتخلى عن المجرمين، وباختصار: حتى تكون هذه العقيدة ترهيبا للظالم وتسلية للمظلوم.
خلاصة الأمر: أن الوحي أخذ يتعاقب، ليكون عنصرا فعالا في إنشاء مجتمع يستهدف العيش في خط يوصله إلى مقام مرضاة الله سبحانه وتعالى.
فكانت المرحلة المكية مرحلة هطول الوحي الإلهي بالمزمل والمدثر وتبت والتكوير والأعلى والليل والفجر… إلى سورة المطففين.. حيث كان ما نزل من القرآن في هذه المرحلة يقرب من نصف القرآن. [4]
هذا وقد فتر الوحي مرة ثانية وقيل مرات ولكنها لم تطل بهذه المدة فقد روى البخاري (4950) ، ومسلم (1797) عن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ – أَوْ ثَلاَثًا – ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ – أَوْ ثَلاَثَةٍ – فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .
وخلاصة
القصة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض ليلتين أو ثلاثا، فلم يقم الليل أي لم يتهجد..
وكان من عادته أن يقرأ القرآن في قيامه وكانت له جارة[5]
تتسمعه، فلما لم تسمعه جاءته متهكمة ومستهزئة فقالت تلك المقولة النكراء، فأحزنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصادف ذلك انقطاع الوحي في تلك الأيام، ربما لأن ربه
لم يُرد له أن يجمع بين وطأة الوحي ووطأة المرض.. فالفترة المذكورة في سبب نزول
“والضحى” غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي فإن الفترة في هذه المرة
لم تدم إلا ليلتين أو ثلاثا، بينما دامت تلك أياما، كما ذكره ابن حجر في الفتح[6].
[1] وقد فتر الوحي بعد ذلك فترة، وقد اختلف في مقدارها فقيل: كانت أياما، روى هذا ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس، وروي أن أقصاها أربعون يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنتان ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ونسب هذا إلى ابن إسحاق، والذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق عدم التحديد بمدة.
يقول محمد أبو شهبة: والذي أرجّحه وأميل إليه هو الأول، وأن أقصاها أربعون يوما، ويليه القول الثاني، وأما القولان الأخيران فإني أستبعدهما، فالفترة إنما كانت ليسترد النبي صلّى الله عليه وسلّم أنفاسه مما حدث له من ضغط جبريل، وما عراه من الهول والفزع لأول لقاء بين بشر وملك، وليحصل للنبي الشوق إلى لقاء جبريل بعد هذه الفترة. أما أن يقضي النبي ثلاث سنين أو سنتين ونصف سنة من عمر الدعوة الإسلامية من غير وحي ودعوة فهذا ما لا تقبله العقول، ولا يدل عليه نقل صحيح، وفي هذه الفترة كان النبي يداوم الذهاب إلى حراء، وإلى ما جاوره من الجبال عسى أن يجد هذا الذي جاءه بحراء حتى وصل جبريل ما انفصم، وعاد الوحي وتتابع. (محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة ١/٢٦٥).
[2] ابن حجر، فتح الباري ١/٢٨.
[3] صحيح البخاري – بدء الوحي 4؛ مسلم، الإيمان باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 161. (المدثر) المتلفف بثيابه. (والرجز فاهجر) الرجز في اللغة الذنب والإثم والعذاب والمراد به هنا الأوثان وسميت رجزا لأنها سببه والهجر الترك والمعنى بالغ واستمر في تركك للأوثان. والآيات أوائل سورة المدثر. (فحمي الوحي وتتابع) كثر نزوله ومجيئه.
[4] و ترتيب السور المكية حسب زمن نزولها كالآتي: اقرأ باسم ربك، ثم ن والقلم (في بعض الروايات) المزمل، فالمدثر، (وفي بعض الروايات أن المدثر نزلت بعد ن) فالمسد، ثم سورة التكوير، ثم سبح (الأعلى)، ثم والليل، ثم الفجر، ثم الضحى] ثم ألم نشرح لك، ثم سورة العصر، العاديات (وبعض الروايات تعكس الترتيب بين العصر والعاديات)، الكوثر، ألهاكم، الماعون، الكافرون، الفيل، الفلق، الناس، الصمد (الإخلاص)، النجم، عبس، القدر الشمس، البروج، التين، قريش، القارعة، القيامة، الهمزة، المرسلات (وبعض الروايات تعكس الترتيب بين المرسلات والقيامة)، ثم ق، البلد، الطارق، القمر، (في بعض الروايات ان القمر نزلت بعد ق)، ثم ص، الأعراف، الجن، يس، الفرقان، الملائكة(فاطر)، مريم، طه، الواقعة، الشعراء، النمل، القصص، الإسراء، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، لقمان، سبأ، الزمر، المؤمن (غافر)، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النحل، نوح، ثم إبراهيم، الأنبياء، المؤمنون، السجدة، الطور، الملك، الحاقة، المعارج، عم، والنازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين.. (انظر: الإتقان ١/٣٨-٣٩؛ القرطبي الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١١٧-١١٨؛ الزهري، تنزيل القرآن ١/٢٣-٢٩)
[5] قيل هي العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان وهي حمالة الحطب زوج أبي لهب. انظر: فتح الباري 1 8/710.
[6] ابن حجر، فتح الباري 8/710