تجليات السيرة النبوية في شعر نجيب فاضل

يعد الشاعر نجيب فاضل الملقب بـ”سلطان الشعراء” الأتراك، من أهم الشعراء الذين جاءوا بعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة. أصدر نجيب فاضل الكثير من الدواوين الشعرية والروايات والمؤلفات التاريخية المشهورة في الأدب التركي الحديث، كما طرح من خلال شعره، العديد من القضايا المهمة التي كانت تؤرق المجتمع التركي بعامة، والإنسان التركي بصفة خاصة، فانجرف إلى عالم السياسة وانتقد بشدة السياسات التي كانت تؤرق هذا المجتمع الذي كان قد انتقل من مرحلة إلى أخرى ومن حالة إلى حالة، وهذا ما نلاحظه في جل شعره.

وقد تعرض نجيب فاضل للسجن والاعتقال أكثر من مرة، بسبب الدفاع عن حريته وحرية المعتقد لدى الإنسان التركي الذي رفض العلمانية في ذلك الوقت. وجابَه “فاضل” الكثير من الآلام والمواجع التي جعلته بطلاً تركيًّا يحب بلاده حبًّا غير محدود، إذ سخّر نصوصه الشعرية دفاعًا عن هذا الحب الذي صمد طويلًا أمام متاعب الحياة.

التكوينات الأولى

ولد الشاعر نجيب فاضل في عام (1904م)، ورُبِيَ تربية مترفة في قصر جده “حلمي أفندي” رئيس محكمة الجنايات والاستئناف في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. فقد عاش طفولته وصباه متقلبًا في أحضان الثراء والنعيم، محاطًا بالرعاية والحنان. كان أبوه فاضل، عصبيًّا متقلب المزاج، حاد الطباع إلى حد بعيد حتى سمّاه أهله “فاضل المجنون”، وسارعوا بتزويجه -وهو ابن ستة عشر عامًا- بفتاة صغيرة في سن الرابعة عشرة، بغرض تهدئة طباعة والحد من عصبيته.

ولما بلغ نجيب فاضل الخامسة من عمره، بدأ جده الحنون عليه، يعلمه القراءة والكتابة ويحفظه القرآن الكريم. وكانت مخايل الذكاء والنجابة واضحة على الصغير نجيب فاضل؛ فما كاد يتم الحادية عشرة حتى قرأ بعض أعمال “فرجيل” و”غادة الكامليا” و”نجدت البائس”، وفي سن السابعة أدخله جده مدرسة فرنسية لكنه نفر منها، فألحقه بمدرسة حكومية فنفر منها أيضًا، فألحقه بمدرسة أخرى حصل فيها تعليمه الابتدائي.
وعندما كان يدرس “فاضل” في المدرسة البحرية، أهدى له أستاذه “إبراهيم عشقي” هدية نفيسة شكلت أساسًا قويًّا في تكوينه فيما بعد. كانت الهدية عبارة عن كتابين الأول بعنوان “ثمرات الفؤاد” لـ”صاري عبد الله أفندي”، والثاني “ديوان نقشي”، وهما كتابان من كتب التصوف الإسلامي الذي ارتوت منه روح نجيب فاضل بعد تحوله إلى التدين. وفي تلك المرحلة تأَتّى له الاطلاع على الأدب التركي قديمه وحديثه، وحتى وقت تخرجه من الجامعة بدت ثقافة نجيب فاضل في معظمها ثقافة دينية، ثم مزجها في مرحلة الدراسة الجامعية ببعض رواد الفكر والفلسفة في الأدب الغربي. فكان له مزيج متنافر من الثقافة الدينية التقليدية التي تشكل حجر الأساس في حياة الأتراك منذ دخولهم الإسلام، ومن الثقافة الغربية العلمانية التي حسمت الصراع لصالحها في تركيا في بداية القرن العشرين، ليجدها الفتى في سنوات تكوينه ووعيه، هي الثقافة الرائجة في كل مؤسسات الدولة.

وقد حدث التحول الرئيسي في حياة نجيب فاضل في عام (1934م) عندما التقى بــ”السيد عبد الحكيم الأرواسي” وهو من شيوخ الطريقة النقشبندية. وقد تجلى ذلك في قول نجيب فاضل نفسه عن هذه المرحلة: “ما إن دخلتُ على شيخي ومولاي السيد عبد الحكيم الأرواسي، أحسست شيئًا يهزني ويهز أعماقي بقوة، وعندما سمعته مليًّا، تغيرت حياتي كلها. لقد مسح الشيخ عن قلبي كل الأدران والحجُب التي غطت عليه”.
ومن ثم فقد فتن سلطان الشعراء الأتراك نجيب فاضل بالمتصوفة وخصص لهم كتابًا بعنوان “شهداء الإسلام في العصر الحديث” وهم أقطاب المتصوفة في ذلك الوقت، الذين ضحوا بأنفسهم من أجل النور الإلهي، فراح يخلدهم في هذا الكتاب؛ أمثال الشيخ بديع الزمان “سعيد النورسي”، والشيخ العارف بالله “عبد الحكيم الأرواسي”، والشيخ “أسعد أفندي” وغيرهم.

وتميزت كتابات نجيب فاضل، بالتنوع والاختلاف والجمع بين عبق التراث العربي -شعره ونثره- وحداثة الواقع المعاصر، رغبة في تغيير الواقع ودفاعًا عن حرية الشعب التركي من أجل معتقداته وعاداته وتقاليده. ورحل نجيب فاضل عام (1983م) إلى الرفيق الأعلى، رحل جسده، ولكن لم ولن ترحل عباراته الرصينة التي يرددها الإنسان المعاصر البسيط في تركيا، بل من المدهش أنني رأيت البسطاء يعلقون صورة نجيب فاضل في المحال التجارية والمقاهي والفنادق والجامعات التركية تعبيرًا عن حبهم العميق له. ولم يكن الاحتفاء به وحده، إنما احتفى الأتراك أيضًا بالشاعر “محمد عاكف أَرْصُوْيْ” الذي عاش في القاهرة أكثر من ثلاث عشرة سنة، والذي كتب النشيد الوطني الذي يردده الأتراك كبارًا وصغارًا إلى اليوم.

السيرة النبوية الشعرية

تعد السيرة الشعرية، تقنية من التقنيات التي احتفى بها الشعر التركي المعاصر. وهذه الظاهرة لم تقتصر على الشعر التركي فحسب، بل سبقه الشعر العربي القديم. وأظن أن الشعراء الأتراك تأثروا بالشعر العربي تأثرًا واضحًا في هذا الجانب. ويمكن القول إن السيرة الشعرية هي مجموعة من الأحداث المتعلقة إما بشخصية من الشخصيات المرتبطة بذات الشاعر -ولها أثرها الواضح عليه- وإما بذات الشاعر وما ارتبط بها من أحداث وتغيرات وتقلبات، بحيث يكون لهذه الأحداث تأثير في الحياة التي تعيشها الذات الشاعرة أو تركت أثرًا واسعًا في نفسها.

كان الشاعر التركي نجيب فاضل من الشعراء الذين فتنوا بالسيرة الشعرية، وقد تجلى ذلك من خلال ديوانه المهم الذي جاء بعنوان: ديوان السلام “لوحات من السيرة المقدسة”. فقد صدرت الطبعة الأولى من ديوان السلام في عام (1972م)، وصدرت الطبعة الثانية عام (1982م)، حيث يتكون الديوان من ثلاث وستين قصيدة شعرية، تحدث في كل قصيدة عن شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، معتمدًا على حياته وسيرته العطرة من خلال منحى عرفاني يربط العاشق بالمعشوق أو الشيخ بالمريد، ونلاحظ ذلك في مجمل قصائد هذا الديوان. ومن هذه القصائد التي ارتبطت بملامح السيرة الشريفة للنبي صلى الله عليه وسلم قصيدة بعنوان “الزمان”، يقول الشاعر نجيب فاضل فيها:

حتى ذلك اليوم كان الزمان
بكرة ملفوفة
ثم فُكّتْ خيوطها،
النجوم في السماء سكرى
والأرض أغطش ليلها
غريبة ظلالها
الزمان بندول كله أسرار
متناقض الأطوار
حلزون لا أول له ولا آخر.
سيف هو أو مقص
قطع اليوم في لحظة
كل شيء في ذلك اليوم له أول وآخر
في ذلك اليوم الأصنام تحطمت
والبحيرات غارت
وفي كل شيء ظهرت علامات
كل الموجودات هلكت
والقفار على الماء تحسرت
والكائناتُ كلها انتظرت
شيء ما سيكون ما كنهه؟
الأرض ترسل الدعاء إشارة للسماء
بيت ما في مكة
أجل إنه الغاية
غاية الغايات.

يبدو المشهد الشعري السابق، من المشاهد الوجودية التي تحتفي بفكرة الوجود الإنساني داخل الحياة الأرضية، ومن ثم يطرح النص الشعري مجموعة من الأفكار الفلسفية العميقة والأسئلة التي تبوح بها الذات الشاعرة للملكوت المطلق الذي لا إجابة بشرية فيه، كما تسيطر الروح البائسة والذات المتناقضة على سطح النص الشعري، وكأننا أمام حوادث هُلامية ستحدث في هذا العالم الأرضي البائس. وتلكم الغاية والهدف من هذا التوحد في البشارة الأخيرة، وهي أن الشاعر نجيب فاضل، يستدعي لحظة ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبل هذه اللحظة كان الزمان مشوشًا والحياة قاسية والمكان ظلامًا وظلمًا وقهرًا وعبودية، وعندما أتى النبي إلى الدنيا، تغير حال الناس وحدثت المعجزات الكبرى، وأخذت الأرض ترسل الدعاء إلى السماء شكرًا لله واعترافًا بفضله وقوته وعظمته.

وتعتمد القراءة الثقافية في شعر نجيب فاضل على تلك الرؤية التي نسجها عن تراثنا العربي، وكيف كانت الحياة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، تلك النظرة التي اختلطت بها مشاعر الذات، وحاولت الاحتماء بما هو أكبر وأعظم من الذات الضعيفة التي يسطر عليها الحزن والقهر.
وفي قصيدة بعنوان “الميلاد”، يستطرد الشاعر التركي نجيب فاضل لحظة الميلاد التي جاء فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى البشرية وكأنه نور نزل من السماء إلى الأرض، فيقول

آمنة، أرملة عبد الله المحزونة
بلغت لحظة المخاض المنتظرة
تقول: لم أشعر لحظة بألم
وسمعت صوتًا يتكلم:
ما أسعدك يا آمنة!
فأنت حبلى بنور الوجود
وبُسِطَ من خلفي جناح أبيض
وسقيت شرابًا كأنه من جنة الخلد
ومسح عن قلبي الخوف والأواء
كأنه صبّ السماء في إناء،
وسلط فوق رأسي ذكاء
فعمّ الوجود الضياء
وهطل مطر النور
فالبعيد قريب
ولاحت لي بلاد الشرق المهيب
سواري إيران ومن الروم قبابها
ها أنذا بيدي أتحسسها
تحوطني حور حسان
ما رأت مثلهن عينان
تحملن أحْواضًا وأباريق عجيبة
أنفاسهن رقيقة رطيبة
وصوت صداه يذيب
الجبل والحجر
يقول: ودعوا العدم أيها البشر
جاء سبب الوجود رحمة للعالمين
ولد محمد آخر المرسلين
ولد يتيمي، صحيحة هي الأنباء
فرفعت سبابتها نحو السماء.

يعتمد النص الشعري السابق، على استدعاء شخصية السيدة آمنة بنت وهب والدة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما يستدعي النص نفسه حدثًا مهمًّا وهو الإشارة بمجيء سيد المرسلين. وهذا لا يخلو من دلالةٍ مفادها، أن الشاعر نجيب فاضل التحم التحامًا قويًّا بالثقافة العربية الرصينة وبتراثها العريق الذي حفظه الأسلاف والأجداد، وعلى الرغم من اختلاف اللسان التركي، إلا أن الشاعر حاول الكتابة عن نصّ عربي ليقدم صورة مهمة عن ثقافة العرب وحضارتهم الواسعة بعد انتشار الإسلام. ومن الملاحظ أيضًا أن النص اشتمل على الكثير من الإشارات النصية أو التناصية المتعددة داخله، وذلك من خلال التناص القرآني. فهو يعتمد على روح الثقافة العربية -وهو القرآن الكريم- ونلاحظ ذلك في بعض الإشارات القرآنية التناصية مثل؛ “تحملن أحواض وأباريق عجيبة، أنفاسهن رقيقة رطيبة، جاء سبب الوجود، رحمة للعالمين، ولد محمد آخر المرسلين”. إن جل هذه الإشارات، يجعل النص الشعري أكثر انفتاحًا على الآخر موظفًا للتراث الإنساني الواسع.
ويقول الشاعر نجيب فاضل في قصيدة بعنوان “النور”.

هو نور مطلق منذ القدم
كان له وجود والدنيا عدم
ضرع آدم إلى الله لما غوى
أن يغفر له بحق نور المصطفى
في جبين آدم نور مبين
انتقل من بعده لأحد المرسلين
وتجلت آيته بلا نقاب
لا يحجبها حرف أو ظرف أو حجاب
ثم انتقل النور الإلهي وسرى
لست أدري ممن؟
لمن بين الورى؟
من إبراهيم وإسماعيل
وغيرهما ممن اجتبى
وظل ذلك النور كاللواء
الذي ينتظره منذ الأزل
ذاك النور سر يفوق الضياء
أظهر الموجودات في جلاء
بدونه الناس صمّ وعميان
وخراب ويباب كل البلدان
النبي الخاتم النبي الخاتم
جاء الآخر وهو الأقدم
خرج منه النور وإليه عاد
فأشرقت به الوهاد والنجاد.

إن الحديث عن النور السماوي الذي انبثق من السماء إلى الأرض من الأحاديث التي خلبت العقل البشري، وجعلت العقل الجمعي في حيرة من أمره وظل يطرح أسئلة لا إجابة لها في العالم الأرضي بيننا، ومن ثم فقد جاء الحديث عن النور الإلهي في هذا النص مرتبطًا بالحديث عن النور البشري المتجسد في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو نور من عند الله، فيه صفات البشرية، كما حدثنا القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا عن خَلْقِ النبي محمد وخلُقِه، تعتمد الذات الشاعرة على طرح قضية النور وماهية هذا النور من خلال إثارة الأسئلة الغامضة المسكوت عنها في تراثنا العربي بصفة عامة. ويعد النور رمزًا مهمًّا لدى المتصوفة، ومنهم نجيب فاضل الذي اتحد واستمسك بهذا النور، لأنه بمثابة الملاذ الحقيقي لحرية الذات من براثن الجهل والضياع، ودفاعًا عن حقوق الإنسانية بصفة عامة. ولهذا فإن الشاعر نجيب فاضل يعدّ من أهم الشعراء المتصوفة أيضًا في الأدب التركي الحديث، ولا تخلو دراسة عن الشعر التركي من نصوصه. ومن ثم فقد كان لزامًا علينا -نحن العرب- أن نتطلع إلى آفاق أخرى في ظل حوار الحضارات والثقافات المتعددة التي تؤدي فيما بعد إلى حوار الشعوب من خلال الشعر والفن، ومن ثم أدعو شباب الباحثين من العالم العربي والإسلامي للاهتمام بالأدبين التركي والفارسي لما لهما من أثر كبير في منطقة الشرق الأوسط.

كاتب المقال: أحمد المراغي

منقول من مجلة حراء

قد يعجبك ايضا