المنهج النبوي في صلة القرابة
بقلم: يوجَل مان
تتعدد أشكال الروابط التي تربط بين أفراد المجتمع، فالمنتسبون إلى لغة ودين وثقافة وجغرافية واحدة تتولّد بينهم روابط تاريخية ومشاعر وأفكار ومُثل مشتركة، لكن روابط القرابة التي تتشكل بالنسل والنكاح والرضاع تأتي على رأس العوامل المؤثرة منذ القِدم إلى اليوم في الفرد والمجتمع سواء بشكل سلبي أو إيجابي.
إن العلاقات والمعاملات بين الأقرباء ترتبط ارتباطًا وثيق الصلة بإنشاء مجتمع ونسل صحيح سليم، إذ إن أوّل محيطٍ يراه المرء عندما يفتح عيناه على الدنيا هو محيط أقربائه، فتتشكل شخصيته وتتكوّن هويته بنسبة كبيرة من الأخلاقيات وطرز الحياة السائدة في هذا المحيط، كذلك النزاعات والصراعات المعاشة بين الأقرباء والظلمُ والمحاباة والتمييز الذي قد يقع في مواضع مختلفة يهدّد استقرار المجتمع من الأعماق، ويؤثّر على أساس العدالة والحقوق والإخلاص الذي يفرضه العيش معًا في كنف مجتمع واحد.
نجد القرآن الكريم يولي اهتمامًا كبيرًا للروابط والأخلاق والعلاقات والمعاملات بين الأقرباء، فهو يقدم عن طريق الآيات القرآنية وبنماذج من تاريخ التوحيد والنبوة أمورًا يجب الانتباه إليها في هذا الشأن، فيلفت الانتباه إلى الامتحانات والاختبارات التي عاشها قابيل وهابيل أبناء آدم، وزوجة نوح وأبناؤه، وزوجة لوط، وأبو إبراهيم، وإخوة يوسف عليهم السلام.. فنجد في هذه المواضع الأوامرَ والنواهي والنصائح.
يشتمل القرآن الكريم والسنّة الشريفة على عمق واتساق يحل جميع المشكلات المتعلقة بهذا الخصوص، وعلى الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم نشأ في مجتمع يقوم على بعض الأسس الخاطئة إلا أنه مجتمع يتبنى صلات القرابة ويهتم بها، لقد علم صلى الله عليه وسلم أهمية صلة القرابة وعايش ذلك بنفسه خاصة بعد وفاة أمه مما رآه من كفالة جده وعمه له، فما قالته في حقّه زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها منذ أول يوم نزل فيه الوحي؛ وما قاله في حقّه ألدُّ أعدائه أمثال “النضر بن الحارث”، لهو في موضع يستحق التقدير.
لقد انتقلت علاقة رسول الله ومعاملتُه بأقربائه إلى بعد جديد مختلف بعد تحمله على عاتقه مسؤولية الرسالة، إذ إنه أصبح ممثّلًا ومرشدًا لحضارة جديدة ورسالة عالمية، فمن الطبيعي أن تكون كل خطوة يخطوها وكل فعل يقوم به بمثابة نموذجٍ ومثالٍ يحتذى به؛ لذا نراه يتوخى الحذر في كل خطوة يخطوها في هذا الصدد وذلك للحيلولة دون الفهم الخاطئ والتفسير السلبي، فبينما هو في امتحان مع أقربائه من ناحية، نجده يقضي على المساوئ المعاشة باسم صلة القرابة من ناحية أخرى؛ فهو يحمل إلى الحياة المعاشة بالتبليغ والإرشاد الخطَّ والمنهجَ الأمثل الذي يجب التمسك به والسير عليه في كل شأن.
الإرشاد والتبليغ
لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة بأقربائه من أجل الأخذ بأيديهم وتوجيه قلوبهم للحق تعالى، وتوصيلهم إلى برِّ الأمان، فكان الأوائل الذين قبلوا رسالته في أول الأمر عندما كانت الدعوة فرادى هم أهل بيته.. ثم ما لبث أن نزل البيان القرآني آمرًا: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/214)، ليتوجه للدعوة إلى التوحيد والأخلاق والعدل والرضا بشكل أوسع، وبناء عليه قام صلى الله عليه وسلم بدعوة أهله، وأقام لهم وليمة لمدة ثلاثة أيام؛ ليحذرهم عاقبة طريق الضلال، وذلك قبل الانفتاح على القبائل الأخرى.
وفي النتيجة انقسم أقرباء رسول الله إلى ثلاث جماعات: جماعة آمنوا به ونصروه في كل الأمور أمثال السيدة خديجة وسيدنا علي وسيدنا جعفر وسيدنا حمزة والسيدة صفية رضي الله عنهم أجمعين؛ وجماعة أنكروا دعوته وتوجهوا إليه بشتى أنواع الإساءة أمثال أبي لهب وعتبة وعتيبة وأبي سفيان بن الحارث؛ وجماعة يدعمونه وينصرونه دائمًا مع أنهم لم يؤمنوا به أمثال أبي طالب أو يخفون إيمانهم أمثال سيدنا العباس رضي الله عنه.
لقد كان صلى الله عليه وسلم عونًا وسندًا لأقربائه من المسلمين في وجه ظلم قريش وبغيهم، ويوفر لهم الخيارات عندما يضيق بهم الأمر وتنقطع بهم السبل.. لقد أنذر المتمردين والمعلنين رفضهم نبوته بسبب أهوائهم المختلفة والمخاوف التي تحيط بهم؛ لكنه لم يقطع صلته بهم قطّ، بل يتحرى دائمًا السبل لفتح قلوبهم، فهو يرى أن الواصل الحقيقي للرحم هو: “الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا“[1].
لم تذهب مجهودات رسول الله هذه سدى على المدى القريب والبعيد، فقد قامت الغالبية العظمى من أقربائه بمساعدته سرًّا وعلانية رغم الضغوطات والتهديدات والمخاطر الشديدة بما فيها المقاطعة، وبمجرد فتح مكَّة لم يبق من أقربائه أحد لم يعتنق الإسلام.
صلة الرحم
لم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلته بأحد من أقربائه قريبًا كان أو بعيدًا.. وعلى سبيل المثال لم ينسَ طوال حياته “ثويبة الأسلمية” وهي جارية سوداء أرضعَتْه عدة مرات عند مولده، فكان على صلة دائمة بها، ويقدم لها ما تحتاج، فهو يرى أنه: “لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ“[2]، فلا بد من أن تستمر صلة القرابة ولو على المستوى الإنساني وإن كان مشركًا.
نراه كذلك يواصل حواره مع عمه أبي لهب رغم كل ما فعل به.. فلما كان يوم الفتح وبلغه هروبُ أبناء أبي لهب، أرسل في طلبهم وأخذهم في كنفه ورعايته، كان يحرص دائمًا على زيارة أقربائه، ويسكب عبراته على من مات منهم، ويرعى اليتامى الذين تركوهم من خلفهم، ويقدم لهم الهدايا، والمساعدات المادية ويحرص على بهجتهم وإرضائهم.
التضحية بالنفس
وعلى الصعيد الآخر فإذا حان وقت التضحية في سبيل الدعوة أو الأمة أو الجيش فإن أول مَن يقدّمهم النبي صلى الله عليه وسلم على الخطوط الأمامية في الجبهة هم أقرباؤه.. ففي مرحلة الهجرة كان آخر من خرج من مكَّة هم أقرباؤه.. ونجد سيدنا عليًّا رضي الله عنه الذي تربى على يديه وفي بيته ينام في فراشه ليضحي بنفسه ويعرّضها لاحتمالية القتل فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ينام مكانه حتى لا يلحظَ الكفار عدم وجوده وأن يكسب الوقت اللازم للابتعاد عن مكة.. وفي موقعة “بدر” نجد ثلاثة من أقوياء مشركي مكة يطلبون مبارزة ثلاثة من المسلمين كما هي العادة قي ذلك الوقت، قال رسول الله: “قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عُبَيْدَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ” وكأنه يقدم أقرباءَه للموت.. فكما نراه يختار أن يعيش نبيًّا عبدًا[3] نراه كذلك يوجه أقرب أقربائه للعيش على نفس الشاكلة، وذلك للحيلولة دون ظهور أية إشارة استفهام في أذهان طبقات الناس المختلفة وفئات المجتمع المتنوّعة إزاء إدارته وعدالته[4].
حلُّ المشكلات المجتمعية
وعلى الرغم من أن ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وطبقه عمليًّا من مكارم الأخلاق لا يخالف أعراف وتقاليد العرب في الجاهلية فقد اتّخذت القبائل العربية إزاءه صلى الله عليه وسلم موقفًا عدائيًّا، لقد أراد صلى الله عليه وسلّم أن يُزيل التطبيقات والأفعال الخاطئة والباطلة والتي اعتبروها صحيحة ومفيدة لعدة قرون، فكان المشركون الذين يريدون إفساد الأمر يوجّهون نقدَهم اللاذع لأولئك الذين يتحقّق عليهم هذا الإصلاح، كانوايستخدمون قوة الكلمة ويفضحون من يضطلع بهذا، لذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزالة التطبيقات والأفعال الباطلة والخاطئة من أقربائه بداية، وجعلَهم قدوة ونموذجًا للجميع، على سبيل المثال عادة التبني وهي من التطبيقات التي تطورت واستقرت في باطن الثقافة العربية؛ فقد أزال صلى الله عليه وسلم التبني مطبِّقًا هذا على “زيد بن حارثة” الذي تبناه صلى الله عليه وسلم وعلى ابنة عمته، فقام بتزويج ابنة عمته “زينب العربية، الأصيلة، البيضاء” بـ”زيد الحبشي العبد المعتوق الأسود”.. وهكذا بيَّن للجميع وبشكل فعلي أن هذه الفروق ليست حائلًا لتكوين عائلة، إلا أن الألسنة قد عملت عملها وتناولت ذلك بالنقد، ولما افترقا، تزوج رسول الله من زينب رضي الله عنها، وبذلك قد قضى على الأفكار الفاسدة التي تدور حول فكرة التبني.
الإنفاق والمساعدة المالية
ليست هناك امتيازات للنبي ولا لأهله في الدين.. فبينما تجوز الزكاة والصدقة لعامة المسلمين فهي محرمة على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن عندما ينفق رسول الله من ماله الشخصي، كان يقدم ذوي الحاجة من أقربائه.. حيث يأمر القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/90)، فهو يوضح أنه لمن الصواب أن يبدأ الإنسان بأقرب الأقربين إليه عندما ينفق من ماله الخاص[5]، لكنه عند توزيع أنواع الدخل المختلف من مال الدولة إلى المحتاجين، فقد قدم الآخرين وأخرج أهله من القائمة، حتى إذا ما طلب منه أحد أقربائه حاجة وجَّه أنظاره إلى الآخرة، فذات يوم أتت السيدة فاطمة ابنة رسول الله تشكو إليه ما تلقى في يدها من أثر الرحى، وما يجد زوجها علي رضي الله عنه صهر رسول الله وابن عمه من ألم في صدره من أثر إخراج الماء من البئر، فسألته خادمًا لها من الأسرى، فأخبرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَاللهِ لَا أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ، لَا أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ“[6]، ولكنه في النهاية أوصاهما -وهما أقرب الأقربين إليه- بالذكر والتسبيح.
عرض المسائل وتوضيحُها
يوضح رسول الله ويعرض على الأذهان أهمية وجدِّية الموضوعات التي تظهر في المجتمع بالأمثلة والنماذج، على سبيل المثال إذا كان الأمر يتعلق بالذنوب والحدود والمحرمات كان يعطي الأمثلة على أقرب الأقربين إليه، حيث كان يُذكر الإثم مع الاسم كي لا يقع أحد في مثل هذا الموقف.
ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذُكر في قصة امرأة بني مخزوم وهي “فاطمة بنت الأسود” التي سرقت يوم فتح مكة، وكانت من أشراف قومها، فأرسلت قريش أسامة بن زيد ليشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسامة عندئذٍ ابن السادسة عشرة فاحمرّ وجهُ نبيّ العدل صلى الله عليه وسلم من هذا الطلب.. لأنه لا يؤمن بالمحسوبية ولا التفرقة ولا الاستثناءات.
وفي المساء قام رسول الله في الناس؛ إذ إن حادثة فاطمة بنت الأسود تكشف اللثام عن أفكار خاطئة وخطرة يجب إصلاحها في العقول من أجل العدل وإحقاق الحق.. فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال هذه الحقيقة الواضحة التي يجب ألا تغيب عن الأذهان: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا“[7].
العدل
لم يُظهر رسولُ الله في أي وقت كان أيَّ تمييز أو استثناء لأقربائه، بالعكس كان يوجّههم دائمًا إلى إعطاء إرادتهم حقّها، لأن صلة القرابة بنبي مرسل كما أن لها مكاسب فإن مخاطرها أكبر وأعظم، على سبيل المثال نجد القرآن الكريم يبيِّن أن زوجات النبي لو أتين على سبيل الفرَض بمعصية يُضاعف لهن العذاب ضعفين في الدنيا، والوضع نفسه بالنسبة للآخرة أيضًا، فيجب على زوجاته -كما هو حال الجميع- أن يشترين أنفسهن من الله تعالى.
نرى المشركين الذين يتحيّنون كل الفرص من أجل القضاء على المسلمين قد خرجوا في بدر أمام رسول الله الذي خرج من أجل استعادة أموال وحقوق المسلمين المغصوبة، وفي نهاية المعركة فرَّ المشركون وتركوا خلفهم سبعين من القتلى ومثلهم من الأسرى.. وكان العباس عم رسول الله من بين الأسرى وكان قد أُكره على الانضمام إلى صفوف الكفار، وكان يتضور لشدة إحكام الوثاق عليه ويئنّ لدرجة يسمعها رسول الله.. فلما علم الصحابة بتألم رسول الله لأنين عمه قام رجل إلى العباس فخفف وثاقه.
فلما بلغ رسولَ الله الأمرُ وهو الموكل بإحياء العدل، قال: “افْعَلْ ذَلِكَ بِالْأُسَارَى كُلِّهِمْ“[8]، فقد ينشأ عن هذه المعاملة في أذهان الجنود الذين لهم أقرباء بين الأسرى شيء من المحاباة أو التمييز، إلا أنه من المحال أن تجد لدى رسول الله في أسلوبه وتطبيقاته شيئًا من هذا القبيل.
نرى كذلك العدل يبرز في موقف رسول الله مع عمه العباس بعد فتح مكَّة، لما دنا العباس من رسول الله وطلب منه مفاتيح الكعبة والتي هي في طبيعتها مع آل عثمان بن طلحة.. إذ إن خدمة الكعبة لها قيمة رفيعة عند الحق تعالى ومكانة عظيمة بين الناس.. لكن رسول الله رفض طلبه هذا، وسلم المفاتيح إلى عثمان بن طلحة ثانيةً.. فالأمر حتى لو كان يتعلق بخدمة الكعبة فإن الأساس فيه هو العدل وليس القرابة[9].
فكما أنه صلى الله عليه وسلم لم يحابِ أو يجامل أحدًا من أقربائه، فإنه لم يسمح لأحد من أقربائه أن يفعل ذلك معه أيضًا.. لقد كانت سقاية الحجيج والمعتمرين في يد العباس رضي الله عنه، وفي حجة الوداع انتهى رسول الله من الطواف وجاء إلى السقاية، فقال: “اسْقُونِي“، فأرسل العباس ابنه الفضل ليأتيَ إليه بسقاء من البيت قائلًا: “إن هذا يخوضه الناس، ولكنا نأتيك به من البيت”؛ لأن السقاء مفتوح للجميع ينهل منه الناس بأكوابهم وبأيديهم، ويريد أن يقدم لرسول الله كوبًا لم تطله يد.. فرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب أن يشرب من السقاء، قائلًا: “لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، اسْقُونِي مِمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ“[10].
الإجراء الأول
كانت القوة والأهواء والنفس هي المسيطرة والسائدة في المجتمع الذي نشأ فيه صلى الله عليه وسلم، فحصلت عدَّة تطبيقات ومعاملات خاطئة ومجحفة قد اعتادوها تهمّ حياة الفرد والمجتمع وكانت تحفزها وتغذيها تلك الصفات.. ومع أول نفحات الوحي بدأ صلى الله عليه وسلم في إنشاء القدوة والبنية القوية النموذجية.. وبينما يزيل المشكلات من محيطه يأخذ في الاعتبار الحقائق الاجتماعية ويتحرك تدريجيًّا.. فكان هو في الصدارة وأقرباؤه في واجهة العرض من خلفه.. وكان أوّل إجراء له في تصحيح الأخطاء يطبقه على أهله.. وفي هذا الصدد كان أول ربا يمنعه هو ربا عمه العباس، وأوّل دم وضعه هو دم ابن عمه الحارث.
النتيجة
لقد كان المنهج الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلته بأقربائه، والسلوك الذي عرضه أمام الجميع في معاملتهم قد شكَّل وسيلة للدخول في قلوبهم، وأن ينالوا موقعًا متزنًا داخل المجتمع الإسلامي، وأن يتشكل لديهم الخُلق الذي سيحتذي به من يريدون أن يحرزوا وأن يعيشوا أكثر الأمور نموذجًا في هذا الصدد، ورغم ما رآه من شدَّة وإعراض منهم لم يقطع اتصاله بهم، بل واصل علاقته معهم بأكثر الأشكال صميمية وحميمية، فكان يتحرك بشكل عادل وواضح متزن؛ بحيث لا يدع مجالًا أبدًا للفهم والتفسير الخاطئ في أي تصرف كان، بالعكس إن معظم المسائل التي كان سيواجهها عند مخاطبة الناس للمرة الأولى قد طبّقَها على أقربائه أولًا.. وبينما يمد يد العون للعاجز والمبتلى، لم يمدُدْ يده على مال العامة ولو بمقدار إبرة، ولكنه كان يحسن إليهم دائمًا من إمكاناته الشخصية، إنه كان يطبق ما قاله وما سيقوله في البداية على نفسه وأقربائه بصفته المرشد والدليل.
وفي النهاية يمكننا القول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع بمشاعره وأفكاره وسلوكياته وموقفه مثالًا ونموذجًا يحمي حيويةَ وصيرورة صلة القرابة والرحم في كل وقتٍ وحين.
[1] صحيح البخاري، الأدب، 15؛ سنن أبي داود، الزكاة، 45.
[2] صحيح البخاري، الأدب، 11؛ صحيح مسلم، البر والصلة، 19.
[3] صحيح البخاري، الرقاق، 17؛ سنن أبي داود، الترجل، 21.
[4] ابن أبي عاصم: كتاب الزهد، 14؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 6/141؛ البيهقي: شعب الإيمان، 2/173.
[5] انظر: سنن أبي داود، الأدب، 119-120؛ سنن الترمذي، البر والصلة، 1.
[6] أحمد ابن حنبل، المسند، 2/203 (838).
[7] صحيح البخاري، الحدود، 11، 12، 14؛ الشهادات، 8؛ الأنبياء، 50؛ فضائل الصحابة، 18؛ المغازي، 52؛ صحيح مسلم، الحدود، 8/1688؛ سنن الترمذي، الحدود، 9/1430؛ سنن أبي داود، الحدود، 4/4373، 4374؛ سنن النسائي، السارق، 5/8، 74، 75.
[8] ابن سعد: الطبقات، 4/12.
[9] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1/516-517.
[10] صحيح البخاري، الحج، 75؛ مسند الإمام أحمد، 3/341 (1841).