المشهد العام في العالم والجزيرة العربية في مرحلة ما قبل الرسالة
لقد كان العالم في تلك الفترة عبارة عن قطبين رئيسيين هما: الروم/البيزنطة وفارس. وبينما كان معظم البيزنطيين يدينون بالنصرانية، كان الفرس يدينون بعبادة النار (المجوسية).. ولم تزل الحروب والنزاعات تشب بين فينة وأخرى بين هاتين القوتين العظيمتين. وكانت هناك دولتان أصغر من هاتين الدولتين العظيمتين هما: اليونان والهند.
وكانت الإمبراطورية الفارسية تعاني من اضطرابات وانقسامات داخلية جراء النزاع بين المجموعات داخل الإمبراطورية، كما أن الفساد الأخلاقي كان ينخر بنيتها الاجتماعية.. وكانت البنية الداخلية تتشكل من زرداشت ومزدكية، إلا أن الزرداشت كان لها أكبر التأثير في مفاصل الدولة.. ومع أنه كان بين هاتين الدولتين نوع اختلاف من الناحية الإدارية، إلا أن القاسم المشترك بينهما هو أن كليهما كان يعاني من انهيار أخلاقي واضح. وكانت المرأة محتقرة إلى درجة أن الناس كانوا يعتبرونها سلعة مشتركة بين الناس يستعملونها في حياتهم اليومية. وكان السائد في معتقد المزدكية بالأخص أنه ليس للمرأة ملكية خاصة، ولا حياة أو مَحرمية خاصة بها..[1]
وأما البيزنطيون (الروم) فكان محركهُم ودافعهم الوحيد هو استخدام القوة الغاشمة، والاستيلاء على كل بلدة يلاقونها.. وعلى الرغم من أن النصرانية كانت هي العقيدة الغالبة على الناس، إلا أن الساحة العامة ما كانت تخلو من خلافات، وكانت البلاد مسرحا للصراعات الناشبة بين المذاهب النصرانية نفسِها.
وأما اليونان فكان تأثير الفلسفة فيها بارزة حيث حلت الخلافات الفكرية محل استخدام القوة المادية، إلا أن هوة الخلافات بين علمائهم وفلاسفتهم كانت سحيقة، وكان الناس في المجالس العلمية يخوضون نقاشات فلسفية لا تسمن ولا تغني من جوع، ويتحمس كل فريق لمذهبه بحرارة عالية ومجادلة حامية.
وأما الهنود فقد اتفق المؤرخون على أنهم كانوا يعيشون انهيارا بكل معنى الكلمة، ولم يبق للحياة الدينية أثر في المجتمع، كما أن الأخلاق كانت في انهيار كامل، وكانت الحياة المجتمعية تلفظ أنفاسها في براثن الأزمات.[2]
وباختصار، كانت هذه الفترة من أحلك الفترات التي عاشتها الإنسانية.
صحيح أن بعض آحاد الناس كانوا يملكون إمكانيات ووسائل للرفاهية والسعادة، إلا أنه إذا لم يملك الإنسان قلبا وعقلا يخولان له استخدام إمكانياته واستثمارَها فلن تجدي له نفعا، بل قد تعودان له بالضرر وتتيحان له الوسائل في التدمير والتخريب.
وكانت منطقة الجزيرة العربية هي أيضا قد أخذت نصيبها من هذا الفساد العام؛ حيث كانت القوة الغاشمة هي التي تحكم مجتمعاتها، وكان الناس يستأثرون بما يملكون ولا يتقاسمونها إلا مع من يوالونهم، ولا يأبهون بالفقراء والضعفاء والمحرومين.. وقد تَرك الحقُّ والعدل مكانهما للقوة الغاشمة، وكان الأقوياء هم الذين يملكون الكلمة الفاصلة..
وكان المجتمع منقسما إلى طبقات، وكانت العلاقة بين الطبقات منحصرة في علاقة الخادم بالمخدوم، وأما حال العبيد والأرقاء فحدِّث عنها ولا حرج.
وقد كانت الكعبة من لدن أبينا آدم محطَّ رحال الأنبياء، إلا أن أنها أصبحت في نهاية المطاف مُحاطة ومشحونة بالأصنام.. وقد كان من المفترض أن تكون هذه البقعة أرقى مكان يتقرب فيه الإنسان إلى الله، إلا أن الناس لم يُقصِّروا جهدا في أن يجعلوها مكانا يَبتعد فيها الناس عن الله.. وقد بدلوا عبادة الحج ومناسكه التي كان الناس يؤدونها من لدن إبراهيم عليه السلام، وجعلوا الناس يطوفون بالبيت عرايا[3] وهم يصفقون ويطلقون الصفير.[4]
وكانت المرأة مَهينة يحتقرها الناس، فمن رُزق ببنت فإنه كان يَعتبره عارا يحمله على جبينه مدى الحياة. ومن كان لا يطيق حمل ذلك، يلجأ إلى قتلها، بل ومنهم من كان لا يتمالك من غيظه فيتشفى من ذلك بدسها في التراب.[5]
وقد تعرضت مؤسسة الأسرة هي أيضا للانهيار، وشُرّعت الأبواب على مصاريعها أمام البِغاء والفحشاء، بل بلغ الأمر ببعض الباغيات أن يضعن علامة على بيوتهن كدعوة مفتوحة أمام هذه الفعلة الشنعاء.
والأدهى والأمرُّ من ذلك أن ذلك المجتمع كان يهتم بالنسب العالي، ولذلك كان الرجل منهم يرسل امرأته إلى ذوي النسب منهم حتى تأتي منه بولد حسيب نسيب. وكان من النساء من تجتمع بأكثر من رجل فإذا حملت يُلحق الولد بأحد أولئك الرجال بناء على شهادة المرأة لأحدهم.
ومجمل القول هو أن العالم كانت
متعطشة لرسالة سيد الأنبياء، ومحتاجة إلى الاستنارة بنور هديه، وكان اشتداد الظلام
تبعث الأنظار على البحث عن انبلاج صبح مشرق في الآفاق.
[1] انظر: الشهرستاني، الملل والنحل ٢/ ٨٦-٨٧؛ البوطي، فقه السيرة ٤٤-٤٥.
[2] • أبو الحسن الندوي، ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين 28.
[3] وفي ذلك نزل قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأعراف:31)
[4]قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) (الأنفال: 35)
[5] وفي ذلك يقول تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (النحل: ٥٨-59)