العلاج النبوي لظاهرة «التسول»

بقلم/ محمود الأزهري

تعد مشكلة الفقر من أهم المشاكل التي تواجه الإنسانية. وقد أشار القرآن الكريم إليها في مواضع كثيرة. يقول الله تعالى في سورة قريش: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ﴾.[قريش: 1-4]  ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ ‌آمِنًا ‌فِي ‌سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»1. إلا أن هناك ظاهرةٌ خطيرة ارتبطت بداء الفقر وانتشرت في المجتمعات بشكلٍ سريع ومتزايد، وهي ظاهرة التسول، حتى أصبحـت تهـدد المجتمـع الإنساني بأسـره، وتنذر بالعديد من العواقب.

التسول أسبابه ومظاهره:

‌‌كلمة “التسول” مأخوذة من مادّة (س أ ل)، والسّؤال ما يسأله الإنسان. والتّسوّل في الاصطلاح: هو طلب الصّدقة من الأفراد في الطّرق العامّة، والمتسوّل: “هو الشّخص الّذي يتعيّش من التّسوّل ويجعل منه حرفة له ومصدرا وحيدا للرّزق”. وأسباب هذه الظاهرة كثيرة من أهمها: السلبية والتواكل مع ضعف الوازع الديني الذي يدعو إلى البحث عن العمل. ومنها: ارتفاع نسبة الفقر والبطالة في المجتمع، واعتبار التسول تجارة مربحة بدلا من العمل، ومنها: التفكك الأسري الذي قد يؤدي إلى تشرد بعض الأبناء وتسولهم من أجل الحصول على المال، أو كونه مهنة متوارثة من الأجداد. ومنها: الأمراض الجسمية أو النفسية أو العقلية التي يعاني منها بعض الأفراد مما تدفعهم إلى التسول. ومنها: طبيعة المجتمع وتدينه حيث يسارع أفراده في تلبية حاجات المتسولين دون البحث عن أحقيتهم في ذلك. إلى غير  ذلك من الأسباب التي أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة في المجتمع.

وإذا كان التسول هو طلب المال من الأفراد في الطّرق العامّة ومحطات المترو والمساجد وغير ذلك، إلا أنه أخذ صورا وأشكالا متعددة  للحصول على هذا المال. فمن ذلك: الادعاء الكاذب بالحاجة إلى أموال لبناء مسجد أو مدرسة، أو الادعاء بإصابة المتسول بالجنون أو أي مرض عقلي أو عضوي آخر، وربما يستخدم المتسول بعض مستحضرات التجميل في تشويه شكله وأعضائه لاستعطاف الناس، وقد يستخدم أيضا البكاء والصراخ ليجذب انتباه الناس مع ادعائه بسرقة أمواله، أو أنه يحتاج إلى أموال للوصول إلى بلده، إلى غير ذلك من الوسائل الكاذبة التي يستخدمها المتسول من أجل الحصول على الأموال. ومع التطور الإلكتروني في العصر الحاضر اتخذ التسول أشكالا جديدة فظهر ما يسمى بالتسول الإلكتروني.

الآثار السلبية لظاهرة التسول:

لظاهرة التسول آثار سلبية عديدة وعلى شتى النواحي.

فمن الناحية الدينية: فإن المتسول بادعائه الكاذب وأكل أموال الناس بالباطل يقع في الحرام، وقد يجره ذلك لارتكاب أنواع أخرى من الذنوب والمعاصي، مع كون زيادة المتسولين في المجتمع المسلم قد تؤدي إلى نفرة الناس من هذا المجتمع ومن الدين الإسلامي.

ومن الناحية الاقتصادية: فإن التسول يؤدي إلى ارتفاع نسبة البطالة في المجتمع إثر انخفاض إنتاجية الأفراد عن العمل، وسهولة الحصول على الأموال دون تعب ومشقة من خلال التسول. كما أن الدول تحتاج إلى أموال طائلة لإعادة تأهيل المتسولين نفسيا واجتماعيا، مع ما تسببه هذه الظاهرة على الأماكن السياحية والأثرية من سلبيات تؤدي إلى تقليل الموارد المالية للدول التي تحصلها من هذه الأماكن.

ومن الناحية الاجتماعية: فإن التسول يؤدي إلى كثرة المتواكلين والبطالين في المجتمع، مع حرمان الأطفال المستخدمين في التسول من حقوقهم الأساسية: التعليم، الصحة، الأمان، وتعرضهم لأمراض جسدية ونفسية إثر هذه المسألة. ومن الناحية الأمنية: فإن التسول يؤدي إلى شيوع الجرائم والسرقات بشكل واسع، مع فقدان الشعور بالأمن داخل المجتمع.

موقف السنة النبوية من ظاهرة التسول:

الناظر في السنة النبوية يجد أنها تطرقت لهذه الظاهرة المجتمعية، وحذرت منها، وبينت عواقبها الدنيوية وكذلك عواقبها الأخروية، وقدمت حلولا عديدة لهذه الظاهرة، منها ما هو وقائي من أجل حماية المجتمع من تفشي هذه الظاهرة، ومنها ما هو علاجي بعد انتشار ظاهرة التسول في المجتمع. ويمكننا بيان هذه الحلول في النقاط الآتية:

التعوذ من الفقر والحث على الصبر والقناعة:

لقد حثنا النبي صلى الله عليه ويسلم على التعوذ من الفقر، فعن ‌أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي ‌أَعُوذُ ‌بِكَ ‌مِنَ ‌الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ»2. ومع ذلك كان يوجهنا ويحثنا على مواجهة مشكلة الفقر والعوز بالصبر والتعفف، فعَنْ ‌أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ ‌سَأَلُوهُ ‌فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ»3. فعلى الإنسان أن يتعوذ دائما من الفقر، وإن أصابته حاجة فعليه أن يتعفف ويصبر فالرزق بيد الله، وينبغي أن يسعى في الحصول على العمل حتى ولو كان هذا العمل حقيرا فهو خير له من سؤال الناس.

الحث على العمل:

الحض على العمل والترغيب فيه والنهي عن التواكل منهج نبوي، ولقد ظهر ذلك جليا في الأحاديث النبوية الشريفة. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يبين أن أفضل كسب للإنسان هو ما كان من جهده وتعبه فيقول: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ ‌مِنْ ‌عَمَلِ ‌يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ ‌مِنْ ‌عَمَلِ ‌يَدِهِ»4. ويحث على العمل حتى ولو كان هذا العمل حقيرا في نظر الناس لكنه أفضل من سؤال الناس والاعتماد عليهم في الكسب فيقول: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ ‌الْحَطَبِ ‌عَلَى ‌ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ، أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ»5. ويوضح النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أن كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان طالما أراد أن يتعفف بها عن الحرام وعن سؤال الناس فهي في سبيل الله، فعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَة، قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ كَانَ خَرَجَ ‌يَسْعَى ‌عَلَى ‌وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ»6. فمن خلال هذه الأحاديث النبوية وغيرها الكثير تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه المؤمن على أن يكون نزيه القلب وعزيز النفس فلا يرض أن يكون عالة على الناس أو متسولا. فلا يليق بالرجل القادر، أن يرضى لنفسه، أن يكون حِمْلاً على كاهل المجتمع، ثقيلا مرذولا، وأن يقعد فارغا من غير شغل، ولقد قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بني، استغن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد إلا أصابته إحدى ثلاث خصال: رقة في دينه، أو ضعف في عقله، أو وهاء في مروءته وأعظم من هذا، استخفاف الناس به)7.

الحث على الصدقة والإنفاق في سبيل الله:

ينبغي على المسلم أن يتفقد أحوال الآخرين، وأن يكون المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو بالفقر والحاجة تداعى له سائر المجتمع بالصدقة والإنفاق في سبيل الله حتى لا يحتاج الفقير إلى سؤال الآخرين. ولقد حثت السنة على الصدقة والإنفاق في سبيل الله، وبينت ثواب المتصدق عند الله. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصَّدَقَةَ ‌لَتُطْفِئُ ‌غَضَبَ ‌الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ»8. وهو القائل أيضا: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ ‌صَدَقَةٍ ‌جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»9. وكان دائما يدعو الصحابة ويحثهم على الصدقة حتى النساء فقد كان يقول لهم: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ»10. كما أنه أمر بكفالة الفقير والمسكين فقال صلى الله عليه وسلم: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ»11. وقال أيضا: «‌كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»12. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشح والبخل لما لهما من آثار سلبية على الفرد والمجتمع فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْتَمِعُ ‌شُحٌّ ‌وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»13.

كراهية سؤال الناس وبيان عقوبته في الدنيا والآخرة:

لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من سؤال الناس بغير حاجة، فكان من الأوامر التي بايع عليها النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أن لا يسألوا الناس حتى الشيء الحقير. فعن عَوْفُ بْن مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً، أَوْ ثَمَانِيَةً، أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: ‌أَلَا ‌تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ، قَالَ: ‌أَلَا ‌تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ قَالَ: ‌أَلَا ‌تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا، وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا، (وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً)، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا»14. وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي ‌أَنْ ‌لَا ‌يَسْأَلَ ‌النَّاسَ ‌شَيْئًا فَأَتَكَفَّلَ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» فَقَالَ ثَوْبَانُ: أَنَا، فَكَانَ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا”15. كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التسول، فعن عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «‌لَوْ ‌تَعْلَمُونَ ‌مَا ‌فِي ‌الْمَسْأَلَةِ مَا مَشَى أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ يَسْأَلُهُ شَيْئًا»16. وبين عقوبة المتسول في الآخرة فقال صلى الله عليه وسلم: «‌مَا ‌يَزَالُ ‌الرَّجُلُ ‌يَسْأَلُ ‌النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ»17. فهذا الحديث فيه وعيد شديد لمن يكثر من سؤال الناس أموالهم دون حاجة، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يجيء يوم القيامة وما في وجهه قطعة يسيرة من لحم، بل كله عظم من شدة العذاب الذي يصيبه، وخَصَّ الوجه لأن الجزاء من جنس العمل، لكونه أذل وجهه بالسؤال.

الحث على عدم إعطاء السائل الغني وغير المحتاج:

وكما حث النبي صلى الله عليه وسلم على عدم السؤال والتعفف، فقد أرشدنا ضمنا إلى عدم إعطاء المتسول إذا غلب على ظننا أنه غير محتاج. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «‌لَا ‌تَحِلُّ ‌الصَّدَقَةُ ‌لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»18. فذو مرة سوي:أي القوي القادر على الكسب الخالي من المرض والعيب، أما حدود الغنى فقد بينه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر فقال: ‌«مَنْ ‌سَأَلَ ‌وَعِنْدَهُ ‌مَا ‌يُغْنِيهِ، فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ جَمْرِ جَهَنَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ وَقَالَ النُّفَيْلِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ»19.

من تحل لهم المسألة:

وعلى الرغم من ذم الرسول صلى الله عليه وسلم للسؤال وتحذيره منه؛ إلا أنه بين أن هناك بعض الأصناف من الناس تحل لهم المسألة لكن بضوابط معينة، فعن قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، قَالَ: «‌حُمِّلْتُ ‌حَمَالَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُهُ فِيهَا، فَقَالَ: “أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَإِمَّا أَنْ نَحْمِلَهَا، وَإِمَّا أَنْ نُعِينَكَ فِيهَا“، وَقَالَ: “إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةَ قَوْمٍ، فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ سُحْتًا، يَا قَبِيصَةُ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ سُحْتًا»20.

فمن تحل لهم المسألة ثلاثة أصناف:

الأول: “لِرَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةَ قَوْمٍ، فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ“: يعني الرجل الذي تحمل دينا للإصلاح بين الناس، فيسال الناس حتى يسد ما تحمله ثم يمسك عن السؤال بعد ذلك.

الثاني: “وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ“: يعني الرجل الذي أصابته جائحة وآفة أهلكت زراعته وتجارته، فهذا حلت له المسألة حتى يحصل ما يتقوم به عيشه، ثم يمسك عن المسألة.

الثالث: “وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ، فَيَسْأَلُ حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكُ“: يعني الرجل الذي أصابه الفقر الشديد، وشهد له بذلك ثلاث من ذوي العقول من قومه كما جاء في إحدى الروايات، فهذا حلت له المسألة حتى يحصل ما يتقوم به عيشه، ثم يمسك عن المسألة.

فهؤلاء تحل لهم المسألة إذا انطبقت عليهم هذه الأوصاف، ولا تجوز لغيرهم، ولا تجوز لهم أيضا إذا ارتفعت عنهم هذه الأوصاف، وهو المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم :”ثُمَّ يُمْسِكُ”.

خلاصة القول:

التسول ظاهرة اجتماعية لها آثار سلبية كبيرة على المجتمع دينيا واقتصاديا واجتماعيا، ولقد وقفت السنة النبوية موقف الرافض لهذه الظاهرة والمحذر منها والمعالج لها أيضا: فحثت الناس على الصبر على المعيشة، وذمت سؤال الناس بغير حاجة، وبينت عقوبة ذلك في الآخرة. كما أنها أمرتهم بالبحث عن العمل والتعفف عن المسألة. وحثت المجتمع على التكافل والتصدق والإنفاق في سبيل الله لقطع جذور وأسباب هذه الظاهرة. كما أنها أرشدتنا إلى عدم التسبب في نشر هذه الظاهرة في المجتمع وذلك بالنهي عن إعطاء السائل الغني وغير المحتاج، كما وضحت الأصناف التي يباح لها المسألة بشروط وضوابط معينة، وذلك كله حماية للمجتمع من التواكل والانهزامية والاعتماد على الآخرين.

Footnotes

  1. سنن الترمذي (4/ 574 ت شاكر)
  2. سنن أبي داود (1/ 566 ط مع عون المعبود)
  3. صحيح البخاري (2/ 122 ط السلطانية)
  4. صحيح البخاري (3/ 57 ط السلطانية)
  5. صحيح البخاري (2/ 123 ط السلطانية)
  6. المعجم الكبير للطبراني (19/ 129)
  7. إحياء علوم الدين (2/ 62)
  8. سنن الترمذي (3/ 43 ت شاكر)
  9. صحيح مسلم (5/ 73 ط التركية)
  10. صحيح البخاري (2/ 121 ط السلطانية)
  11. صحيح البخاري (7/ 62 ط السلطانية)
  12. صحيح مسلم (8/ 221 ط التركية)
  13. سنن النسائي (6/ 14)
  14. صحيح مسلم (3/ 97 ط التركية)
  15. المستدرك على الصحيحين للحاكم – ط العلمية (1/ 571)
  16. السنن الكبرى – النسائي – ط الرسالة (3/ 74)
  17. صحيح البخاري (2/ 123 ط السلطانية)
  18. سنن أبي داود (2/ 37 ط مع عون المعبود)
  19. سنن أبي داود (2/ 35 ط مع عون المعبود)
  20. مسند أحمد (34/ 206 ط الرسالة)
قد يعجبك ايضا