الضغط المجتمعي من قِبل أهل مكَّة في زمن البعثة
بقلم: يوجَل مان
إن الصراع بين “الحداثة” و”التقليد” قديم قِدم التاريخ الإنساني؛ لأن الأفراد والمجتمعات تعاني صعوبات بالغة عند تقبل المشاعر والأفكار الجديدة، ولا سيما تلك التطورات التي تمس حياتهم اليومية والتي تتعارض مع مفاهيمهم ومعتقداتهم إلى اليوم؛ فإنهم يقفون منها موقف المرتاب، محترسين منها. ولا يلبث هذا التعامل الحذِر إلى أن يتحول إلى جزع وعدم تحمل. فلا يعترفون بحق الحياة للأفكار الحداثية التي يرونها مخالفة لأعرافهم، ولا يظهرون أي ود أيضًا لمن يمثلونها. بل يمارسون عليهم الضغوطات والاضطهادات في معاملاتهم وعلاقاتهم حتى يعزلوهم، ويقصوهم عن محيطهم، ويضيقوا الخناق عليهم، ويجعلوا الحياة ضيقة عليهم. فكانت أولى ردود أفعالهم هي قطع الطريق أمام توطن التجديدات وذيوعها. فلا يفكرون ألبتة في معقولية التطور ولا مصداقيته ولا فائدته أو ضرره، ولا صحته أو خطئه.
وقد كان المجتمع العربي الذي يعيش في مكة وينتمي إلى الثقافة الجاهلية يواجه الدين الإسلامي ومعجزة القرآن والرسالة النبوية بنفس الشكل. فقد اعتبر التطورات الجديدة التي أتت عن طريق الوحي الشريف من أجل تخليصهم من حياة الجاهلية التي تقوم على الشرك والعنف والأطماع الشخصية تشكل تهديدًا وخطرًا عظيمًا على مصالحهم الشخصية. فلجؤوا إلى كل السبل من أجل إطفاء نور هذه الرسالة، بل حتى القضاء عليها تمامًا. فحولوا مكَّة وشوارعها وأسواقها حتى الكعبة المشرفة إلى أماكن لا سبيل إلى المسلمين للعيش فيها. فأذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المسلمين الذين ضاق بهم الأمر ذرعًا بالهجرة إلى الحبشة لينجوا من هذا الضغط والظلم، ويمارسوا شعائرهم الدينية بأريحية كبيرة.
لقد كانوا يمارسون الضغط المجتمعي عن طريق امتهان اختيارات الناس وتسفيه آرائهم والاستهزاء بهم حتى يحولوا بينهم وبين الإسلام. ولقد كان أبو جهل وهو من منظمي هذا الضغط إذا علم بإسلام أحد الأشراف أو أتباعه جاءه أو استدعاه، فيقول له: “تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولَنُفيِّلَنّ رأيك، ولنضعن شرفك”، وإن كان تاجرًا قال: “والله لنُكسدنّ تجارتك، ولنهلكن مالك”، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به1. وفي هذا إقصاء لمن يعتنق الإسلام عن المجتمع، وكذلك تخويف لمن يفكر في اعتناقه.
لقد كان لهذه الضغوطات تأثير بالغ على اعتناق الناس للإسلام. فلقد كان نسبة من خاطروا بكل شيء، وآمنوا بالدين الجديد بعد جهد وسعي دام لمدة ثلاث عشرة سنة في مكة 2% من سكان مكَّة. ولقد كان أكثر المتضررين من هذا الضغط المجتمعي هم النساء الذين ينظر إليهم المشركون على أنهم مخلوق وضيع ضعيف حقير لا عقل له ولا حقوق ولا حتى نصيب من العيش.
خُناس بنت مالك
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا مصعب بن عمير وهو من السابقين الأولين عقب بيعة العقبة الأولى إلى المدينة من أجل الدعوة والتبليغ. وبعد عام من الدعوة والعمل الدؤوب عاد إلى مكَّة مع جماعة من الأوس والخزرج قد خرجوا للحج في شهر ذي الحجة. وكان من بين هذه الجماعة المتشكلة من 500 فرد 75 مسلمًا قد خرجوا معهم لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة.
وما إن وصل مصعب رضي الله عنه إلى مكة حتى أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بما اضطلع به من خدمات دينية في المدينة، وإقبال الأنصار على الإسلام. كما أخبره بأمر من أقبلوا معه لمبايعته صلى الله عليه وسلم. ولقد سُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وفي تلك الأثناء علمت خُناس بنت مالك بعودة ابنها مصعب رضي الله عنه إلى مكَّة، فبعثت إليه: “يا عاق أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي؟”
فذهب إليها مصعب وقال لها بكل أدب: “أكنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله”. فقالت له: “إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد”. فقال لها بلطف: “أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله”. فقالت: “ما شكرت ما رثيتك مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب”، فقال مصعب: “أفر بديني إن تفتنوني”.
فأرادت حبسه فقال لها: “لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي”. فقالت: “اذهب لشأنك”، وجعلت تبكي. فقال مصعب: “يا أمة إني لك ناصح عليك شفيق فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله”. فقالت أمه: “والثواقب لا أدخل في دينك فيزرى برأيي ويضعف عقلي ولكني أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني”2.
لقد كانت كلمات خُناس بنت مالك إزاء دعوة ابنها إياها للإسلام أبرز دليل على مدى فعالية واستمرارية الضغط الذي مارسه أهل مكة على حرية الاعتقاد منذ اليوم الأول للبعثة وحتى بعد 13 سنة من الدعوة في مكة.
رُقيقة مسلمة الطائف
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقوام والقوافل القادمة إلى أسواق مكَّة إلى الإسلام طوال سبع سنوات ولكن هذه الطريقة لم تؤت أكلها بسبب الضغط الذي كان يمارسه أهل مكَّة باستمرار، فما كان أمامه سوى أن يضع الطائف وهي موطن ثقيف في حساباته من أجل مستقبل الإسلام والمسلمين. فانطلق إليها، وليس معه سوى زيد بن حارثة وعزمه وإرادته وأمله الذي كان يزداد مع كل رفض يقابله.
أخذ يطرق أبواب الطائف بابًا بابًا طوال العشرة أيام التي قضاها هناك بادئًا بأشرافها. يعرض عليهم الرسالة العالمية للمولى سبحانه وتعالى، ويطلب منهم نصرة دعوته، ودعم حفنة الضعفاء الذين يتعرضون لأشد أنواع الظلم والعذاب بسبب قولهم ربنا الله. لكن ثقيف التي تأثرت من ظلم أهل مكَّة وبغيهم كانوا أشد وحشية وظلمًا؛ فلم يكتفوا بالرفض، بل أخذوا يرشقونه صلى الله عليه وسلم بالحجارة طوال الأيام العشرة التي قضاها هناك.
وفي مواجهة هذا الظلم والاعتداء البيِّن الذي لم يتوقعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف الذين أقبل عليهم وهو مفعم بالأمل قام بطلب النجدة والعون لائذًا ببيت سيدة تُدعى رقيقة3. ففتحت رقيقة بابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت العصيب، ولم تكتف بهذا فحسب بل قدمت له الشراب والطعام أيضًا. فلما استراح رسول الله دعا رقيقة إلى الإسلام قائلًا: “لا تَعْبُدِي طَاغِيَتَهُمْ وَلا تُصَلِّي لَهَا”. فقالت: “إذن يقتلوني”. فالخوف الناشئ عن الظلم يستولي على كل مكان. كان من الصعب حقًّا أن تعلن امرأة إسلامها في مجتمع قد رشقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة وهي ترى أنه لا يستحق هذا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فَإِذَا قَالُوا لَكِ ذَلِكَ فَقُولِي: رَبِّي رَبُّ هَذِهِ الطَّاغِيَةِ وَإِذَا صَلَّيْتِ فَوَلِّيهَا ظَهْرَكِ”. ثم خرج من عندها حتى لا يعرضها وأهلها للخطر أكثر من ذلك4.
خلاصة القول
إن معاداة القيم الجديدة والمختلفة هو أحد أهم أسباب الشدة والقمع الموجودين على وجه البسيطة منذ الأمس إلى اليوم. ولا سيما البيئات التي تسودها الجهالة يكون الوضع فيها أسوأ وأخطر. لقد عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من وجهة النظر هذه من العرب الذين هم أهل جاهلية وهم أول مخاطبيه؛ فقد جُرِّد وعُزل هو وأتباعه عن المجتمع. فقد ناصبه أهل مكَّة العداء صرفًا من أجل مصالحهم الشخصية دون أن يأخذوا في الاعتبار معقولية وإنسانية القيم التي أتى بها، ومارسوا تجاهه وتجاه أصحابه ضغوطات كبيرة في مكَّة وشبه الجزيرة بشكل عام. فداسوا على جميع حقوق المؤمنين إلى أن صارت الحياة بالنسبة لهم لا تطاق بهذا الضغط المجتمعي الذي يمارسونه. وحالوا كذلك بين الكثيرين وبين اختيارهم الإسلام. وهكذا فتحت الهجرة بابًا جديدًا أمام المسلمين الذين يعانون هذا الضغط والقمع، وأدت أعظم مهمة في تبليغ الإسلام للإنسانية.