استعداد رسول الله ﷺ لأداء المهمة العالمية الخالدة
بقلم: يوجَل مان
بدأ أشراف مكة الذين علموا بنزول الوحي الشريف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء في الاستهزاء به ووصفه بالجنون. فكان الرد عليهم من المولى عز وجل: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ (سورة القَلَمِ: 68/1-6)؛ مخبرًا إياهم ببطلان زعمهم وعدم منطقيته. وإن المعنى والمحتوى اللذين تشير إليهما الآية الكريمة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ من سورة القلم التي نزلت بعد سورة العلق مباشرة يحمل أهميةً كبيرةً بالنسبة لشخصه الشريف صلى الله عليه وسلم. فالآية الكريمة تلفت الأنظار إلى حياته صلى الله عليه وسلم حتى البعثة والتي بلغت أربعين سنة، وتقدِّرها قدرها.
إن الله تعالى عند تقييمه عباده لا ينظر إلا إلى قلوبهم وأعمالهم 1، فقد كان لمحمد الأمين صلى الله عليه وسلم نصيبٌ كبيرٌ من هذه الأخلاق العظيمة التي أقسم بها المولى تعالى عليه عندما اصطفاه نبيًّا للعالمين وخاتمًا للأنبياء والمرسلين: “إنَّ اللهَ نظَرَ إلى قلُوبِ العبادِ فوجَدَ قلْبَ محمدٍ ﷺ خيرَ قلوبِ العبادِ فاصطفاه لنفْسِهِ وابْتَعَثَهُ بِرِسالَتِهِ”2. والحال أنه قد فقد أباه وهو لا يزال في رحم أمه3، وتربى حتى الخامسة من عمره بعيدًا عن أمه، ولم يلتحق بمدرسة ولم يتلق أي تعليم، ولم تُمنح له الفرصة ليتعلم القراءة، فيقرأ الكتب ويميِّز ما فيها من حق وباطل، ولم يجلس على يد أي معلم: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (سورة العَنْكَبوتِ: 29/48).
فمتى وأين وكيف وممن حصل على هذه الأخلاق السامية النموذجية؟! فيجيب القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ (سورة الضُّحَى: 93/6). لقد صيَّر المولى تعالى الحياة مدرسة له؛ فقد أحسن الحق تعالى تربيته وعركه بالحوادث المليئة حِكمة واختبارًا طوال الأربعين سنة التي عاشها قبل البعثة. لقد أرشده ربنا سبحانه وتعالى بحكمته وساقه بأقداره ليحمي فطرته السليمة، ويُخلّقه بالأخلاق الفاضلة، ويشحذ إرادته، ويكتسب تجارب الحياة وخبراتها، ويفعِّل الملكات الإنسانية الكامنة في ماهيته، أي هيأه لينشئه في أحسن خلق وأفضل تقويم4. فعبر صلى الله عليه وسلم عن هذا الإحسان بقوله: “أدَّبني ربِّي فأحسنَ تأديبي“5. وكما هو الحال لدى بقية الأنبياء فإن الله سبحانه وتعالى قد زوده بميزات مختلفة دون أن يشعر، فربَّاه وعلمه، وأكسبه العديد من المشاعر والخصائص التي تسهِّل عليه أداء مهمته في سنوات الدعوة؛ فهيأه لأداء مهمة الوحي والقرآن والرسالة العالمية:
مرحلة طفولته صلى الله عليه وسلم
يتمه وتعليمه الرحمة
توفي والده عبد الله قبل مولده الشريف صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، فجاء إلى الدنيا يتيمًا، دون أن يحظى أبدًا بدفء وحنان الأب. فضلًا عن أنه بعد مدة قصيرة من مولده عُهد به إلى المراضع كما تفرض العادة آنذاك في مكَّة؛ فنشأ وترعرع بعيدًا عن حضن أمه وحنانها. وبعد فراق دام خمس سنوات عاد إلى أمه؛ بيد أن هذا لم يستمر أكثر من سنة؛ فقد توفيت أمه بالأبواء في طريق عودتها من المدينة عقب زيارة قبر زوجها، فصار صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين وهو في السادسة6. بعدها انتقل إلى كنف جدِّه عبد المطلب الذي كان يحبه كثيرًا؛ ولكن هذا أيضًا لم يطل أكثر من عامين7.
فخلَّفت هذه الحوادث الأليمة المتتالية التي عاشها آثارًا عميقة في روحه ووجدانه وقلبه وحسه. فقد تعلم عمليًّا وفعليًّا مدى احتياج جميع المخلوقات وعلى رأسها الإنسان للرحمة والشفقة ومدى أهميتهما بالنسبة لهم. وقد أثر هذا في نظرته إلى الحياة وإلى الوجود. فضلًا عن أن الله تعالى في كل مرة قد أحاطه بعنايته فسخر له بعض الأشخاص من حوله، فأدرك صلى الله عليه وسلم بذلك معنى العناية والرعاية. ولقد كشف عن لطائفه في هذا الأمر، فنجده يتحرك مسرعًا -ولم يكن قد كُلِّف بالرسالة بعد- نحو من يتعطشون إلى الحب الحقيقي والرعاية والشفقة والرحمة (بداية من اليتامى والأَرِقَّاء والفقراء)، فيخفض لهم أجنحة الرحمة والشفقة، ويقوم على رعايتهم والاهتمام بهم. فلما كان اليوم الأول الذي تلقى فيه الوحي الشريف، أخذت زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها تسلِّيه وتهدئ من روعه ملفتة النظر إلى الأربعين سنة التي مرت من عمره بقولها: “أبْشِرْ فَواللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، فَواللَّهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوائِبِ الحَقِّ”8.
بعد أن نشَّط ربنا سبحانه وتعالى لديه مشاعر الرحمة، وزوده بالإحساس بآلام وهموم جميع المخلوقات، هيأه للرسالة الخالدة، ليكون رحمة للعالمين وعلى رأسهم الإنسان، فيقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/107).
تهذيب لسانه وبدنه صلى الله عليه وسلم
لم يمر الكثير على مولده صلى الله عليه وسلم حتى عُهِد به إلى مرضعته. فلقد كانت مكة بلدة شديدة الحرارة، وكان الوباء قد انتشر فيها في تلك الأعوام. فضلًا عن أن العادة آنذاك كانت تقضي بإرسال الأولاد إلى البادية، لينموا ويكبروا في ظروف مناخية صحية. فكان صلى الله عليه وسلم من نصيب امرأة من بني سعد تدعى السيدة حليمة. ولقد كانت تنشئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل وسيلة لحصول الكثير من الخيرات والبركات. فإنه أولًا: كان يعيش في مناخ عائلي مكتمل بجانب أمه من الرضاعة. فقد كان له في هذا البيت الذي دخله رضيعًا ومكث فيه خمس سنوات أبٌ وأمٌ وأخ وأخت. كما أنه قد حُمي من تأثير ثقافة الجاهلية السائدة في مكة آنذاك في اللاشعور لديه.
وثانيًا: فقد نشأ في مناخ صحي طبيعي، وقد أثر هذا بشكل كبير في نموه البدني ونضجه الجسدي والعضلي. فقد أخبرت السيدة حليمة أنه كان مميزًا عن أقرانه في طفولته، فكان من يراه في عمر السنتين يظن أنه في الخامسة أو السادسة من عمره9. ولقد كان لهذا النمو البدني الصحي السليم فائدة عظيمة في السنوات المقبلة من عمره وفي مرحلة البعثة. فقد كان يتسلق الجبال بسهولة (للصعود إلى غار حراء وثور مثلًا)، ويخرج إلى الغزوات والأسفار التي تستغرق شهورًا. فقد خرج إلى قرابة ثلاثين سفرة في مرحلة المدينة المنورة فحسب. فخرج للهجرة وهو في الثالثة والخمسين من عمره، وخرج لأول غزوة اضطر للخروج إليها في الرابعة والخمسين من عمره، وفي غزوة تبوك التي استغرقت قرابة شهرين كان يبلغ اثنين وستين عامًا، وفي رحلة الحج التي استغرقت سبعة وعشرين يومًا منها ثمانية أيام ذهابًا وثمانية أيام عودة كان في الثالثة والستين من عمره. كما أن تغلّب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركانة وهو بطل قريش عندما صارعه، وكذلك صبره على أذى أهل مكة وما لحق به في الطائف وكذلك المقاطعة؛ لا شك أن الحياة الصحية والسليمة التي عاشها بجانب أمه من الرضاعة لها دور كبير في هذا.
ومن الفوائد التي حازها صلى الله عليه وسلم في فترة رضاعته هو “إتقانه اللغة العربية السليمة”، فكان صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأبلغهم. وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ذلك في سنوات البعثة قائلًا: “أنا من قريشٍ، ولساني لسانُ بني سعدِ بنِ بَكرٍ”. كانت مكة أكثر مفارق الطرق نشاطًا وحيويةً بين اليمن والشام، فكانت القبائل العربية جميعها تمر بها من أجل الحج والتجارة. بينما كان بنو سعد في أقصى الجبال بمنأى عن كل هذا. فكانوا يتحدثون العربية السليمة الخالصة. ولقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس سنوات الأولى من حياته في هذه البيئة، فتعلم العربية التي أصقلت لسانه من أعذب منابعها، وهو وإن كان لا دراية له بشيء من ذلك في ذلك الوقت فإن المولى سبحانه وتعالى سوف ينزل عليه معجزة البلاغة والبيان ألا وهي القرآن الكريم، لتكون معجزته أمام العرب الذين هم أهل فصاحة وبيان. فقد كان الله تعالى يهيئ بدنه ولسانه لأداء مهمته على الوجه الأكمل طوال ثلاث وعشرين سنة دون انقطاع.
تعليمه القيادة
توفيت السيدة آمنة أم الرسول صلى الله عليه وسلم بالأبواء في طريق العودة من المدينة وهو في السادسة من عمره، فأحضرته مربيته أم أيمن إلى مكَّة وسلمته إلى جده عبد المطلب. وكان عبد المطلب سيِّد مكة وقائدها المعروف الذي يكنّ له الجميع التقدير والاحترام. حتى أبرهة الحبشي الذي أتى لهدم الكعبة قد كَنّ له الاحترام والتقدير العظيم. وكان عبد المطلب يحتضن حفيده صلى الله عليه وسلم ويعرب عن حبه له وشدة تعلقه به. لقد استشعر عبد المطلب بملكات هذا الطفل النابغة، فكان يأخذه معه أينما حل أو ارتحل رغم معارضة أبنائه10.
فكان يصطحبه إلى جميع مجالسه مع أسياد وأشراف العرب، وكان يُجلسه في أغلب الأحيان في مكانه. قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عامين مع جده على هذه الحال فحاز تجربةً عظيمةً وهو في هذه السن بما زوده الله به من سعة في الإدراك والفهم، فتعلم من جده القيادة والجلوس مع سادة القوم، وإدارة المجلس والحوار، واتخاذ القرار. ولذلك نجده بعد ثلاث وخمسين سنة يتقدم في ساحة القتال في حُنين عندما تفرقت الصفوف، ويقول: “أنا النبيُّ لا كَذِبْ، أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ“. فإن العرب تعرف ريادة جده وإدارته للشدائد والأزمات. وهكذا بدأ الحق تعالى بتهيئته من الناحية القيادية من أجل أداء مهمة الرسالة.
مرحلة شبابه صلى الله عليه وسلم
تعليمه تحمل المسؤولية
انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الثامنة من عمره إلى كنف عمه الحنون أبي طالب بعد وفاة جده عبد المطلب. بيد أن حالة عمه المادية لم تكن جيدة، فكانت هذه الأزمة المادية المعيشة سببًا في تفكير رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساهمة في دَخْل البيت، وهذا ساقه في سن الطفولة إلى العمل في رعي الأغنام11. إن الرعي مهنة مهمة في عملية تحمل المسؤولية. فالراعي أمين على الأرواح التي في يده؛ يتوجب عليه رعي الأغنام وإطعامها وإشباعها وإعادتها سالمة دون أن يصيبها أي أذًى من ذئب أو حيوان مفترس. فهذا أمر يحتاج إلى اليقظة والانتباه. ولقد كان للرعي مكانة خاصة في حياة الأنبياء. فقد عمل سيدنا موسى لسنوات راعيًا عند سيدنا شعيب عليهما السلام12. فكان يستخدم عصاه المشهورة ليهش بها على غنمه.
لا شك أن هذه التجربة قد لعبت دورًا مهمًّا في تنمية مشاعر المسؤولية لديه، حتى إنه في سنوات الدعوة عندما كان يذكِّر الجميع بمسؤولياتهم كان يشبه الأمر بالرعي، فيقول: “كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعِيَّتِه والرجلُ راعٍ عن أهلِه ومسؤولٌ عنهم وامرأةُ الرجلِ راعيةٌ على بيتِ زوجِها وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على مالِ سيِّدِه وهو مسؤولٌ عنه ألا كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ” 13. إن الله تعالى كان يهيئه لمهمة الرسالة الخالدة شيئًا فشيئًا بالحوادث والمصاعب والأزمات التي كانت تواجهه.
تعليمه العسكري
كانت الحروب التي تدور بين القبائل العربية في الجاهلية لا تلبث أن تتحول إلى ثأر، فكانت أقل شرارة بسيطة وسيلة لتأجيج نيران الحرب من جديد. وحرب الفجار في مكَّة وحرب بعاث في المدينة خير مثال على ذلك. وقد شارك صلى لله عليه وسلم وهو في سن الخامسة عشرة في حرب الفجار الرابعة؛ والتزم موقعه على الجبهة يساعد أعمامه في تزويدهم بالأسهم14. وفي هذا المناخ رصد صلى الله عليه وسلم بيئة القتال، وعلم السن المناسبة للخروج إلى الجبهة، وتعلم مدى أهمية الخدمات التي لا بد من الاضطلاع بها في مؤخرة الجيش.
ولقد أينعت ثمار هذه التجارب في سنوات الدعوة في المدينة المنورة. فلم يكن يأذن للشباب أقل من خمس عشرة سنة في المشاركة معهم في القتال على الجبهات التي أُكرِهوا على الخروج إليها. وضم النساء ذوات الخبرة والتجربة في مداواة الجرحى وتوفير الطعام والشراب للجنود إلى مؤخرة الجيش. ومن هذا الجانب تكون حرب الفجار التي اشترك فيها صلى الله عليه وسلم بمثابة درس تطبيقي عملي على التربية العسكرية.
تعليمه الحساسية إزاء الحق
كان القوي في الجاهلية هو صاحب الحق دائمًا، ومن ثم كان الأقوياء يظلمون الضعفاء. حتى إن زهير بن أبي سلمة من أصحاب المعلقات يقول في مصراع من قصيدته “وَمَنْ لَا يَظْلِمْ النَّاسَ يُظْلَـمِ” مترجمًا بذلك الفكرة التي تكمن وراء هذا المنطق السائد آنذاك. كانت مكة مركزًا تجاريًّا مهمًّا يأتي إليه الناس من مختلف بقاع شبه الجزيرة للتجارة. لكن بعض أهل مكَّة كانوا يغترون بقوتهم وقوة قبيلتهم فإذا جاء تاجر بمفرده اغتصبوا ماله وهضموا حقه.
فذات مرة أتى رجل يمني من قبيلة زبيد إلى مكَّة بتجارة فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، ولم يدفع له ثمنها. فاستنجد الرجل بالقوم فلم يلتفت إليه أحد. فصعد جبل أبي قبيس وأخذ يقرض شعرًا يذكر فيه ما حل به من الغدر والخيانة. فلما سمع الزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقولة هذا الرجل وكان من أسياد مكَّة وأغناها وأكبرهم سنًّا كلَّم عبد الله بن جدعان، وأقنعه بأن يقيموا حلفًا يمنع هذا الظلم. فاجتمع بنو هاشم وعبد المطلب وزهرة وتيم وأسد في دار عبد الله بن جدعان التيمي. وكان من بين الحضور في هذا اليوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو ابن العشرين عامًا.
قرر هذا الحلف الوقوف أمام أي ظلم يقع في مكَّة: “فتعاقدوا وتحالفوا بالله أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا ليكوننّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يرد إليه حقه ما بلّ بحر صوفة، وما بقي جبلا ثبير وحراء مكانهما” 15. ولقد عُرف هذا الحلف في التاريخ على أنه “حلف الفضول” فكان بمثابة تجربة مهمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية نصرة المظلومين والمضطهدين.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقدِّر حق وحقوق الناس، عضوًا فعالًا في هذا الحلف طويل الأجل، والذي يدعو إلى الحفاظ على الحقوق الأولية للآخرين وحرياتهم. ومن ثم نجده صلى الله عليه وسلم يتذكر هذا الموقف في فترة نبوته ويخصّه بالذكر قائلًا: “لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ“16.
لقد ساعدته هذه النشاطات المدنية وغيرها من الفعاليات التي أظهرها الله تعالى له في حماية فطرته السليمة فيما يتعلق بتفعيل شعور الحق والعدالة وتوسعة آلية وجدانه. والحال أن قومه كانوا يدعونه بـ”الأمين” ولما يكلف بعد بإقامة الحق والعدل بين الناس.
التدريب على العفة وإعطاء الإرادة حقها
جاء عرب الجاهلية بالعديد من التقاليد التي تخص المرأة والزواج والحياة الأسرية. فكان الصغار يدخلون في مرحلة البلوغ في سن مبكرة بسبب الطبيعة الجغرافية والظروف البيئية وغيرها، وبناءً عليه يقومون بتزويجهم مبكرًا أيضًا. ولم تكن هناك أي مسؤولية تقع على عاتق الذكر أو الأنثى بعد مرحلة الطفولة حينذاك؛ فالجميع يولدون ويكبرون ويتزوجون ويشتغلون بعمل (التجارة، الزراعة، الرعي، الشعر، تجارة العبيد) ويشبعون بطونهم، ثم يموتون. فلم يكن أمامهم كما هو الحال اليوم مراحل تعليمية يمرون بها. ففي جو كهذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم عازبًا حتى سن الخامسة والعشرين.
ومع ذلك حافظ صلى الله عليه وسلم على عفته في مكَّة، هذه البلدة التي تشكل فيها كل شيء حتى الثياب واللباس على ركائز وقواعد الجاهلية؛ فلم ينظر صلى الله عليه وسلم حتى بطرف عينه إلى أي شيء قد حرمه الإسلام فيما بعد. ولذلك حينما كان يقوم بالإصلاحات الأخلاقية والحقوقية بعد البعثة لم يخرج أحد ويتهمه “بأنه فعل كذا وكذا في الجاهلية”. لقد كان ماضيه صافيًا نقيًّا كما كانت مشاعره وأفكاره. وكذلك الحال بالنسبة للسانه ويده. فلم ير أحد منه صلى الله عليه وسلم ولو مثقال ذرة من ظلم أو أذًى في عرضه أو ماله أو نفسه. بل كانوا يودعونه أثمن وأقيم ممتلكاتهم أمانة عنده.
لقد وفّى صلى الله عليه وسلم إرادته حقها؛ فعلى الرغم من الأقذار والأدناس التي تسود المجتمع والشوارع إلا أنه كان بمنأى قولًا وفعلًا عن أي حال من الممكن أن يدنس شخصيته. حتى إن الحق تعالى لم يسمح له أن يذهب بشكل إرادي إلى الأماكن التي قد تقع فيها عينه دون قصد على شيء ليس لائقًا. فكان يبعده عن هذه الأمور بالنوم والنعاس. ولذا أصبح نموذجًا وصرحًا للعفة يشار إليه بالبنان في مكَّة التي هي أرض جاهلية والتي انقلبت القيم فيها رأسًا على عقب.
تعليمه التجارة
لعبت التجارة دورًا عظيمًا على مرّ التاريخ الإنساني في رفاهية المجتمعات وفي نهضتها أو انهيارها. فما من إنسانٍ إلا واحتكَّ بالتجارة سواء كان منتِجًا أو بائعًا أو مستهلِكًا. يكفي أن تلقي نطرة على السوق لمعرفة مدى العدالة والأخلاق في مجتمع ما. وقد كانت التجارة هي مصدر العيش الوحيد في مكة التي لم تكن أرضها صالحة للزراعة. فكانوا يرسلون قوافل تجارتهم إلى الشام صيفًا وإلى اليمن شتاءً. أما في الأشهر الحرم فكانت مكَّة بمثابة معرض يقصده الناس من كل حدب وصوب.
كانت أول رحلاته التجارية في مطلع شبابه صلى الله عليه وسلم، وقد داوم عليها في مراحل عمره المتقدمة. فكان صدقه وأمانته ونجاحه التجاري سببًا في تعرفه بالسيدة خديجة وزواجه منها. طاف بالعديد من الأسواق وتمكن من إدراك التصورات والمفاهيم والأخلاق السائدة في الحياة التجارية. فتعلم التجارة بمباشرته إياها بنفسه، وفي الوقت ذاته كان شاهدًا على الأكاذيب والحيل التي تحدث في السوق. فقام خلال فترة بعثته بممارسات وتعديلات، وأصدر أوامر وتوصيات تتعلق بالقانون التجاري والأخلاق؛ مما أدى إلى قيام حياة اقتصادية في إطار الحقوق والقوانين والأخلاق إلى جانب التوجيهات القرآنية فإن معرفته بالوسط المحيط به كان له الفضل الأكبر في التدخل في هذا الأمر على وجه السرعة.
تعليمه الروحي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا أميًّا كما ذكرنا في المقدمة. فلم يتعلم في مدارس، ولم يعتنق دينًا أو فلسفةً أو أيديولوجيةً معينةً، وظل على نقائه الروحي والذهني والقلبي وفطرته السليمة التي ولِد عليها حتى كلف بالرسالة. لذلك أصابته الأفكار والمشاعر التي تسود حياة الفرد والمجتمع والأسرة بالضيق والحزن. وقد حبب الله إليه الوحدة والعزلة من أجل تنقية روحه وتهذيبها، وإثرائها بالتفكر والتدبر وترقيتها. لذا كان ينزوي في غار حراء في شهر رمضان، وقد استمر هذا الانزواء أيضًا بعد البعثة على هيئة اعتكاف في شهر رمضان المبارك.
فلقد كان يمكث أيامًا عديدةً في غار حراء الذي يحبه كثيرًا ويرى من خلاله الكعبة التي يشعر بالراحة والسكينة بالنظر إليها. كان يجلس فيه يتفكر ويتدبر ويطهر روحه ويتعبد إلى ربه بعيدًا عن عادات وتقاليد الجاهلية. لقد حبب الله إليه الانزواء وكأنه قد أخذه في معسكر خاص به. وهناك وصل إلى كمال ونقاء وسكينة الروح التي ستتلقى الوحي وتتشربه، فاستقبل الوحي الأول في حراء على هذا النحو.
خلاصة القول
يشقّ على الإنسان أن يُحاسب على شيء لم يكن مهيأً له أو لا يستطيع تأديته حقه. وفي هذا الصدد نجد أن الله تعالى قد أوصل جميع الأنبياء إلى قِوام محدد من خلال الحوادث والمواقف التي يواجهونها، فأهلهم لحمل المسؤولية، وألجأهم إلى فعالية يمارسونها طوال حياتهم. والأمر نفسه ينطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كُلف بالرسالة في الأربعين من عمره، بعد أن مرَّ من إنبيق الحوادث التي أظهرها الله أمامه، فطور من استعداداته الفطرية، وعرف نفسه والإنسان والمجتمع والحياة، فلما وصل إلى النضج والكمال الذي يؤهله لحمل الرسالة الأبدية بُعث رسولًا للعالمين. وبينما كان يتربع على قمة تستحق إشادة الجميع في مسالة الحس والشعور والفكر والحساسية ووجهة النظر والقابلية والحق والحقوق والأخلاق حمل الإسلام للحياة وللإنسانية.
ويمكن أن نستنتج ما يلي من المرحلة التي جعل الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم يصل إلى الأخلاق السامية المثالية:
1– يستطيع الإنسان أن يتعلم أشياء من كل شيء في الحياة، بمعنى أن تكون الحوادث التي تواجهه هي دروس في الحقيقة. وإن الإنسان إذا واجه الحوادث بصبر ومتانة، دون أن يسلم إرادته إلى المشاكل التي في ظاهر الحوادث، وأدرك الحِكم القابعة وراء هذه الحوادث استطاع حينها أن يحولها إلى سلم يترقى به أخلاقيًّا ويكتسب تجربة حياتية مفيدة.
2– يجب تفعيل مشاعر الرحمة لدى الإنسان وتدريبه على الشفقة والعطف لتتشكل في اللاوعي لديه منذ الصغر. ومن الأهمية بمكان معاملة الصغار برحمة في الصغر؛ والذهاب بهم عندما يكبرون إلى دور الأيتام؛ وتعريضهم لمشاهد تحفز وتغذي وتنمي مشاعر الشفقة والرحمة والرعاية والإعانة لديهم، وتحبيبهم في القراءة، وإسماعهم الأشعار، واستغلال المشردين في فعاليات ومشاريع تفرحهم. إن التنشئة بمنأًى عن آلام الآخرين وأحزانهم وبؤسهم، وتحفيزهم على حياة ترتكز على النجاح المادي فقط؛ قد يعطل هذا الشعور لديهم مما يفتح الباب أمام بلادتهم وفقدانهم الحس والمشاعر بمرور الزمن.
3– يجب تعليم أطفالنا التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وقضاياهم، فيتعلمون اللغات التي يحتاجونها وعلى رأسها اللغة الأم في سن مبكرة في أفضل الأماكن التي تتحدث هذه اللغة. فسيتعلمون قبل أي شيء التعبير عن أنفسهم بشكل أكثر صحةً وسلاسةً ووضوحًا. بمعنى إن مهارة البيان لها أهمية حياتية بالنسبة للإنسان، ويجب أن تُقدَّر في أوانها.
4– إن تمتع الأطفال ببدنٍ صحي سليم ونمو عضلاتهم وعظامهم؛ مهم جدًّا بالنسبة لحياتهم القادمة. ونظرًا لأنهم لا يفهمون ذلك في طفولتهم ولا يقدرون على القيام بالأشياء الضرورية في صغرهم فإنه يقع على عاتق الآباء والأمهات والمجتمع والمؤسسات المعنية في الدولة مسؤولية كبيرة في هذا الشأن. لا ينبغي الاستخفاف بالصحة البدنية للطفل، فإن الصحة من أثمن النعم، وإن الحياة عبارة عن حركة ونشاط، وهذا النشاط يحتاج إلى عافية وقوة.
5– التدريب على القيادة مهم جدًّا للإنسان لإدارة نفسه ووقته وموارده ومن يقعون تحت مسؤوليته بطريقة صحيحة وعادلة ومتزنة، فيجب تدريب الإنسان على ذلك في سنوات صغره، وفقًا لنظام المعلم والتلميذ. فقد يصبح الإنسان في المستقبل مسؤولًا في مكان ما، ولذلك فإن تعليم القيادة من الأهمية بمكان من ناحية تطويرهم، وتطوير أعمالهم، وحمايتهم من الوقوع في المشاكل والأزمات، وحسن استثمار الوقت بعدم الوقوع في الإسراف وإهدار الوقت.
6– الحياة مرحلة فعالة، والعمر ينفذ من الإنسان دون إرادة منه. لذا على الجميع أن يقوموا بما يتوجب عليهم، وأن يكونوا على وعي بشعور المسؤولية. فيجب منح الشباب دروسًا بشأن تحمل المسؤولية في الحياة، وأن يتم تطوير وعيهم وخبراتهم. فإن من ينتظرون كل شيء من الآخرين دائمًا يهلكون من العطش بينما النهر يمر من أمامهم.
7– ويجب تعريف الشباب في سن مبكرة بحقوقهم وحقوق الآخرين، وأن نجعل لديهم حساسية إزاء حماية حقوقهم وعدم الاعتداء على حق الآخرين ونصرة صاحب الحق. لذلك فإن انضمامهم إلى المؤسسات والجمعيات التي تهتم بإقامة الحق والحقوق إلى جانب تشكيل بيئاتهم بأناس مفعمين بالحساسية تجاه الحق والحقوق؛ سيساهم في تنشئتهم.
8– من المهم جدًّا معرفة الجبهة المعادية والتزود بالخبرة العسكرية من أجل الدفاع عن الحقوق الأولية والحريات عندما يتطلب الأمر. وهذا يعني ضرورة التحاق الشباب بالجيش، وتقوية شخصياتهم، وفهم المصاعب التي تفرضها الجبهة.
9– يجب تلقين الشباب دروسًا في حسن مواجهة الإساءات وإعطاء الإرادة حقها، وتجنب الوقوع في الخطإ مهما كان شيوع المنكر في الشارع والحياة. ويجب إرشادهم إلى سبل العيش الصحيح، والمحافظة على بقائهم أفرادًا يشعر الآخرون تجاههم بالأمان على أرواحهم وأموالهم وعرضهم.
10– إن الحياة التجارية تؤثر بشكل بالغ على تردِّي الثقة والعدل والأخلاق بين الناس. بمعنى أنه ينبغي من ناحيةٍ تنشئة الشباب على العدل والاستقامة، ومن ناحية أخرى لا بد من توعيتهم بالمفهوم السائد في السوق؛ وبذلك نحول دون خداعهم أو انخداعهم.
11– قد تتعب أرواح الناس أو تتسخ أو تتضجر من الحركة الدائمة في سير الحياة اليومية. فيجب تعليمهم تخصيص وقت لأنفسهم يعيدون فيه النظر إلى أنفسهم والاستماع إلى أرواحهم وإصلاحها، والصحوة من جديد. كما يجب إكسابهم كمالًا روحيًّا يساعدهم على مواجهة المشكلات أو أي وظيفة يضطلعون بها في المستقبل.
Footnotes
- صحيح مسلم، البر، 10 (33)؛ سنن ابن ماجه، الزهد، 9.
- أحمد بن حنبل: المسند، 6/84 (3600)؛ الطبري: التاريخ الكبير، 9/12 (8582)؛ الهيثمي: مجموع الزوائد، 1/182.
- صحيح مسلم، الجهاد والسير، 24؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 1/171.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/179.
- السيوطي: الجامع الصغير، 1/12.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/179.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/180.
- صحيح البخاري، بدء الوحي، 1؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/194.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/173؛ ابن عساكر: تاريخ دمشق، 1/75.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/180؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/117، 170؛ البيهقي: دلائل النبوة، 1/88.
- صحيح البخاري، الإجارة، 2؛ سنن ابن ماجه، التجارة، 5.
- أحمد بن حنبل، المسند، 3/96(11937).
- صحيح البخاري، العتق، 17، 19، الوصايا، 9، النكاح، 81، 90، الأحكام، 1؛ صحيح مسلم، الإمارة، 20.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 1/198؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/128.
- ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/91.
- الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 2/220؛ البيهقي: السنن، 6/366؛ الهيثمي: مجموع الزوائد، 8/172؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 1/144؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/129.