بقلم: يوجَل مان
يولي الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم العلاقات والروابط بين المؤمنين أهمية كبيرة من أجل سعادة المجتمع الإسلامي في الدارين. فيخبر سبحانه وتعالى بداية أن المؤمنين إخوة؛ فعليهم أن يظلوا هكذا على الدوام، وأن يكونوا كالجسد الواحد المتشكل من أعضاء مختلفة، يشعر كل منهم بآلام وأحزان أخيه، وأن يكونوا متحابين يدعم بعضهم بعضًا. كما يحذرهم من الوقوع في الشقاق والفراق والنزاع الذي يؤدي بهم إلى الهلاك والفناء، ويحثهم جميعًا على التمسك بحبل واحد كحبات المسبحة. كما يأمرهم ويوصيهم بالابتعاد عن كل ما يضر بوحدتهم وترابطهم من “الحقد، والعداوة، والبغضاء، والغيبة، والافتراء، وسوء الظن، والحسد، والكذب، والغدر، والخيانة، والجري وراء المصلحة الشخصية، والتنافس غير العادل”. ويأمرهم كذلك بالتماسك جيدًا وإشاعة الصفات الحميدة التي تغذي شعور الأخوة وتنمِّيه وتحافظ على حيويته مثل: “السلام، والتهادي، وحسن الظن، والحب، والتضحية، والاجتماع حول القيم المشتركة، والشورى”.
فلو تسلل بينهم -رغم كل هذا- أيُّ قول أو فعل يزعزع وحدتهم وأخوَّتهم ويوقع بينهم ويفسد عليهم حياتهم؛ بسبب اختلاف الفطرة، والمشرب، والمذهب، والمسلك، والحس، والحماس، والفهم، والفكر، والآمال؛ فإن القرآن الكريم يأمرهم بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/1)، ويطلب منهم في الحال إعادة توطيد أواصر الأخوة والنظام الذي تم إفساده، في ضوء القواعد التي وضعها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم يأمرهم ثانية بقوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/46)، ليخبر عن الضعف والوهن الذي سيصيبهم بمرور الزمن بسبب تملك الخوف منهم نتيجة الوقوع في الشقاق والنزاع والفرقة، فتذهب قوتهم وبأسهم .
وقد قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث التي تحمل صفة التحذير والتوصية والأمر في هذا الصدد لما يوليه من اهتمام كبيرٍ بالوحدة والأخوة والألفة بين المسلمين. فذات يوم قال لأصحابه: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟”، قالوا: “بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ”، قال: “إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ1.
وفي موقف آخر يفتح الموضوع ثانية ويلفت الأنظار إلى هذه الحقيقة التاريخية: “دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ“2. كما يخبر صلى الله عليه وسلم بأن مساعي الناس نحو إصلاح ذات البين والقضاء على الخلافات والشقاق وإعادة تأسيس رابطة الأخوة التي قد تقطعت، حتى ولو بكلام على غير الواقع لا يُعدُّ ذنبًا، فيقول: “لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا“3.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “أفضلُ الصَّدقةِ إصْلَاحُ ذاتِ البَيْنِ“4، وكان صلى الله عليه وسلم يتدخل على وجه السرعة فور اطلاعه على المشكلة لإنهاء الشحناء والبغضاء التي تضر بوحدة المسلمين وترابطهم؛ إذ كان عند اندلاع أصغر شرارة أو أي حراكٍ سلبي يتدخل في الأمر عسى أن يكون وسيلةً تنطفئ بها هذه الشرارة وتتوقف من خلالها هذه التحركات. وقد كان هذا سببًا في أنه قد يُنسّى صلى الله عليه وسلم ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، يقول: “خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاَحى فُلانٌ وفُلانٌ، فَرُفِعَتْ“5.
وبقوله هذا يعبر عن مدى عمق الجرح الذي أصابه جراء النزاع والخلاف البسيط الذي وقع بين المؤمنين. حتى إنه يمكن القول إن أكبر سنَّة اجتماعية وعالمية في حياته بعد التبليغ هي القضاء على الشحناء والبغضاء والشقاقات والثأر، والتدخّل بنفسه لتسوية الخلافات التي تقضي على وحدة المسلمين وترابطهم.
أول تدخل في المدينة المنورة: القضاء على الثأر
انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار ثور في طريق الهجرة إلى المدينة المنورة، حتى وصل في اليوم الثامن إلى قباء، ومكث بها 14 يومًا قضاها في دار كلثوم بن الهدم. لم تتسن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة ولو لمرة واحدة طوال ثلاث عشرة سنة في مكَّة للاجتماع ومجالسة أصحابه تحت سقف واحد، فكان أول ما قام به منذ اليوم الأول له بقباء هو إنشاء المسجد من أجل الاجتماع بأمَّته، والتأليف بين المهاجرين والأنصار. وقد كانت الرسالة التي أطلقها منذ اليوم الأول له في المدينة المنورة صريحة واضحة: لم يعد بعد الآن مجال للنزاع والشقاق، بل الأخوة والاتفاق. في تلك الأثناء توافد عليه الناس الذين كانوا ينتظرون مقدمه بلهفة واشتياق، معبرين له عن مدى سعادتهم بقدومه؛ ولكن على الرغم من مرور يومين على مقدمه صلى الله عليه وسلم فقد تغيّب أسعد بن زرارة الذي اختير نقيبًا عن بني النجار في العقبة عن الحضور بين الوافدين. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم: “أين أبو أُمامةُ أسعدُ بنُ زُرارةَ“، فأجابه سعد بن خيثمة، ومبشِّر بن عبد المنذر، ورفاعة بن عبد المنذر: “كان يا رسول الله قد أصاب منا رجلًا يوم بعاث”. ففطن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمر، وأدرك أن الحروب الداخلية بين الأوس والخزرج لم تتوقف عند الجبهة، بل تحولت إلى ثأر يهيمن على الشارع، ويستمر في تفكيك المجتمع وتفرقته. لقد كان أبناء القبيلتين يعيشون في نفس المدينة لكن دون أي وفاق أو اتفاق. فلما علم سيدنا أسعد بن زرارة بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم متقنعًا بين المغرب والعشاء، ثم بات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح، فصلى الفجر وعاد إلى داره.
وفي الصباح دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن خيثمة، وابني عبد المنذر، وطلب منهم نيابة عن الأوس إجارة أسعد بن زرارة. وهذا يعني “إنهاء هذه النزاعات”، فقال سعد بن خيثمة: “هو في جواري”، وقام إلى أسعد بن زرارة في بيته، فجاء به مخاصرة يده في يده ظهرًا حتى انتهى به إلى بني عمرو بن عوف حيث يمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قالت الأوس: “يا رسول الله كلنا له جار”، معربين بذلك عن انتهاء دعوى الثأر والدم بعد اليوم.
كانت هذه الحادثة مؤشرًا للقضاء على الصراعات الطاحنة بين الأوس والخزرج التي استمرت مائة وعشرين عامًا، وبداية لإرساء دعائم المؤاخاة والألفة. فما إن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة حتى طبّق فكرة “المؤاخاة” من أجل تحقيق الوفاق والاتفاق الفكري بين المهاجرين والأنصار بشكل فعلي على أرض الواقع. وكان هذا في غاية الأهمية من أجل مستقبل الإسلام وأمن المدينة وسلامتها واستقرارها. لذلك نراه صلى الله عليه وسلم يدعو الطوائف والهويات والجذور المختلفة في المدينة من أجل الصلح والسلام، فقاموا جميعًا بالتوقيع على ميثاق المدينة الذي يضمن لجميع الأطياف العيش جنبًا إلى جنب في سِلم وأمان واطمئنان.
خلاف أهل قباء
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم القيم الإنسانية على كل شيء في إدارته للمجتمع، فقد حول المدينة إلى مركز يفيض بالأمن والأمان بإرسائه دعائم المؤاخاة وتوقيع ميثاق المدينة. فقام عندئذ ببناء المسجد النبوي، ليتمكن من لقاء أصحابه خمس مرات كل يوم. ذات يوم قدم سهل بن سعد من قباء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره أن بني عمرو بن عوف قد دبَّ بينهم الخلاف. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقف صامتًا دون ردة فعل أمام مثل هذه الوقائع، بل كان يتدخل سريعًا من أجل تهدئة الوضع، وإصلاح ذات البين، وضمان استمرارية الأمن والاستقرار. ومن ثم فإنه عندما علم بشأنهم خرج في بعض أصحابه إلى قباء ليصلح بينهم. وبذل في سبيل ذلك جهدًا وسعيًا حثيثًا من أجل تهدئة الوضع وإحلال الصلح والسكينة بينهم، حتى داهمه الوقت وحانت الصلاة وهو بينهم، فلما تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس الصلح هذا، تقدم أبو بكر رضي الله عنه الناس بالمدينة، وأمَّهم في الصلاة6.
حادثة شاس بن قيس
كانت هناك مجموعات تستفيد استفادة عظيمة من استمرار القتال والخلافات بين الأوس والخزرج، فلم يفرحوا ألبتة بالمؤاخاة التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هاتين القبيلتين، وكانوا يعبرون عن استيائهم هذا بأشكالٍ مختلفة، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة من أجل الإيقاع بين القبيلتين، وإفساد جو الألفة والوحدة السائد بينهم، وذات يوم مرَّ شاس بن قيس على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من اجتماعهم وألفتهم بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: “قد اجتمع ملأ بني قيلة -يعني الأنصار من الأوس والخزرج- بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار”، ولم يكتف بهذا بل أمر فتى شابًّا من اليهود كان معه فقال له: “اعمد إليهم فاجلس معهم فذكِّرْهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار”.
بدأ الفتى في تنفيذ ما أمر به. وكانت الجراحات التي سببتها حرب بعاث قبل خمس سنوات من الهجرة لا تزال غضة ندية. فرغم ما بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأسيس المؤاخاة بين الأوس والخزرج إلا أنهم كانوا يحتاجون لمزيد من الوقت حتى تتشربها أرواحهم. فأثارت كلمات الفتى عِرْق العصبية عند كلا الطرفين، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا. وكانت الأرضية النفسية مهيأة لذلك، فتحدى أوس بن قيظي، وجبار بن صخر الخزرجي وقال بعضهم لبعض: “إن شئتم رددناها الآن جذعة”. فغضب الفريقان، وقالوا: “قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الحرة”.
لقد كان هؤلاء الناس حتى الأمس يمشون في الشوارع والسيوف بأيديهم، حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعوها في أغمادها وتركوها في ديارهم. لكن مع سماعهم هذا النداء، هرعوا جميعًا إلى ديارهم واستلوا سيوفهم واحتشدوا في وقت قصير جدًّا للقتال. كادت الشرارة التي أطلقها شاس بشكل ممنهج ومخطط أن تتحول إلى حريق مجتمعي إلى أن وصل الخبر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه من المهاجرين، وخطب فيهم خطبة قضت على هذا التوتر، ونبهتهم إلى الفخ الذي وقعوا فيه، قائلًا: “يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ“7.
ولقد كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية لسحبهم من على حافة الهاوية بعد أن كانوا على وشك الوقوع فيها والعودة إلى ماضيهم المظلم. أدرك الجميع خطأه وبكوا جميعًا، وعانق بعضهم بعضًا. وبناءً على هذه الحادثة أنزل الحق تعالى هذه الآيات الكريمات، موجهًا لهم بعض التنبيهات حتى لا يقعوا في نفس المشكلة ثانية.
يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/103-105).
غنائم بني النضير
حوصرت قلاع وحصون بني النضير بسبب خيانتهم ونقضهم العهد، وبعد مدة استسلموا، فطلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلاء عن المدينة، بشرط أن يأخذوا فقط ما تحمله الإبل من المال والمتاع دون السلاح، وما تركوا خلفهم من سلاح وديار وأراض ونخيل هي فيء للمسلمين. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقسم هذا الفيء على المهاجرين الذين يعيشون منذ أربعة سنوات تقريبًا في ديار الأنصار ويعملون في حدائقهم وبساتينهم. وبذلك يخفف العبء عن كاهل الأنصار، وفي الوقت نفسه يصبح للمهاجرين ديار يسكنونها، وحدائق يعملون فيها.
لكن ما التأثير الذي يمكن أن يحدثه هذا الإجراء في الأنصار الذين شاركوا إخوانهم من المهاجرين كل ما يمتلكونه طوال أربع سنوات بل وآثروهم على أنفسهم؟ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن ترابط المسلمين وتكاتفهم ومؤاخاتهم هو أمر حياتي من أجل مستقبل الإسلام، ولا يريد أن يفتح ولو أصغر الأبواب التي قد تفسد هذا المناخ. فعلى الرغم من أنه لا مشكلة لدى الأنصار من هذا الأمر إلا أن هناك الكثير من المنافقين الذين سيعكرون صفو هذا المناخ الهادئ بالأقوال والأفعال، ويتحينون الفرصة من أجل الإيقاع بين المسلمين وتأجيج نيران الفتنة بينهم.
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس رضي الله عنه من الأنصار، وطلب منه أن يجمع الأوس والخزرج (أو كل من ينتسب إلى الأنصار). فلما اجتمعوا خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ يعدد مناقب الأنصار وتضحياتهم وفضائلهم، ثم قال: “إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ“.
فتكلم سعد بن عبادة وهو سيِّد الخزرج وسعد بن معاذ وهو سيِّد الأوس بأسلوب يليق بالأنصار فقالا: “يا رسول الله، بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا”. فنادت الأنصار: “رضينا وسلمنا يا رسول الله”.
فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقولة الأنصار ومن فيض جودهم، فرفع يديه إلى السماء داعيًا: “اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ“. فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله عليه، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار من ذلك الفيء شيئًا، إلا رجلين كانا من أصحاب الحاجة، هما سهل بن حنيف، وأبو دجانة. وهكذا انتقل المهاجرون إلى ديارهم وشرعوا في العمل في حدائقهم وبساتينهم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته القائد يضع في الحسبان منذ الحظة الأولى التأثير المتوقع أن تعكسه قراراته على المجتمع، ثم يقنع ويسترضي مخاطبيه للحيلولة دون وقوع الأزمات المتوقع حدوثها مستقبلًا، وفي النهاية يعلن عن قراره. فلا يقوم بإجراءات عشوائية تتسبب في المشكلات للمسلمين، فيهدر في سبيل حلها الكثير من الجهد والوقت والمال، بل يقيِّم المسألة برمتها بطريقة لا تؤذي روح المؤاخاة منذ البداية، ولا تتسبب في أي نزاع أو فرقة بينهم.
ما حدث في غزوة المريسيع
جلأجل الحل،
كانت الظروف البيئية في شبه الجزيرة العربية قاسية، وكان هذا يتسبب بين الحين والآخر في نزاعات بين الناس. وقد كانت قلة مصادر المياه خاصة والمشكلات الناتجة عنها هي أحد أهم أسباب الفرقة والنزاع. فبعد غزوة بني المصطلق نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش عند ماء يعرف بالمريسيع. وكان هذا البئر هو مصدر المياه الوحيد في ذلك الوقت، وكانت ماؤه قليلة. وبينما كان الناس يستسقون من الماء إذ وقع نزاع بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين، ولم يلبث الجو إلا أن توتر، بل وضرب أحد الرجلين الآخر. فقال الأنصاري: “يا للأنصار”، وقال المهاجري: “يا للمهاجرين”.
فرأى عبد الله بن أُبيّ الذي يحاول دومًا الوقيعة بين المسلمين بكل السبل أنها فرصة سانحة من أجل إفساد المؤاخاة بينهم، فراح يطلق الكلمات التي تشعل الأزمة أكثر فأكثر، وعلى حين كان يرسل رجاله من أجل نصرة الأنصار، كان يقول من ناحية أخرى: “.. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منّتنا، والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلّا كما قال القائل: “سمن كلبك يأكلك”، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ. هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ أنزلتموهم بلادكم فنزلوا، وأسهمتموهم في أموالكم حتى استغنوا، أما والله لو أمسكتم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضًا للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا!”.
أخرج الحيَّان السيوف من أغمادها، وسرعان ما وقفوا جميعًا وجهًا لوجه في موقع الحادثة، وأصبحت الفتنة التي ستتسبب في قتال المسلمين مع بعضهم البعض وشيكة الوقوع. بيد أن أشراف المهاجرين والأنصار تدخلوا، وقاموا بتنبيههم بخطئهم والعمل على تهدئتهم للقضاء على هذا التوتر. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر قدم إلى موقع الحادثة، وقال: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ“. ثم بيَّن بعد ذلك الكيفية التي يجب التحرك بها في مثل هذه الأحوال، فقال: “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا“، فتساءل الصحابة: “يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟” فقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: “تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ“.
لقد أخمدت الفطرة السليمة للصحابة والحساسية التي يتوخاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذا النوع من الوقائع نيران الفتنة التي كانت ستشتعل بين المؤمنين، فقد ندم الصحابيان بداية على خطئهما، وتعانق الجميع مجددًا. وبذلك رُدَّ كيد رأس النفاق في نحره.
حادثة الإفك
لم يكتف رأس النفاق بما فعل في المريسيع، ولم يكن ينتوي التخلي عن أفعاله. ففي طريق العودة من غزوة بني المصطلق افترى على أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها افتراءً عظيمًا، وطعن في شرف البيت النبوي وحرمته. ولم يكتف بهذا، بل كلف أتباعه بنشر هذه الشائعة بين أفراد المجتمع. انتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن ثم خطب في المسلمين في مسجده قائلًا: “يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَنْ أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي“.
فقام سعد بن معاذ وهو سيِّد الأنصار فقال: “يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك”. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قد احتملته الحمية، فقال لسعد: “كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، أما والله أن لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم”. فقام أسيد بن حضير، فقال لسعد بن عبادة: “كذبت .. لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين”. وفي لحظة توتر الجو، حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شرٌّ في المسجد، وهموا أن يقتتلوا.
فنحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم همّه جانبًا، وصعد المنبر يهدئهم، ويسكنهم. ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. وعلى الرغم من أن الجميع قد هدؤوا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل مساعيه نحو الإصلاح حتى لا يبقى أي أثر مما حدث في مثل هذه المواقف في قلوب وأذهان المسلمين، وحتى يتآلف الطرفان معًا، ويحب بعضهم بعضًا بصدق، ويعيشوا جنبًا إلى جنبٍ في طمأنينة وسلام. وبعد مدة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سعد بن معاذ وبعض الصحابة من الأوس إلى دار سعد بن عبادة من أجل القضاء على هذا الشقاق من جذوره، فأجلسهم معًا وأصلح ذات بينهما، وأكلوا من طعام سعد ورحلوا. وبعد مدَّة من هذه الزيارة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه في هذه المرة سعد بن عبادة وبعض الصحابة من الخزرج إلى دار سعد بن معاذ، فجالسهم معًا وأصلح ذات بينهما وأكلوا من طعام سعد ورحلوا.
خلاصة القول
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيجاز: “سِباب المُسْلِمِ فُسوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ“8. فإن المؤمنين إخوة، ويجب عليهم مراعاة حقوق هذه الأخوة في جميع معاملاتهم؛ إلا أنهم بشر، قد يقع بينهم بعض المشكلات، وقد تصل إلى حد القتال والتعدي على الآخر. فيكشف لنا القرآن الكريم الموقف الذي يجب اتخاذه في مثل هذه الحالات، فيقول تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/9).
وإن إصلاح ذات البين وإعادة توطيد أواصر الأخوة والألفة بين المسلمين لهو أمر إلهي وسنة نبوية عظيمة وعمل كبير ينال فاعله جزيل الثواب من الله تعالى. لذا يجب على المؤمنين أن يوحِّدوا صفوفهم، وأن يفعِّلوا مبدأ الشورى من أجل إحلال السلام والألفة فيما بينهم، وأن يتحركوا على وجه السرعة لمواجهة المشكلات قبل أن تؤول الأمور إلى أزمة كبيرة: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/114).
إن تاريخ الإنسانية بمثابة مقبرة للأديان والدول والحضارات. وإن هذه الكيانات التي ظهرت على مرِّ التاريخ وهي تهدف وتحلم بالبقاء على الدوام قد تلاشت ومحيت من على مسرح التاريخ بعد مدة من الزمن بسبب عدم حفاظها على حيوية الوحدة والترابط في بنيانها، ووقوع الفرقة والخلاف بين أفرادها. لأن الكيانات التي تغلبها الفتن، تتعرض بمرور الزمن للفساد، وتتحلل من جذورها، وتُفني نفسها بنفسها، فتؤول إلى حالة من الضعف لدرجة أنها تعجز عن مقاومة الهجمات الخارجية، وعليه تسقط وتهوى في دفعة واحدة وتتلاشى تمامًا. إن الترابط والاتحاد هما المؤسسان والحاميان لأي مجتمع أو كيان أو نظام، وأثمن رأسمال له، كما أنهما من أهم الوسائل والضمانات لبقائه واستمراره في الحفاظ على قيمه ومُثله الخاصة، وتحركه نحو المستقبل بخطى واثقة.
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفًا، فقال: “قَاتِلْ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مَا قُوتِلُوا فَإِذَا رَأَيْتَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَأْتِ بِهِ أُحُدًا فَاضْرِبْهُ بِهِ حَتَّى تَقْطَعَهُ ثُمَّ اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ أَوْ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ“.
Footnotes
- سنن الترمذي، صفة القيامة، 56؛ سنن أبي داود، 4919.
- سنن الترمذي، صفة القيامة، 56؛ أحمد بن حنبل، المسند، 1/164، 165؛ مسند أبي يعلي، 2/32؛ البيهقي، السنن الكبرى، 10/232.
- صحيح البخاري، الصلح، 2؛ صحيح مسلم، 421.
- لمعجم الكبير للطبراني، 13/20.
- صحيح البخاري، فضل ليلة القدر، 2؛ صحيح مسلم، الصيام، 213.
- للاطلاع على مزيد من التفاصيل، انظر: صحيح البخاري، الأذان، 47؛ الصلح، 1.
- سيرة بن هشام، 1/556.
- متفق عليه.