وأخيرا.. بتاريخ ٦١٠ ميلادية يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، التقت الأنوار على جبل النور، وتأسس الرباط بين الأرض والسماء، وجاء ملَك الوحي جبريل الأمين ليبلغ الرسالة إلى محمد الأمين.. فالتقى الأمينان على هذا الجبل، وهكذا بدأت الإنسانية تتحمل أمانة جديدة.. فاستقبل جبل النور نورا، وجاء موسم نوراني جديد في رحلة الإنسانية.. فاحتضن السماويُّ الأرضيَّ ليقول له: “اقرأ”. وكان هذا يعني تحمُّل مسؤولية أشفقت منها السماوات والأرضون.. وكان من الطبيعي أن ينوء الكاهل إذا كان من يحمل يَشعر بمدى ثقل المسؤولية.. بالإضافة إلى أنه ما كان له أن يقرأ وقد كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.. فلم يجلس عند معلّم ليدرّسه، ولم يشإ الله أن يكون له مَرجع يعلِّمه سواه تعالى.
فلذلك ردَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: “ما أنا بقارئ”، فأخذه جبريل وضمَّه وعَصَره حتى بلغ أقصى حدود طاقته، ثم أرسله، فقال: “اقرأ”، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما أنا بقارئ”، فأخذه جبريل وضمه ثانيةً، ثم أرسله قائلا: “اقرأ”، فلما أخذ الجوابَ نفسه ضمه ثالثةً كالأولى، ثم أرسله وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} -حتى بلغ- {مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق:١- 5)، وعنذاك انطلق لسانه فقرأ، ثم انتهى جبريل عنه وانصرف.
نعم، الآن اتضحت القضية، وتبين أنه إذا قرأ الإنسان باسم الخالق الرحيم، فسينطلق به لسانه، فكل ما في الكون من مرئيات ومسموعات إنما خُلق ليُقرأ، وكل موجود في الكائنات آياتٌ إلهية تعبِّر عن خالقها، وليس على الإنسان الذي أَودَع فيه الخالق الإدراكَ إلا أن يتعلم لغاتها حتى يقرأها قراء سليمة.
وتسعون بالمئة من كلمة “آية” التي ودرت في القرآن إنما قُصد بها هذا المعنى، أي كل العناصر الكونية بصغيرها وكبيرها، على العكس مما قد يتبادر إلى الأذهان من أنها الجمل القرآنية فقط.
وكان لابد لتحقيق هذه القراءة وفهمها حق الفهم من توجه تام.. فلا يَفتح القرآن أبوابَه ولا يعطي من كنوزه الثمينة جواهرَه إلا بمثل هذا التوجه والإقبال.
وكان هذا الأمر (اقرأ) توطئةً لما ستُحمل عليه من المهمات والوظائف.. ففي ذلك إيماء إلى لون جديد من القراءة، ألا وهي أن يَقرأ النبي الكريم طبائع الناس الذين كلفه مولاه بحمل رسالته إليهم، فليس له أن يكلمهم بلغة يفهمونه إلا إذا عرفهم جيدا من خلال تحليل شفرات حالاتهم الروحية.
ولما أتم جبريل مهمته غاب عن الأنظار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يزال يشعر بروعة المشهد الذي عاشه وشاهَدَه، ولم يمض كثير من الوقت حتى لاحظ أن لسانه يلهج بعين ما جاء به جبريل قبل قليل.. فقد وعاه قلبه ولا يزال لسانه يردده.
والآن فقد زاد الأمر وضوحا لديه، حيث إنه قد كُلف بإرشاد الناس الذين كان يراهم على خطإ، فقد وقعت المهمة الصعبة على كاهله، وعليه أن ينزل إلى مكة، ويبدأ منهم في مسيرته إلى تعريف العالم بلون جديد من الحياة، وإبلاغهم إلى مستوى جديد من القوام الرحماني.. وعليه أن يسير على نهجِ مَن سبقوه من أنبياء الله، ولكن بفارق، وهو أن يحتضن الإنسانية جمعاء.
فأخذ طريقه إلى مكة للبداية بالمهمة الجديدة.