لما توفيت أمه صلى الله عليه وسلم حضنته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب الذي كان يحبه ويكرمه، فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حين يخرج حتى لا يجلسَ عليه أحد من بنيه إجلالا له. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جَفْرٌ حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم: “دَعًوا ابني فوالله إن له لشأنا”. ثم يُجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويَسُرُّه ما يراه يصنع.. وقد رق عبد المطلب عليه رقة لم يرقَّها على ولده، وكان يقرِّبه منه ويدنيه، ويَدخل عليه إذا خلا وإذا نام.[1]
وفى البيت كان الصبية من أولاد عبد المطلب، والشباب من الرجال والنساء، كان فيه حمزة والعباس، وهالة زوج عبد المطلب، فهي ذات رحم، بل كانت تعد كخالته، لأنها ابنة عم أمه، وهى ربة البيت الراغبةُ لبيت زوجها الكريم، ولذريته الأطهار، فكانت تحبوه من عطفها ما تحبوه لولدها، فكان في وسط مملوء بالعطف والصلاح، فما قهره يتمه، ولا أرهقه فقدُ أبويه، وإن لم يكن عزه كمثل عزهما، ولا عطفه كمثل عطفهما، ولكن من حواليه، لم يبقوا عطفا يستطيعونه إلا قدموه[2].
وكان لا يأكل يعني عبد المطلب طعاما إلا يقول عليّ بابني أي أحضروه، قال: وكان عبد المطلب إذا أتي بطعام أجلس رسول الله ﷺ إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤْثره بأطيب طعامه.[3]
فحباه عبد المطلب بالعطف الأبوي، فكان ينسبه إليه مباشرة فلا يقول ابن عبد الله، ولكن يقول ابنى، ليأتنس به ويؤنسه، ويمنع عنه الإحساس بغربته بين أولاده، ولكيلا يحس بأنه دونهم، ويفضله عليهم فى المجلس. ليمنع قهر اليتم، فألقى الله سبحانه محبة منه عليه.[4]
كفالة عمه أبي طالب
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين مات عبد المطلب، فذاق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مرارة اليتم مرة ثانية كانت أشد من الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ير أباه، ولم ينعم بعطفه وحنوه، فكان الشعور بفقده شعورا عقليا تقليديا، وكان الشعور بفقد عبد المطلب شعورا حسيا تجريبيا، والفرق بينهما واضح.[5]
ولما حضرته الوفاة أوصى به صلى الله عليه وسلم إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب، وكان أبو طالب ممن حرَّم الخمر على نفسه في الجاهلية. فقام أبو طالب بكفالته وحفظه وحياطته حق القيام فكان يكون معه. وكان أبو طالب لا مال له ولكنه كان جوادا سخيا. وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده. وكان لا ينام إلا إلى جنبه. ويخرج فيخرج معه. وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط. وكان يخصه بالطعام. وكان إذا أكل عيالُ أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا. وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا. فكان إذا أراد أن يغذيهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني. فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكلُ معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك! وكان الصبيان يصبحون رُمصا[6] شعثا، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا.[7] وقد زاده حبا في نفسه ما كان يتحلّى به النبي في صباه من طيب الشمائل، وكريم الاداب في هيئة الأكل، والشرب، والجلوس، والكلام، مما يَعز وجوده في هذه السن بين الصبيان، ويدل على أن الله سبحانه فَطَرَهُ من صغره على خير الخِلال والآداب.[8]
وهكذا نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عز وشرف، عزيزا مكرَّما معظَّما، محفوفا بعناية الله سبحانه وتعالى،ز
وكانت فاطمة بنت أسد زوجُ أبي طالب وأم علي بن أبي طالب تحوط رسول الله وصلى الله عليه وسلم وتكرمه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول بعدُ: “إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ صَنِيعًا بَعْدَ أَبِي طَالِبٍ”
وعن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فجلس عند رأسها، فقال: ” رَحِمَكِ اللَّهُ يَا أُمِّي، كُنْتِ أُمِّي بَعْدَ أُمِّي، تَجُوعِينَ
وَتُشْبِعِينِي، وَتَعْرَيْنَ وَتَكْسِينِي، وَتَمْنَعِينَ نَفْسَكِ طَيِّبًا
وَتُطْعِمِينِي، تُرِيدِينَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ”.
ثم أمر أن تُغسل ثلاثا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه، وكفنها
ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وأبا أيوب
الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلاما أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد
حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه، فقال: “اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا
يَمُوتُ، اغْفِرْ لأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، ولَقِّنْهَا حُجَّتَهَا،
وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا، بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. وكبَّر عليها
أربعا، وأدخلوها اللحد هو، والعباس، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم[9].
[1] ابن هشام، السيرة ١/١٥٦؛ البداية والنهاية ٣/ ٣٤٣، ابن سعد، الطبقات.
[2] أبو زهرة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم ص: ١٢٠.
[3] البداية والنهاية ٣/٣٤٣ ؛ السيرة الحلبية ٢/١٥٩-١٦١.
[4] أبو زهرة، خاتم النبيين ١/١٢٠.
[5] الندوي، السيرة النبوية ١٦٣.
[6] جمع أرمص، والرمص قذر يكون في موق العين، وشعثا: جمع أشعث أي ثائر شعر الرأس.
[7] أبن سعد، الطبقات ٢/ ٩٦.
[8] محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة ص ٢٠٨.
[9] أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (المتوفى: 807هـ) ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، المحقق: حسام الدين القدسي الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة عام النشر: 1414 هـ، 1994 م، ٩/٢٥٨-٢٥٩.