تحكيمه صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود

وبعد مضي عشرة أعوام على زواجه، أي عندما بلغ صلى الله عليه وسلم الخامس والثلاثين من عمره الشريف، وكان أكثر حديث الناس يدور حول إعادة بناء الكعبة التي كانت قد تأثر من عوامل الزمن والبيئة، حيث جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فهدمه ودخلها وصدّع جدرانها، بعد توهينها من الحريق الذي أصابها، لما بخرتها امرأة فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها.. حتى إن رجلا استطاع أن يخترق جدارها ليسرق ما في بئر بداخلها من الحلي والمتاع الثمين.. فكل هذه الأمور أدت بقريش أن تقرر إعادة بناء الكعبة أو ترميمها.

وكان الريح قد رمى بسفينة في ساحل جدة، فتحطمت، وكانت السفينة لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا.

فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها، فأعدوه لسقف الكعبة. وكلموا الرومي باقوم فقدِم معهم. وقالوا: لو بنينا بيت ربنا.

فلما أجمعوا على هدمها قال بعضهم: لا تُدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا؛ لم تقطعوا فيه رحما، ولم تظلموا فيه أحدا. فبدأ الوليد بن المغيرة بهدمها. وأخذ المعول ثم قام عليها يطرح الحجارة وهو يقول: اللهم لم تُرَعْ[1] إنما نريد الخير.[2]  ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضي الله صُنعنا، فهدمْنا.. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله، فهَدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساسِ إبراهيم عليه السلام. وروى ابن إسحاق في سبب انتهائهم عن تلك القواعد: أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عَتَلة[3] بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت [اهتزت] مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.[4]

ثم أخذوا في بنائها، وميزوا البيت. وكانت كل قبيلة تريد أن تنال شرف بناء البيت فأنتهى أمرهم إلى أن يقترعوا فيما بينهم ويتقاسموا الأركان الأربعة، فوقع لكل مجموعة منهم ركن منها، فبنوا. فلما انتهوا إلى حيث يوضع الركن من البيت قالت كل قبيلة: نحن أحق بوضعه. واختلفوا حتى خافوا القتال. ومكثت قريش على تلك الحال التي تأزمت حلقاتها أربع ليال سويا.

 ثم جعلوا بينهم أول من يدخل من باب بني شيبة فيكون هو الذي يضعه. وقالوا: رضينا وسلمنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من دخل من باب بني شيبة. فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا. ثم أخبروه الخبر. فوضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رداءه وبسطه في الأرض. ثم وضع الركن فيه. [ثم قال: ليأت من كل رُبع من أرباع قريش رجل] . ثم قال رسول الله. صلى الله عليه وسلم: ليأخذ كل رجل منكم بزاوية من زوايا الثوب ثم ارفعوه جميعا. فرفعوه. ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في موضعه ذلك.[5]

وبذلك دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم حربا كانت وشيكة الوقوع، وهذا يدل على رجاحة عقله وحضور بديهته، وعلى علو المنزلة التي بلغها في قومه. وقد روس عن ابن خثيم أنه كان يُتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام. وروي عن الزهري أنهم كانوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.[6]

كاتب المقال: د. رشيد هايلاماز.


[1] “لم تُرَع” هي كلمة تقال عند تسكين الروع والتأنيس والبر في القول. (السهيلي، الروض الأنف ١/ ١٣١).

[2] ابن سعد، الطبقات ١/ ١١٦

[3]  العَتَلة: حديدة كأنها رأس فأس عريضة في أسفلها خشبة يحفر بها الأرض والحيطان.

[4] ابن هشام، السيرة ١/ ١٩٥.

[5] ابن سعد، الطبقات ١/١١٦-١١٧؛

[6] سميرة الزايد، مختصر الجامع فس السيرة النبوية ١/ ١٢٥

Comments (0)
Add Comment