بعد واقعة الفيل، التي هلك بها أبرهة وكثير من جيشه أصبح الناس يتناقلون فيما بينهم الحديث حول ما حل بهم من العذاب إثر دعاء عبد المطلب وتسليمه وتفويضه أمره إلى ربه.. وقد أكد هذا في الأذهان مرة أخرى للناس أنه ليس لأحد أن يريد بفسادٍ هذا البيت الذي رفع قواعده إبراهيمُ وإسماعيل وهما يتضرعان إلى ربهما أن يتقبل منهما وأن يبعث في ذريتهما رسولا منهم يتلو عليهم الكتاب والحكمة.. وها قد آن الأوان لقبول هذا الدعاء!
وكانت آمنة حاملا بمُنقذ الإنسانية، ولكنها لم تكن تشعر بما تعاني منه سائر الأمهات من الوهن على الوهن. بل كانت تعيش فترةَ حملٍ وكأنها في مهب نسمات الرحمة الإلهية. بالإضافة إلى ما كان يُهمَس في أذنيها من البشائر، منها:
” أنها أُتِيَتْ حين حَملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملتِ بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: “أعيذه بالواحد من شرّ كل حاسد، ثم سمّيه محمدا”. [1]
وقد أثار هذا المشهدُ العجبَ في آمنة: كيف ستأتي بولد يتيم ولكنه سيصبح سيد أمته، كما أنها لم تكن لها سابق علم باسم “محمد”. ولا يُعرف في العرب مَن تَسمَّى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، حين سَمع آباؤهم بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب زمانه وأنه يُبعث في الحجاز طمِعوا أن يكون ولدا لهم.[2]
فكانت آمنةُ تَتلقى بين حين وآخر بشائرَ حول هذه الوديعة التي كانت تحملها في بطنها، فتخفِّفُ تلك البشائرُ عنها ما عسى أن تحس بها من الثقل.
منها: أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بُصرى، من أرض الشام.[3]
وفي عشرين من شهر نيسان سنة ٥٧١ الميلادية، وبعد حادثة الفيل بخمسين يوما، الموافق للثاني عشر من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين، عند بزوغ الفجر، تحققت الولادة الشريفة.
وكان عندها حينذاك الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، وفاطمة أم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم، فوَلدت -بكل سهولةٍ- مولودَها ويتيمها الذي ستَنمحي بنوره كلُّ الظلمات، وستَتحقق به البشارة التي لهج بها كل الأنبياء في كل العصور.
نعم كان مولودا لا يشبه سائر المواليد، حيث يُروى عن الشفاء أنها قالت: لما وَلدت آمنة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهلَّ، فسمعت قائلا (أي ملَكا) يقول: رحمك الله، قالت الشفاء: وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الروم.[4]
وعن عثمان بن أبي العاص، قال: حدثتني أمي (فاطمة)، أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلةَ وَلدتْه. قالت: “فما شيء أنظرُ إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن علي”.[5]
ولما وصل خبر مولده إلى عبد المطلب وكان في الكعبة أتى من فوره إلى آمنة وأخد يحتضن هذا النور المرتقَب وعيناه تذرفان دموع الفرح، حيث وُلد لأحب أولاده إليه مولود يتيم سليما صحيحا.. وأخذ يمرر نظره عليه وإذا به يرى بين كتفيه خاتم النبوة الذي كان يتحدث عنه العلماء.
ثم أخذ المولود معه إلى الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له على هذه النعمة الجسيمة.. وكان هذا أول مرة تلتقي فيها الكعبة المشرفة بتوأمها.
ولما قيل له ما سميتَ ابنك؟ فقال “محمدا”، قيل له كيف سميت باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال إني لأرجو أن يَحمده أهلُ الأرض كلهم،1 وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب، كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرَف في السماء وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها.. فقصها، فعُبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا، وقد أصبحت هذه الرؤيا بمثابة تأكيد لما حدَّثته به أمه حين قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة فإذا وضعته فسميه: محمدا.[6]
وفي اليوم السابع من ولادته ختنه جده على عادة العرب.[7]
وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية. وقد أعتقها أبو لهب لما بشرته بولادة ابن أخيه، فلما مات أبو لهب رآه العباس في النوم في حال سيئة. فقال: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم نذق بعدكم رخاء، غير أني سُقيت في هذه بعتاقتي ثويبة، وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.[8]
وبما أن ثويبة هذه كانت قد أرضعت حمزة رضي الله عنه أيضا، فهو أخوه صلى
الله عليه وسلم من الرضاعة.[9]
[1] ابن كثير، البداية والنهاية ٢/ ٢٦٣.
[2] أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، ٣/٩٥.
[3] ابن هشام، السيرة ١/١٤٦.
[4] كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ٢/٢٢٥.
[5] أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني (المتوفى: 458هـ، أبو بكر البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، دار الريان للتراث الطبعة: الأولى – 1408هـ – 1988م، ١/١١٠.
[6] السهيلي، الروض الأنف ٣/٩٥.
[7] المباركفوري، الرحيق المختوم ص ٦١. وهناك روايات تقول: إنه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا، وأخرى تقول: إن جبريل ختنه حينما شق صدره وهو في ديار بني سعد عند حليمة. ولكننا ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه انطلاقا من الرسول صلى الله عليه وسلم يمثل الكمال من كل النواحي، وهو القدوة بكل أحواله لأمته، فلا ينبغي تلمس الخوارق في مثل هذه الحالات، علما بأن تلك الروايات قد تكلم فيها أهل العلم بالنقد بما يقدح في صحتها. (انظر: ابن كثير، البداية والنهاية ٣/ ٣٢٤؛ السيوطي، الخصائص الكبرى، ١/٩١؛ الحلبي، السيرة ١/٨٧-٨٨).
[8] البخاري ٥/١٩٦١ (٤٨١٣)؛ ابن هشام، السيرة، ابن كثير، البداية والنهاية ٣/٣٢٢؛ ابن سعد الطبقات ٢/٨٧. وذكر ابن سعد في رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَصِلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها، وهي يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يبعث إليها بصلة وكسوة، حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع، مرجعَه من خيبر.
[9] وقد أرضعت حليمة السعدية أيضا حمزة رضي الله عنه، وبهذا يكون أخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة بطريقين. (انظر: البخاري ٢/٩٣٥ (٢٥٠٢)).