كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد وعد المسلمين بأن قريشا لن تغزوهم في المدينة بعد الخندق. وقد كانت مشاعر المسلمين لا سيما المهاجرين قد تأجّجت تهفو لزيارة مكة البلد الحرام، وطنِ المهاجرين الذين طالت غربتُهم واشتد حنينهم.
إنهم يعيشون منذ ستّ سنوات على هذا الأمل، وبعضهم ربما نزح من الحبشة إلى المدينة مباشرة، دون أن يرى بلده مكة، فطالت غيبته أكثر… ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزرع فيهم الأمل ويعدهم بفرج قريب، بعد أن استنفدت قريش كل طاقتها وخابت كل جهودها وضاعت كل أحلامها وانتصرت القلة المؤمنة المظلومة.
صلح الحديبية
يروي ابن اسحاق أنه في السنة السادسة للهجرة وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعمرة. ولهذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة من أصحابه إلى مكة ليس معهم إلا السيوف في القِرَب. وقد وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وهي مكان يبعد عن مكة ما بين 50 أو60 كم تقريباً. وقد عمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتخاذ كل السبل ليُقنع أهل مكة بأنه جاء مُعتمراً، ولم يأت محارباً، ومع ذلك فقد رفَضوا تركه ومن معه من المسلمين يعتمرون، ويدخلون المسجد الحرام، إلا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حافظ على الصبر، والأخذ بأسباب السلام ما أمكن.
لقد اضطر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوقف في الحديبية وأمر أصحابه بالتوقف، على الرغم من إيمانه بنفسه وشجاعة أصحابه. كان يعلم أنه لو التجأ إلى الله تعالى وتوكّل عليه وقاتلهم فسيَغلبهم، غير أنه لم يفعل ذلك وفضّل الانتظار. وعندما وصل المنع والعرقلة مرحلة معينة تبايع مع أصحابه.. تبايع على القتال حتى الموت في سبيل الإسلام، هذه البيعة التي باركها الله تعالى من فوق سبع سماوات: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (الفتح: 18-19)
والحقيقة أن قرَيشاً التي كانت تظهر أنها تملك الكعبة اضطرت إلى قبول الأمر الواقع في معاهدة الصلح التي وقعت عليها كما وقع عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ قالت للرسول صلى الله عليه وسلم : «وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا الكعبة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القِـرَب لا تدخـلها بغيرها»، ومعنى هذا أن المسلمين شركاء في الكعبة أيضاً، وأن لهم ديناً حنيفاً على ملّة إبراهيم، بينما كان المفهوم السائد حتى آنـذاك أن مكة والكعبة ملك للمشـركين، وما كان لأحـد أن يضـع شـعائر خاصة ومختلفة، بينما كـان مـن ضمن شروط معاهدة الحديبية حرية المسلمين في أداء الحج والطواف حول الكعبة بشعائرهم الخاصة بهم.(1)
وبعد مفاوضات ظهرت فيها إساءات من رسل قريش، وآخرهم سهيل بن عمرو، وغضب لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتغاضى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم إيثاراً للسلام على الحرب، وقعت اتفاقية الهدنة والسلام لمدة عشر سنوات بين الطرفين. وسرعان ما تبين للمسلمين أن إيثار الرسول للسلام كان خيراً وبركة وفتحاً مبيناً.
لقد كان المفاوض من قِبل قريش «سُهيل بن عمرو» يَعُدّ كل تنازل يقتطعه من المسلمين نصراً كبيراً له، لذا فإنه كان يعترض حتى على أصغر المسائل؛ فمثلاً عندما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليّاً رضي الله عنه ليكتب معاهدة الصلح مع قريش، قال له: «اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)» فقال سهيل: «اكتب: باسمك اللهم» فكتبها، ثم قال صلى الله عليه وسلم اكتب: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه أن يمحو كلمة «رسول الله» التي كان قد كتَبها، وتردّد عليّ رضي الله عنه ، إذ صعب عليه محو كلمة «رسول الله» فقام النبي صلى الله عليه وسلم بمحو تلك الكلمة بنفسه بعد أن دلّه على مكانها عليّ، وقال: «اكتب؛ هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرده عليه».
وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرط الجائر لحكمة رآها على الرغم من تبرّم بعض الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وهكذا يرينا صلح الحديبية بملابساته وشروطه المدى الذي وصل إليه إلحاح الرسول صلى الله عليه وسلم على طلب السلام؛ لأن ظروف الأمن والسلام هي المناخ الملائم لدعوة الإسلام التي يراد لها الدخول إلى القلوب والعقول. ومن البديهي أن مناخ الحرب والقتال لا مكان فيه لتفتح العقول والقلوب على الحق، ولا على الحوار الإيجابي. وكما أثبت التاريخ، فقد كان هذا الصلح على ما فيه من إجحاف فتحاً مبيناً، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ (الفتح: 1)
فتح مكة
أما فتح مكة في الثالث والعشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة، فهو الآية العظمى على مدى الأخلاقية النبوية الإنسانية التي التزم بها الرسول صلى الله عليه وسلم مقدماً أرفع نموذج للتسامح والتواضع والسموّ الذي عرفته البشرية عبر تاريخها.
إننا لا يَعنينا هنا رصد تطور الأحداث بعد الحديبية، فموضع ذلك هو الدرس التاريخي وكتب الحديث والسيرة، لكن الذي يعنينا هنا هو الوقوف عند الخلُق الحربي الذي طبَّقه النبيّ الفاتحُ لبلده مكة، مع التذكير -في البداية- بكل ما عاناه الرسول من أهل مكة خلال أكثر من عشرين عاماً، منها ثلاثة عشر أمضاها هو وصحابته تحت مِطرقة التعذيب والأذى والتشرد في الأرض بحثاً عن ملجأ آمن. وعندما هاجر لُوحق ورُصدتْ الأموال الطائلة لمن يغتاله، بعد أن فشلت مؤامرة قتله في داخل مكة… ثم -أخيراً- الأعوام الثمانية التي قضاها الرسول في مكة، وهم يلاحقونه ويتربصون بكل أصحابه، ولا تمرّ الأيام أو الأسابيع إلا وهم متآمرون عليه مع اليهود أو المنافقين، أو مُوعِزون لبعض القبائل بترويعه في المدينة والسطو على مسارح المسلمين التي تسرح فيها دوابهم، أو مقاتلون له مباشرة طوراً ثالثاً.
وها هي السنوات الطوال قد مضت، وها هو أنبل الناس وأزكى الناس، الذي حورب واضطهد يعود فاتحاً لبلده. أجل، بلده مكة التي أُخرج منها وهو يذرف الدمع ويقول: «والله إنك لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ».
إنها ذكريات أليمة كل الألم، بشعة كل البشاعة. وإن أفضل الناس في مواجهتها هو الذي يلتزم «العدل» -على الأكثر- فيقتص لنفسه ولأصحابه، ويستردّ ما اغتصب منه ومنهم، وهو كثير، ويطلب التعويض الكافي عن الاغتراب والملاحقة طيلة هذه المدة الطويلة.
ولعلّ أقل ما يُقبل ويغتفر لهذا الفاضل أن يَدخل بلدَه شامخاً رافعاً رأسه معتزاً بمجده الذي وصل إليه، وبحقه الذي انتزعه. لكن الرسول الأخلاقي الذي وصفه ربُّه بالخلق العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، لم يكن مثل أفضل الناس؛ بل إنه لولا بشريته التي نؤمن بها، وعبوديته التي كان يعدّها وِسامه الأرفع.. لولا البشرية والعبودية لقلنا: إنه لم يكن من الناس، وهو يدخل مكة… لقد كان ملاكاً طاهراً ارتفع عن أكبر مدى تستطيع أن ترنو إليه البشرية أو أن تطمح في الوصول إليه.
ونظر إلى آلاف الوجوه التي فعلت بـه الأفاعيل طيلة عقدين من الزمان، بعد أن دخل مكة من أعلاها، من كداء، وهو يضع رأسه -وهو راكب- على دابته، تكاد تلامس رأسه ظهر الدابة تخشّعاً وخضوعاً لله، وإقراراً بأنه صاحب الفضل في تدويل الأيام، وفي إعزاز الأذلاّء. ولقد كانت رأسـه تلمس واسطة الرحل من شدّة الانحناء وهو -مع ذلك- مشغول عن نفسه، وعن أية نظرات ترقبه وهو داخل دخول النبي المنتصر، وليس دخول «الملِك» كما قال أبو سفيان للعباس رضي الله عنه : لقد أصبح مُلكُ ابن أخيك عظيماً.. فصحّح له العباس رضي الله عنه ، وقال له: إنها النبوّة..
إنه صلى الله عليه وسلم مشغول عن الناس بقراءة سورة الفتح، بينما يخفق قلبه بأروع المشاعر؛ لأنه في طريقه إلى المسجد الحرام والكعبة، وقد فعل ما أراد، واستلم الحجر الأسود، طاف بالبيت، ولم يكن محرماً ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الإسراء/81)، ثم دخل إلى جوف الكعبة، فأزال آثار الوثنية في داخلها كما أزالها من خارجها، ثم دار في البيت يُوحّد الله ويكبره. وكل ذلك، وهم ينظرون إليه، إنهم في وادٍ بعيد عنه، إنه في الآخرة، في الملأ الأعلى، أما هم فيفكرون هلِعين فيما ينتظرهم، متذكرين ماضيهم الأسود معه.
ونظر إليهم… وهم ينتظرون القضاء العادل… لكنهم مع ذلك كانوا يعرفون أن محمداً هو محمد رسول الرحمة. إنه لن يعاملهم بالعدل. فلو عاملهم بالعدل لانتهى كل شيء. ثم فاجأهم النبيّ الأعظم بالسؤال: «يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟» وكأنما كان السؤال نفسه طوق نجاة لهم. فسرعان ما أجابوه قائلين: “خيراً… أخ كريم، وابن أخ كريم”، قال: “فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: ﴿لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ (يوسف: 92) اذهبوا فأنتم الطلقاء”
لقد وُلدوا من جديد، ودبت في أوصالهم الحياة، وما كانوا يتخيلون أن يَنقَذوا –هكذا- في دقيقة واحدة، وبعبارة واحدة، «اذهبوا، فأنتم الطُّلقاء». لكنه سموّ محمد صلى الله عليه وسلم في حربه.. سموه في عفوه.. سموه في إكرام من ظلموه.. وفي تأليف قلوبهم. فإن أكبر ما يهمه كنبي أعظم أن يدخل إلى قلوبهم، إنه لا يريد الطاعة كملِك وإنما يريد الطاعة مع الحبّ كنبيّ بعثه الله رحمة للعالمين، وقد تحقق له ما أراد.
ثم تتوالى آيـات عظمته، فيرفض أن يأخذ مفاتيـح الكعبة مـن عثمان بـن أبي طلحة ويعطيها للعباس رضي الله عنه أو لعليّ رضي الله عنه (بعض بني هاشم قومه)، وقال: “اليوم يوم برّ ووفاء”. فالنبي الأعظم لا يعرف الانتقام.
وعندما كانت الجيوش الإسلامية تزحف على مكة في ظل أوامر صـارمة بعدم إراقة الدماء إلا في الدفاع عن النفس أخطأ أحد القادة -وهو الرجل العظيم سعد بن عبادة- فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم يذلّ الله قريشاً. فانتُزعت منه الراية بأمر الرسول وأعطيت لابنه قيس وصَحح الرسول صلى الله عليه وسلم العبارة حتى لا تذهب إلى الناس وتروّعهم قائلاً: «اليوم يوم المرحمة… اليوم يُعزّ الله قريشاً..». وقد صدق… فلولاه ولولا دخول مكة في الإسلام لما كانت لمكة قيمة، ولَمَا كان لقريش قيمة أبداً.
_______________
(1) الرسول قائداً (التنظير والتطبيق) لمحمد فتح الله كولن، ص:142-144.
كاتب المقال: عبد الحليم عويس، مصر
منقول من مجلة حراء