ومن الواضح أن الوقت كان وشيكا.. وكاد الشفق أن يطلع.. حيث كانت تظهر له أمارات عديدة تبشر بذلك..
فمن ذلك أنه بدأت الرؤى الصادقة تتكثف وتتكرر، فكلما أغمض عينيه، انفتح على عالم روحاني مشرق، فتأتي مثل فلق الصبح.. فيشاهد تحقُّقَها في عالم الشهادة، فكانت هذه رسالاتٍ من عالم الماوراء، ومقدماتٍ للوحي، تضافرت في الأشهر الستة الأخيرة.. وقد دفعته هذه الأحداث إلى التفكر العميق في ذلك النوع من العلاقة بين العالم المادي والمعنوي.. ولربما أصبح ذلك تمرينا له على الوحي الذي أوشك زمانه..
وكان صلى الله عليه وسلم يتحدث لخديجة عما يراه من الرؤى، فتقوم هي بدورها بتفسير رؤياه في ضوء ما ترسَّخ في ذهنها وأصبح بمثابة قناعة تامة لها، فتحاول أن تدعمه في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها..
ثم رأى في منامه أن سقف بيته نزعت منه خشبة وأدخل فيه سُلَّم من فضة ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث فمُنع الكلامَ فقعد أحدهما إليه والآخر إلى جنبه، فأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه، فأدخل يده في جوفه ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجد بردها فأخرج قلبه فوضعه على كفه فقال لصاحبه: نعم القلب قلب رجل صالح. فطهَّر قلبه وغسله ثم أدخل القلب مكانه ورد الضلعين، ثم ارتفعا ورفعا سُلَّمهما، فإذا السقف كما هو، فذكر لخديجة بنت خويلد، فقالت له: أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا، هذا خير فأبشر. [1]
أجل، لقد خط القدر الإلهي لهما طريقا، وكان عليهما أن يسلكا ذلك الطريق خطوة فخطوة.. وكانت أمنا خديجة واعية بخطورة هذا الطريق، وكانت لذلك واثقة بصحة النهج المسلوك، وكانت سندا لسيدها في المسير.
كان الوجود بأكمله في الاستقبال
وعلاوة على كل ما سبق، كان كلُّ ما يمر به الحبيب المصطفى من شجر أو حجر أو أي كائن آخر يَتخذ منه موقف التبجيل والاحترام، ويُسلّم على هذا النبي المنتظر.. ولا غرو في ذلك.. فقد بدأت بشائر قدومه بنزول الإنسان الأول على وجه الأرض، وتواصلت بمن توالوا بعده من الأنبياء العظام، ومن تربَّوا في ظلالهم من الأولياء الكرام، وأنَّى للكون أن يتخلف عن الاستعداد لتشريف سيد الأنام، الذي هو السبب في وجود الكون وما عليه.
فكان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت، ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.: فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله، وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان.
وفي
ذلك قال لخديجة: “إِنِّي إِذَا خَلَوتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ
وَاللَّهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا”، فقالت: معاذَ الله! ما كان
الله ليفعل بك، فوالله إنك لَتؤدي الأمانة، وَتَصِلُ الرَّحِم، وَتَصْدُقُ
الْحَدِيثَ.[2]
[1] ابن كثير، السيرة النبوية، ١/٤٠٥؛ وانظر: البيهقي، دلائل النبوة ٢/١٤٢؛ وقال المعلق على كتاب: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة للصوياني: حديث حسن بالشواهد، له سندان مرسلان، أرسلها عروة والزهري، لكن يشهد له ما بعده.