بقلم: يوجَل مان
إن الإرادة والحذر والتوكل هي الركائز الثلاث التي كانت تقوم عليها تحركات النبي صلى الله عليه وسلم وحملاته وأحواله، فقد أعطى الإرادة حقها عند قيامِه بوظيفة النبوة، ونَقْلِه القرآن إلى الحياة العملية، وإصلاحِه الفرد والأسرة والمجتمع وإعادة هيكلهم، وحلِّه المشكلات التي تواجهه. فهو من ناحيةٍ يثق ويؤمن بأن الله ناصره وموفقه، ومن ناحية أخرى كان يستعمل العقل والمنطق والمحاكمة العقلية حتى النهاية ليقوم بما يتوجب عليه في مسألة الأخذ بالأسباب، فكان يتخذ جميع الاحتياطات والتدابير من أجل حل المشكلات التي تواجهه، ولا يخطو خطوةً إلا في المكان والزمان المناسبين. ثم يعقب ذلك بالتوكل على ربه كأحد متطلبات احترام وتقدير الإرادة الإلهية وطاعة الأوامر الربانية. كان يتعامل دائمًا مع الموضوع ككل -مع الجوانب التي تواجهه- مع مراعاة ميزان التوكل والأخذ بالأسباب. وكل جانب من جوانب حياة الدعوة التي استمرت ثلاثًا وعشرين سنة مليئة بهذه الأمثلة. ونريد هنا التركيز على غزوة أحُد التي يجب ألا يُنظر عليها على أنها مجرد حرب، ونبيِّن هذا الجانب فيها.
المسلمون الذين تُركوا في مكة
أظهرت التطورات بعد هجرة الحبشة أن عدم تقبل المشركين للمسلمين لم يقتصر على مكة فحسب. فقد كان المشركون يهدفون إلى إطفاء نور الله، ولا يريدون أن يبقى أي مسلم يتنفس على وجه الأرض. لذلك فإن أكبر تهديد وخطر على المسلمين أينما ذهبوا هم أهل مكة. ذلك أن الرسائل التحذيرية التي أرسلوها إلى الفئات غير المسلمة في المدينة المنورة بعد الهجرة واستفزاز القبائل المجاورة ضد المدينة المنورة تشير أيضًا إلى هذه الحقيقة1.
ولقد كان تفادي التهديدات والمخاطر القادمة على مستوى الأسباب مرهونًا قبل كل شيء بالاطلاع على مجريات الأحداث في وقتها. فإن الهجمات المفاجئة قد تكون سببًا في حدوث نتائج مفجعة. ولذا أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقاء بعض المسلمين في مكَّة2. فكان هؤلاء الذين ما زالوا يخفون هويتهم عن أهل مكة، يجسّون نبض المكيين، ويهيئون الجو في مكة لصالح المسلمين، ويبلغون المدينة بالخطط والمشاريع المرسومة للقضاء على الإسلام في وقتها وساعتها.
وأحد هؤلاء الذين تركوا في مكَّة لهذا الغرض هو سيدنا العباس رضي الله عنه. ورغم أنه كتب رسالة يبدي فيها رغبته في الهجرة إلى المدينة المنورة، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه: “أنَّ مُقامَكَ مُجاهِدٌ حَسَنٌ“3. فأقام فيها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت المهمة الموكلة للعباس رضي الله عنه ذات أهمية حيوية في بيئة يهدد فيها المكيون وجود المسلمين.. فقد أبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في رسالة بعثها إليه بخروج أهل مكة للثأر لقتلاهم في بدر والقضاء على المسلمين واستئصال شأفتهم. وقد مكَّن ذلك المسلمين من إجراء الاستشارات اللازمة، وتعبئة الجيش وتجهيزه، واتخاذ جميع أنواع الاستعدادات والتدابير اللازمة للدفاع.
شبكة التخابر السريع
كان الاطلاع في الوقت المناسب على التطورات في مكة وما حولها لا يتأتى إلا من خلال إنشاء شبكة تخابر واتصالات سريعة. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يتابع المنطقة من كثب كان يرسل الدوريات الأمنية والاستخبارية، ويخرج بنفسه للاستطلاع، ويوقع المعاهدات مع القبائل المقيمة بين مكة والمدينة، وينشئ شبكة الاتصالات والاستخبارات السريعة. كانت المسافة بين المدينتين سبعة أو ثمانية أيام وفق مقاييس ذلك الزمن. بيد أن رسالة العباس التي تُطْلِعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج أهل مكة قد وصلت في غضون ثلاثة أيام 4. وفي حُنين أيضًا أرسل أوس بن عبد الله الأسلمي وهو في العرج غلامه مسعود بن هنيدة ليبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخطر القادم نحوهم 5. كذلك عندما رأى عمرو بن سالم الخزاعي أهل مكة يتجمعون في ذي طوى، تحرك على الفور مع عدد قليل من الناس وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضع 6. وهذا يدل على توافر الناس والخيول المتأهبة في نقاط محددة للتخابر ونقل المعلومات.
السِّرِّية
جاء كتاب العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يركب راحلته على باب مسجد قباء، ففك ختمه ودفعه لأبي بن كعب فقرأه عليه واستكتم أبيًّا 7، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع في بيته، فدخل منزل سعد بن الربيع فقال: “فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؟” فقال سعد: “لا”. فأخبره بكتاب العباس بن عبد المطلب، وجعل سعد يقول: “يا رسول الله، إني لأرجو أن يكون في ذلك خير”، وقد أرجفت يهود المدينة والمنافقون، وقالوا: “ما جاء محمدًا شيء يحبه”.
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستكتم سعدًا الخبر. إذ كان يريد أن يخبر أهل المدينة بنفسه بتحرك المشركين بقوة كبيرة للهجوم على المدينة المنورة في الوقت المناسب بعد أن يقوم بالاستشارات والتقييمات اللازمة دون أن يعطي الفرصة لوقوع الذعر والخوف في نفوس الناس. كما تتاح له الفرصة أيضًا ليجس نبض اليهود والمنافقين كذلك. بيد أن زوجة سيدنا سعد بن الربيع التي لم تدرك مدى حساسية الموقف قد سمعت بالأمر، ووصل الخبر إلى المدينة قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم 8.
الدوريات والمناوبات الأمنية
شكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فور عودته إلى المدينة وحدات تأمينية، وكلفها بتأمين وحراسة ضواحي ومشارف المدينة. كما كُلف بعض الصحابة بحراسة الحجرة النبوية ليلًا تحسبًا لأي احتمال كان 9.
الاستشارة واقتراح البقاء في المدينة
وقد أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشورى أهميةً كبيرةً لحل المشكلات. فقد كان على رأس التدابير التي اتخذها لمواجهة المشكلات والتغلب عليها، هو الحصول على القناعة العامة في القضايا التي تهم المجتمع وجعل الجميع جزءًا من الحل. كما فعل قبل بدر في مسألة جيش أبي جهل التي تطورت فجأة، فاستشار أصحابه واتخذ قراره بناءً على ذلك. وفي هذه المرة أيضًا أراد أن يطَّلع على القناعة العامة التي تسود الجميع في مواجهة الخطر المحتمل، وتحديدهم سويًّا الخطوة التي يجب اتخاذها.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى البقاء في المدينة والدفاع عنها10. فإن المدينة حتى مقدمه صلى الله عليه وسلم كانت تعج بالثأر والحروب الأهلية التي استمرت 120 عامًا، لذا تجد البيوت حصينة ومتلاصقة في بعضها، وكأنها قلاع منيعة. كما كانت أحياء القبائل محاطة بالأسوار. فإن وقع القتال داخل المدينة، تفرقت قوات العدو بعدد شوارع المدينة وأزقتها، وبذلك يُحبط تفوقهم العددي. كما أن النساء والصبيان سيرشقون المشركين بالحجارة من فوق بيوتهم الحصينة، فيكون الجو مهيأً للمسلمين لقتال أعدائهم والتغلب عليهم. كما أن ذلك سيحول دون خيانة اليهود والمنافقين وهجومهم على المسلمين من الخلف.
درعان اثنان
أثمرت المشورة في النهاية بالخروج لملاقاة المشركين بالقرب من أحُد. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته المباركة ومعه سيدنا أبو بكر وعمر فألبساه درعين اثنين. والواقع أن الله تعالى قد تكفل بحمايته صلى الله عليه وسلم وحفظه، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/67)، ومع ذلك فقد لبس صلى الله عليه وسلم أيضًا مغفره ودرعه مراعاة للأخذ بالأسباب، بل وقد اتخذ جميع التدابير والإجراءات الاحترازية التي يتطلبها القتال 11.
حد السن المسموح له بالقتال
لم يضم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحُد كما هو الحال في بدر حديثي السن ممن لا يقدرون على القتال من الشباب إلى صفوف الجيش على الجبهة12. وكان من العوامل التي دفعته لاتخاذ هذا القرار هو رحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم إلى جانب تجنب احتمال ضعف السرايا التي تضم هؤلاء الشباب، فقد يراهم المشركون صغارًا ويستخفون بهم، فيقتلونهم في بداية الحرب مما يؤثر بالسلب على معنويات المسلمين. فإن الحالة النفسية والمعنوية للجنود لها عظيم الأثر في سوق الجيش إلى طريق النصر. وقد خطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة مرات بما فيها خطبة الجمعة حتى بداية الحرب، من أجل رفع هممهم وتحفيزهم وشد عزمهم، وأخبرهم بأن نصر الله وعونه هو حليفهم إن صبروا13.
حصون منيعة للباقين في الخلف
قبل الانتقال إلى أحُد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال والمرضى وكبار السن الذين بقوا في المدينة في حصون آمنة ومنيعة؛ وكلَّف الشباب الذين لم يُسمح لهم بالذهاب إلى الجبهة بسبب حداثة سنهم، بحمايتهم. وبهذه الطريقة، أمَّن المدنيين، وكلف الشباب الذين حزنوا على عدم انضمامهم لصفوف الجيش بمهمة عظيمة، وحال دون انشغال الجنود الذين ذهبوا إلى الجبهة بالتفكير في أهليهم وأسرهم من خلفهم. لأن بعض المجموعات التي لم تشارك في أحُد -وعلى رأسها بنو النضير- لا يمكن التنبؤ بما ستفعله بالضبط.
التأهب والحذر
في يوم الجمعة 14 من شوال في السنة الثالثة من الهجرة، بعد صلاة العصر، تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى أحُد، وفي الطريق قال لأصحابه: “مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ (قريش) مِنْ كَثَبٍ؟ فقال أبو خيثمة: “أنا يا رسول الله”، فسلك بهم طريقًا بعيدًا عن أعين المشركين14. كان الهدف الأساسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا هو حماية جنوده. لأن جيشه يمكن أن يُحاصر فجأةً دون أن يتخذ موقفًا دفاعيًّا، وقد يؤدي الهجوم غير المنظم إلى مشاكل وخيمة.
عدم الهجوم دون إذن
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدم إلى أحُد، ويوصي أصحابه: “لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ“15. لأن أي هجوم سيشن دون تمركز الجنود في مواقعهم وتأهبهم للقتال وقبل اتخاذ جميع الاستعدادات اللازمة سوف يدفعهم لقتال المشركين دون تأهب. ولا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخاطر بهم بحال من الأحوال.
اختيار يوم السبت موعدًا للقتال
انطلق كعب بن الأشرف سيد بني النضير الذي لم يستطع تحمل انتصار المسلمين في بدر على الفور إلى مكة في وفدٍ مكوّن من ستين نفرًا، رغم علمه بأن هذا خيانة ونقض لاتفاقية ووثيقة المدينة المنورة. وكان هدفه رفع الروح المعنوية لأهل مكة، واستفزازهم، وتشجيعهم للثأر لقتلاهم في بدر.
ولما وصل مكة أعلن صراحةً عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر16. فتأثر أهل مكة برثاء كعب قتلاهم في بدر، وأقسموا أنهم سينتقمون لقتلاهم في بدر، وعقدوا الأيمان على ذلك. وهكذا أقنع كعب أهل مكة بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم -في أحُد- مرة أخرى، ليس هذا فقط، بل عاهدهم على القتال معًا 17.
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيع كعب ووعوده للمكّيين. وعلى ذلك فمن المحتمل أن يقدم بنو النضير كل أنواع الدعم للمكيين، بل ربما يهاجمون المدنيين الذين تركهم المسلمون في الخلف أو يباغتون المسلمين على الجبهة من الخلف. في كلتا الحالتين سيكون المسلمون بين نارين.
خرج جيش الشرك من مكة في الخامس من شوال، ووصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خبر تحركهم في الثامن من شوال، ووصل المشركون إلى أحُد وتمركزوا فيها يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال18. كان بمقدور رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواجه أهل مكة على الفور ويستفيد من تعبهم بعد استعداد دام أربعة أيام. إلا أنه واجههم بعد ثلاثة أيام في يوم السبت الخامس عشر من شوال19. فيوم السبت كان يوم راحة اليهود ولم يكونوا يقاتلون في ذلك اليوم. لذا كان من غير المحتمل أن ينتهكوا مقدساتهم ويهاجموا المسلمين من الخلف. وهكذا تخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطر بني النضير ووعْدِهم المكيين بالدعم بتزامن الحرب يوم السبت. والحقيقة أن مخيريق وهو من يهود المدينة الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم “مخيريق خير يهود” لموقفه يوم أحُد، كان قد دعا اليهود إلى الالتزام بالعهد ونصرة المسلمين، فتحججوا بيوم السبت ولم يشاركوهم 20.
المناوبات والدوريات
وفي طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحُد نزل بجنده في الشيخين. لكن لا أمان للمكيين، فكانت مداهمة المكان الذي كان المسلمون يستريحون فيه ليلًا أمرًا محتملًا للغاية. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الاحتياطات اللازمة لهذا الاحتمال، فكلف سيدنا محمد بن مسلمة في خمسين من الصحابة بالمرابطة حول مكان مبيتهم، وكلف آخرين للقيام بدوريات أثناء الليل. والحقيقة أن عكرمة بن أبي جهل أراد أن يهاجم المخيم ليلًا، فلما رأى محمد بن مسلمة أخذ رجاله وعاد 21.
الرماة على الجبل
وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحُد في السَّحر، وبعد صلاة الفجر جعل الرماة خمسين رجلًا من المهرة على تل عينين22. وما دفع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لاتخاذ هذا الإجراء هو كتيبة خالد بن الوليد المؤلفة من 200 فارس. فمن المحتمل جدًّا أن يتسللوا خلف التل ويباغتوا المسلمين من الخلف. والواقع أن فرقة فرسان مكة حاولت مهاجمة المسلمين من الخلف كما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن محاولاتهم دائمًا ما كانت تبوء بالفشل أمام هذا الإجراء الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التنبيه على الرماة
ولقد كان تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أقامهم على الجبل مثالًا مختلفًا تمامًا للحيطة والحذر؛ لأنهم في النهاية بشر، ومن المحتمل أن يقرروا وفقًا لمسار الحرب مغادرة الجبل وترك أماكنهم. ولذلك راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة والطبيعة البشرية، فلم يكتف بتكليفهم بحماية الجبهة فحسب، بل أمرهم كذلك: “إن رأيتمونا تخطَّفَنا الطير، فلا تبرحوا مكانَكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمْنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم” 23. كانت هذه الكلمات تدبيرًا وإجراءً حياتيًّا إزاء مغادرتهم الجبهة دون إذن.
تسليم الجيش ظهره للجبل
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الاحتياطات والتدابير اللازمة لحماية جنوده، انطلاقًا من الرحمة الواسعة التي يشعر بها تجاههم في جميع الجبهات. وكان من أهم هذه الإجراءات تسليم الجيش ظهره للجبل24. فإنه بذلك حال دون أن يتعرض لهجوم من الخلف ويكون بين نارين، ناهيك عن أنه قد أتاح لهم كذلك في حالة التعرض للهزيمة أن يتسللوا إلى الجبل وينقذوا أنفسهم. والواقع أنه عندما انقلبت الأوضاع على المسلمين بعد بضع ساعات من القتال بسبب مخالفة أحد هذه التدابير، حصدوا ثمار هذا الإجراء، فتراجع صلى الله عليه وسلم وجنوده إلى الجبل. فتحول جبل أحُد إلى حصن ينقذ حياة الصحابة25.
التوكل
التوكل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو آخر حلقة في سلسلة التدابير. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطى عقله ومنطقه وإرادته حقها ليتغلب المسلمون على هذه الأزمة، واتخذ جميع الإجراءات والاحتياطات اللازمة من البداية إلى النهاية، ثم توكل على الله ليمن عليه بنتيجة مثمرة لهذه الإجراءات والتدابير التي اتخذها. والواقع أن الإجراء الأخير الذي يجب على العبد اتخاذه في جميع شؤونه هو التوكل على الله. فإن إحالة العبد النتيجة إلى الله تعالى بعد قيامه بكل ما يقع على عاتقه، والالتجاء إليه وحده، والاستعانة به، كل هذا بمثابة نفخ الروح في الإجراءات والتدابير التي يتخذها العبد. فإن كل حركة وكل عمل يُؤدَّى دون وضع التقدير الإلهي في الاعتبار ربما يجر الإنسان إلى جهات مختلفة. فالحكم في النهاية لله الذي تقف وراء مشيئته وتقديره ألف حكمة وحكمة.
ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على موقفه من أخذ الحيطة والحذر في أثناء الحرب وبعدها: فقد تبع المكيين حتى ابتعدوا عن المدينة المنورة -حتى لا يهموا بدخول المدينة المنورة ومهاجمة المدنيين في طريق العودة من أحُد-؛ فخرج في إثرهم مع جنوده وهم مثخنون في جراحاتهم إلى حمراء الأسد حتى يمنع المشركين من العودة والهجوم مرة أخرى. فأقام بها ثلاثة أيام ليبعد أصحابه عن أجواء الفتنة والحرب النفسية التي أثارها المنافقون واليهود بسبب ما ألمَّ بالمسلمين من هزيمة في أحُد. فلم يأخذ صلى الله عليه وسلم معه إلى حمراء الأسد إلا من قاتلوا معه في أحُد وخاصة الرماة، ليظهر لهم عفوه وصفحه عنهم، ويعرب فعليًّا عن مدى ثقته بهم (فكان هذا عاملًا أساسًا في أن يتعافى الصحابة شعورًا وفكرًا وحركةً على جناح السرعة).
النتيجة
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرادته حقها لكي يؤدي مسؤولياته الواقعة على عاتقه كإنسان ومرشد ورئيس وقائد، ولم يقل قط: “إني نبي مُرسل، وقد تعهد ربي بحمايتي، فستمتد يد القدرة وتنقذني أنا وأمتي، فلنجلس في بيوتنا وننتظر هلاك أعدائنا، أو نذهب إلى أحُد ونشاهد الملائكة تدمر أهل مكة تدميرًا…”. لأن إعطاءه صلى الله عليه وسلم الإرادة حقها في مواجهة المشكلات، واتخاذه جميع الإجراءات والتدابير والاحتياطات اللازمة، ثم تسليمه أمره وتوكله على الله؛ هو أمر قرآني، وجزء لا يتجزأ من أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخصيته وطبيعته. لدرجة أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله: “أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّل؟” فقال صلى الله عليه وسلم: “اعقِلْها وتوكَّلْ” 26. حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد ربط براقه الذي خُصص له في رحلة الإسراء بحلقة في المسجد الأقصى، وواصل رحلة معراجه بعدها27.
وفي غزوة أحُد أيضًا اتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة بداية، ثم أخذ ينتظر عون الله تعالى ومدده بعد ذلك. والواقع أنه لما التزموا بالتدابير انتصروا بعون الله، ولما انتهكوا واحدة منها فقط انقلبت الموازين، وتفوق المشركون، وتحول النصر المطلق إلى هزيمة مؤقتة. وعندئذ أخذ أصحابه الكثير من الدروس والعبر من هذه الحادثة، وقابلوا هذه النتيجة برضا نفس وتحمل وصبر حتى لا يخسروا آخرتهم كذلك. هذا الجانب المشرق من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو جانب مميز بالنسبة لنا يجب أن نحتذي به في كل أمر يهمنا، خاصة في اللحظات الحرجة وأوقات الأزمات.
Footnotes
- سنن أبي داود، الخراج، 23 (3004)؛ البيهقي: دلائل النبوة، 3/178، 179.
- نظر: سورة الفتح: 48/25.
- ابن سعد: الطبقات الكبرى، 4/25.
- الواقدي: المغازي، 1/189.
- ابن الأثير: أسد الغابة، 88.
- الواقدي: المغازي، 1/205.
- الواقدي: المغازي، 1/189.
- الواقدي: المغازي، 1/189.
- الواقدي: المغازي، 1/192.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 377؛ الواقدي: المغازي، 1/193.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 378، 379؛ الواقدي: المغازي، 1/196، 199.
- ابن هشام: السيرة النبوية،379؛ الواقدي: المغازي، 1/197.
- الواقدي: المغازي، 1/195، 201؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/188.
- بن هشام: السيرة النبوية، 379؛ الواقدي: المغازي، 1/199.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 397؛ الواقدي: المغازي، 1/200.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 371.
- الطبراني: المعجم الكبير، 11/251 (11645)؛ الطبري: التفسير، 7/143.
- تاريخ الطبري، 2/502؛ الديار بكري: تاريخ الخميس، 2/185.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 398.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 391.
- الواقدي: المغازي، 1/198.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 379؛ الواقدي: المغازي، 1/200.
- صحيح البخاري، المغازي، 17؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 379؛ الواقدي: المغازي، 1/203.
- الواقدي: المغازي، 1/200.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 394.
- سنن الترمذي، صفة القيامة، 60.
- صحيح مسلم، الإيمان، 74.