الأسس النبوية في التربية والتعليم (8): الكلمة الطيبة!

بقلم الدكتور/ سليم عيد الله

الكلمة الطيبة هي أحد مبادئ المنهج النبوي الشريف في التربية والتعليم. فمن الأمور التي ينبغي مراعاتها والتركيز عليها في التربية والتعليم هو الخطاب والحوار مع الآخر؛ أي الكلمات والعبارات المنتقاة، لأن الكلمات هي جسر التواصل بين المتحدث والمخاطَب. ولا يقل أسلوب الخطاب وطريقة التعبير أهمية عن الكلمات المنتقاة عند تناول موضوع أو شرح درس أو التعبير عن حقيقة أو قصد ما. وبهذا المعنى فإن هذه الحساسية في أسلوب عرض الخطاب يمنح الكلمات المنتقاة الروح والرونق. ولهذا لا تستطيع الحوارات المتكلفة والمصطنعة والبعيدة عن الحب والرحمة والاحترام والإخلاص، أن تبني جسور التواصل بين الجانبين، ولا يمكنها نقل الحقائق، ولا إحداث التأثير المطلوب في المخاطبين.

كن صادقًا في حديثك!

فإن لم يتصف الحديث بالصدق وتجرد من النيَّة الحسنة والإخلاص، فلن يكون له تأثير على المشاعر، فالصدق هو بمثابة روح الحديث. لأن المخاطب يحتاج في الأصل إلى الصدق بقدر المحتوى الذي يتلقاه. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنّ الدِّينَ النَّصيحةُ” ملفتًا النظر إلى أهمية النصيحة والحديث الذي يصدر من القلب، فقال الصحابة: “لمَن يا رسولَ اللهِ؟” فقال صلى الله عليه وسلم: “للهِ، ورسولِه، وأئمةِ المسلمين، وعامَّتِهم1، كذلك القرآن الكريم بينما يصف وينتقد المنافقين الذين يتعارض قولهم مع فعلهم يقول: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/167)، ويقول تعالى: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (سورة الفَتْحِ: 48/11)، مؤكدًا بذلك البيان القرآني على نفاقهم؛ أي عدم صدقهم في القول.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ الصدق أساسًا له في حديثه مع أصحابه؛ فيتحاشى أي قول أو فعل مصطنع أثناء حديثه2، كما يدعو إلى الصدق، وينهى عن الإطالة في الحديث والغلو والإفراط في القول بقصد التظاهر بالعلم3. فكان صلى الله عليه وسلم يفتح قلوب مخاطبيه ويحل المشكلة وهو لا يزال في بداية حديثه وذلك بكلماته التي ينتقيها والتي تكون مفعمة بالصدق والإخلاص 4.

ففي يوم تقسيم غنائم غزوة حُنين، أجزل رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء من حصته الشخصية إلى من يريد أن يألِّف قلوبهم للإسلام، بينما لم يدرك بعض شباب الأنصار الحكمة من ذلك وقتئذ، فأخذوا يتساءلون عن هذه القسمة. فجمع صلى الله عليه وسلم الأنصار بوادٍ وبدأ حديثه معهم بقوله: “يا معشر الأنصار!” ثم عدَّ بعض ما أفاء الله عليهم من نعم مذكرًا إياهم بها، وليوضح لهم الحكمة مما فعله. ولكنه في كل مرة يناديهم بـ”يا معشر الأنصار!” فهو بذلك يذكرهم بجميلهم هذا من حين لآخر، ويحرك مشاعرهم. ثم يختم حديثه بقوله: “ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبَاً، وسلكت الأنصار شعبا لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار“. فكان لهذا الخطاب وهذا الحديث الطيب والذي يؤكد على وصفهم بـ”الأنصار”، أثرًا كبيرًا في مسلمي الأنصار، وجعلهم يبكون حتى أخضلوا لحاهم5.

لهذا فإن الكلمات المنتقاة في الحوار والصدق في الحديث، هي عوامل مؤثرة جدًّا في الطرف الآخر. ولا يتسنى للمعروف والخير أن يزدهرا إلا في مناخ الصدق والإخلاص. فالجو الذي يخلو من الإخلاص والكلام الصادق، لا يتسنى فيه الوفاء بحق التربية والتعليم حق الوفاء. وعلى حد تعبير مولانا جلال الدين الرومي: إذا لم يكن هناك صدق وإخلاص، فإن المعرفة والخبرة والدراية والأهلية والتجربة لا تعدوا عن كونها مجرد ملحقات إضافية. فضلًا عن أن الصدق، هو وسيلة مهمة لتفادي النقائص، ومحو الأخطاء، بل ويخلق فرصًا جديدة حتى في قلب المستحيلات.

تخيَّر أحسن القول!

لا يمكنكم التقليل من تأثير الكلمة والحوار والخطاب على المشاعر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا6. ليبين صلى الله عليه وسلم مدى تأثير الكلمات المنتقاة على المشاعر. وفي القرآن الكريم يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/125) مشيرًا بذلك إلى أهمية اختيار أكثر الكلمات حكمة وصوابًا في الحديث، ورعاية أكثر الأساليب تأثيرًا عند التكلم. ومن ثم فإن اختيار أحسن القول هو مبدأ أساسي لا غنى عنه. ولذا ينبغي أن يُتخذ الأمر القرآني: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/53) دستورًا أساسيًّا في التربية والتعليم إلى جانب العلاقات الأسرية والاجتماعية. فمن الأوصاف الرئيسة للمؤمنين “القول الحسن”، يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/33).

فإنه ينبغي على من يرشدون الآخرين أو يقومون على تنشئتهم وتعليمهم، أن يراعوا دائمًا دقائق وجماليات الخطاب في حديثهم، وأن يراعوا قواعد الذوق والأدب في تواصلهم. وإلا فإن الخطاب الفظ والغليظ سيكون سببًا في طمس الحقيقة المراد التعبير عنها، ويكون سببًا أيضًا في رد فعل معاكس من المخاطب نظرًا لأنه خالف الفطرة والروح الإنسانية. ويصف القرآن الكريم الكلمة الخبيثة بقوله تعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/26)، وبهذا فإن الكلمة الخبيثة لا تتسلل إلى قلب ومشاعر المخاطب ولا تكسبه أي قيمة. بينما الكلمة الطيبة التي يستخدمها المرء في حديثه بحسب البيان القرآني: ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/24)، فهي تؤثر دائمًا في القلوب والمشاعر، وتؤتي باستمرار ثمار الخُلق والفضيلة في حياة المخاطب.

ونتيجة لهذه الأهمية الكامنة في الكلمة الطيبة وقيمتها الكبيرة –ونتيجة لبعض الحكم الأخرى أيضًا- يغيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أسماء الأشخاص التي لها معنى سيئ، ويوصي أمَّته بتسمية الأبناء بأسماء طيِّبة. وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ذلك عمليًّا، فقد أمر بتسمية بعض الأشخاص بأسماء وألقاب طيبة غير التي كانوا يُسمُّون بها. وبينما يتحدث صلى الله عليه وسلم عن الجمال الذي ينبغي مراعاته عند التسمية يذكر على سبيل المثال: “إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ7. ومن ثم فإنه عند مطالعة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُرى أن سنَّته القولية والفعلية في حياته الأسرية والاجتماعية كانت دائمًا في هذا الاتجاه. فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم: “يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلَ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ وَأَحَبِّ كُنَاهُ“، ويرى صلى الله عليه وسلم أن هذا حق للمسلم على أخيه المسلم8، ويؤكد على هذا في كل وقت وحين.

كن رحيمًا في خطابك!

من الأسس الضرورية التي يجب مراعاتها في مرحلة التربية والتنشئة، هو أن يستولي دائمًا الحب والاحترام والرحمة على الخطاب. فقد ذكر القرآن الكريم أن الأنبياء الكرام عليهم السلام كانوا حتى في أشد الظروف وأصعبها ينادون أبناءهم بـ”يا بني”، ملفتًا بذلك النظر إلى قيمة الخطاب الذي يقوم على الحب والشفقة في إقامة مناخ صحي وسليم في التواصل والتربية والتعليم. فنرى سيدنا نوح عليه السلام وهو يُبحر بسفينته في موج كالجبال ينادي ابنه بشفقة ورحمة كبيرة رغم أن ابنه قد عصى أمره: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/42). كذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه وهو يدعوه إلى الإسلام بقلب يملأه الشفقة والرحمة، فيبدأ خطابه بقوله “يا أبت” 9. وسيدنا لقمان عليه السلام بينما ينصح ابنه يبدأ حديثه بقوله “يا بني”، مكررًا إياها بضعة مرات، مما يمهد السبيل لتشكيل مناخ تكون للكلمة فيه أثر على مشاعر ابنه10.

وكذلك سيدنا يعقوب عليه السلام عندما قص عليه ابنه يوسف عليه السلام رؤيته، قال له: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ (سورة يُوسُفَ: 12/5) مخاطبًا إياه بشفقة ورحمة، ومتخذًا التدابير اللازمة لحمايته. وتمر السنوات ويخاطب سيدنا يوسف عليه السلام أبواه عندما دخلا عليه في مصر بأسلوب تعلمه من والده في الرحمة والشفقة وحُسن الخطاب، فيقول عليه السلام: “يا أبت”11. كذلك عندما أراد سيدنا إبراهيم أن يخبر ابنه إسماعيل عليهما السلام برؤيا ذبحه، حدَّثه بأسلوب ملؤه الحب والشفقة قائلًا: “يا بني”. وفي المقابل هذا الدرس الذي ملؤه الحب والرحمة من سيدنا إبراهيم، يجيبه ابنه إسماعيل أيضًا بأسلوب يملأه الحب والتوقير الشديد، فيقول: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة الصَّافَّآتِ: 37/102).

وكما يتضح من هذه الأمثلة، فإن الانبياء الكرام عليهم السلام كانوا ينتقون الكلمات التي يحافظون بها على الحب والشفقة والاحترام في الخطاب سواء كان ذلك في أثناء التبليغ أو التربية والتعليم. كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بينما يخاطب أبناءه وأحفاده، يقول: “بني… بنيتي… ريحانتي… السيد”12، فيختار صلى الله عليه وسلم الكلمات التي تتضمن الشفقة والحب والرحمة، والمؤثرة في المخاطب، مما يؤكد ذلك على أهمية الكلمات المستخدمة في الخطاب في التربية والتعليم.

القول الليِّن!

إن الرفق واللين الذي يهيمن على الكلمة هو ما يضفي عليها القيمة والقوة في التربية والتعليم. فما إن يصدر القول اللين حتى يبلغ أبواب المشاعر، فيفتحها، ويستقر بداخلها، ثم يؤتي ثماره فيها بمرور الوقت. لذا فإن الله تعالى يقول لسيدنا موسى وهارون عليهما السلام اللذين أرسلهما الله تعالى إلى فرعون الذي طغى في الأرض وتجبَّر: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سورة طَهَ: 20/44) آمرًا إياهما إلى اختيار الأسلوب اللين في التبليغ والإرشاد. فالكلمة التي تُقال برفق، تحتضن المرء وتجعله يفكر ويقترب من محاوره وتحببه فيه وتلين قلبه مما يجعله مستعدًا للفهم. خلاف ذلك فإن الكلمات الفظة والغليظة فإنها تجلب الغلظة، حتى إنها تتسبب في اللجوء إلى القوة الغاشمة، والواقع أنه ليست هناك أي فائدة تعود على التربية والتعليم من أي أشكال القوة والفظاظة.

والحقيقة أن الجمال والتأثير الحقيقي للكلمة يأتي من لينها إلى جانب صدقها وصحتها. لذلك يلفت صلى الله عليه وسلم الأنظار إلى هذه الصفة في الخطاب بقوله: “إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ13. ومن ثم فإن النجاح والوصول إلى النتيجة المرجوة من التربية والتعليم، لا يُحصل عليه بالغلظة والفظاظة والشدة، ولكن بالرفق واللين. لذا فإن المرشد الأكمل صلى الله عليه وسلم يقول جملة بمثابة قاعدة كليِّة في التربية والتعليم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ14.

عدم التكنية باسم قبيح!

من الجوانب المهمة في الخطاب في التربية والتعليم هو عدم السخرية من المخاطب، وعدم تكنيته بأسماء قبيحة. لأن السخرية والتكنية بقبيح الصفات فيها استخفاف بالمخاطب وتحقير من شأنه، وهو أسلوب سيء ليس له أي فائدة تُذكر في التربية والتعليم. والواقع أن مثل هذا الأسلوب يجرح كرامة المخاطب ويُبعده عن مناخ التربية والتعليم. وقد نهى القرآن الكريم عن مثل هذا الخطاب وهذا الفعل في العلاقات الإنسانية، فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/11). ولهذا يدخل ضمن هذا النهي؛ الخطاب بجميع الأسماء أو الألقاب التي لا يحبها المخاطب ولا يُسَر بها وفيها نبذ له وتحقير من شأنه.

ومن هذا المنطلق ينبغي على الوالدين والمعلمين والمرشدين والمسؤولين ألا يخاطبوا مخاطبيهم بأي صفة تعبِّر عن قصورهم وأخطائهم ونقائصهم. فإن تلقيب الإنسان الفقير بلقب يعبِّر عن فقره، أو تلقيب الإنسان العاجز بلقب يعبِّر عن عجزه، أو وصف الإنسان الذي ارتكب خطأ بصفة تعبِّر عن خطئه ليس -أي من هذا- عملًا إنسانيًّا ولا إسلاميًّا. يقول صلى الله عليه وسلم: “المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَخُونُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، عِرْضُهُ وَمَالُهُ وَدَمُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ15. وفي حديث آخر يذكر صلى الله عليه وسلم الصفات التي لا ينبغي أن يتصف بها المؤمن، فيقول: “لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ16، فينهي كذلك النبي صلى الله عليه وسلم صراحة عن إيذاء الناس بالخطاب الذي ينبذهم ويحقر من شأنهم. والواقع أن المعيار الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن هو مخاطبة المرء بما يحب ويفرح، ولهذا يقول في حديث شريف: “إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم17.

وفي هذا الصدد نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة لأصحابه في حديثه وأسلوب خطابه، وقد عرض أفضل الأمثلة في هذا لأمته. على سبيل المثال، كنى صلى الله عليه وسلم سيدنا أبا بكر رضي الله عنه بـ”العتيق” أي المعتوق من النار، وبـ”الصدِّيق” أي شديد الصدق؛ وكنى سيدنا عمر رضي الله عنه بـ”الفاروق” أي الذي يفرق بين الحق والباطل؛ وكنى سيدنا عثمان رضي الله عنه بـ”ذي النورين” لأنه تزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كذلك كنى صهره سيدنا علي رضي الله عنه الذي وصفه بأنه باب العلم بـ”حيدر، والمرتضى، وأسد الله الغالب”، ولقبه بـ”أبي تراب” إشارة إلى تواضعه؛ وكنى عمه حمزة رضي الله عنه بـ”أسد الله” و”سيد الشهداء”؛ وكنى سيدنا خالد رضي الله عنه بـ”سيف الله”، معرِّضًا بذلك عن فضائلهم ومزاياهم، ومعلمًا أمته من بعده هذا الخُلق النبوي.

النتيجة

من الممكن عرض المزيد من الأمثلة على ذلك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان يقدِّر ويحفِّز أصحابه بأساليب الخطاب هذه، وكانوا هم أيضا سعداء جدا بأسلوبه هذا، ويشعرون بالمسؤولية الكبيرة تجاهها، محاولين الوفاء بحق هذه الألقاب والكُنى الطيبة. لذلك، لا ينبغي أبدا إهمال هذه السُنَّة النبوية في تعزيز الحب والاحترام والإخلاص بين الآباء والأبناء، وبين المعلمين والطلاب، مما يكون له الأثر البالغ في نجاح عملية التربية والتعليم، لأن الخطاب الطيب هو أفضل الخطاب. والغرض من الصدق والإخلاص في القول هو أن يتفق الخطاب مع الواقع وأيضًا مع المبادئ الأساسية التي قدمها القرآن والسنة. فيكون خطابًا يحتوي على الحب والاحترام والإخلاص والصدق، وبعيدًا كل البعد عن الرياء والسمعة والعُجب. ويكون خطابًا يتسم بالرفق واللين واللطف والود والبر والإحسان وينبع من القلب وليس من اللسان. إنه خطاب يجمع المؤمنين معا ويقوي أواصر الأخوة بينهم؛ فيحبب الآباء في الأبناء، والمعلمين والمرشدين في طلابهم. والحاصل أن الشخص الطيب القول؛ ينبع دائمًا العطف من نظراته، والطمأنينة من كلماته، والحب والرحمة من قسمات وجهه، والاحترام من سلوكياته وتصرفاته.

Footnotes

  1. صحيح مسلم، الإيمان، 95.
  2. سنن الترمذي، الأدب، 72.
  3. انظر: صحيح مسلم، العلم، 4 (2670).
  4. انظر: صحيح البخاري، العلم، 11.
  5. انظر: الواقدي، 2/353-355.
  6. صحيح البخاري، النكاح، 47 (5146)؛ سنن ابي داود، الأدب، 95 (5011)؛ سنن الترمذي، 63 (2848).
  7. صحيح مسلم، الأدب، 2.
  8. انظر: الطبراني، المعجم الكبير، 4/13 (3499).
  9. سورة مريم، 19/25-45.
  10. سورة لقمان، 31/13-19.
  11. سورة يوسف، 12/100.
  12.  انظر: صحيح البخاري، (2704)؛ صحيح مسلم، الفضائل، 54؛ سنن أبي داود، الخاتم، 8 (4662)؛ سنن الترمذي، المناقب 46 (3773)، العلم 16؛ الهيثمي، الزوائد، 9/181، 187؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق.
  13.  صحيح مسلم، البر، 23/77 (2593).
  14. صحيح مسلم، البر، 23/74 (2592).
  15. سنن الترمذي، البر، 18.
  16. سنن الترمذي، البر، 48.
  17. الطبراني، المعجم الكبير، (10923).
الأسسالتربيةالتعليمالكلمة الطيبةالنبوية
Comments (0)
Add Comment