بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
من المبادئ الأساسية للتربية النبوية هو القُرب من المخاطب والتعامل معه بودٍّ وحميمية. يقول بعض الآباء والمعلمين: “لو أصبحت قريبًا من ابني أو تلميذي لتزعزعت مكانتي كأب أو معلم في نظره، ولتراخى وتدلل، ولا يعد يصغي لأحد، ومن ثم لا يمكنني أداء مهمة التربية والتعليم…” إلى غير ذلك من الحجج الخاطئة التي يتذرعون بها، والتي تضع مسافة كبيرة بينهم وبين الأشخاص الذين يتولون مسؤوليتهم. فهم للأسف لا يمكنهم الموازنة بين الجدِّ والوقار والقرب والحميمية. وبحسب الأبحاث والتجارب التي أجراها التربويون اليوم فإن تحقيق التوازن في هذا الأمر بشكل دائم هو شرط أساسي للوصول إلى تعليم وتربية مثمرة. فإن التصرفات التي تنم عن القرب والحميمية شفهية كانت أو غير شفهية تعزز إرادة المخاطب، وتحفز رغبته في التعليم، وتثري العلاقات المتبادلة، وتنمي الحب والاحترام، وتشكل جو الثقة في مراحل التربية والتعليم المختلفة. ونتيجة لذلك تحصل الفائدة المرجوة، وتقل كثيرًا المشكلات والأخطاء. وعلى العكس من ذلك فإن البيئة التي لا يسودها القرب والحميمية التي تستلزمها التربية والتعليم لا يتحقق فيها التربية والتعليم بالشكل المرجو.
القرب من المخاطب، خُلُق إلهي!
إن قرب الله عز وجل من عباده هي حقيقة مهمة تسلط الضوء على موضوعنا، ولا سيما عند تناوله من ناحية الأخلاق الإلهية. فعندما يتحدث القرآن الكريم عن الله تعالى يصفه باسم “القريب” أي قريب من عباده، فيقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/186)1. كما يوضح في آية أخرى درجة هذا القرب بشكل مذهل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (سورة ق: 50/16).
لذلك فإن كل إنسان لا يشعر بالحاجة إلى واسطة بينه وبين الله عندما يريده أو يطلب منه شيئًا، فهو تعالى يسمع ما يريده الجميع، ويجيب الدعاء في بعض الأحيان بما هو خير وأفضل مما يطلبه العبد. ومعرفة الإنسان بهذا القرب يُشعره بالسكينة والطمأنينة والأمان بشكل كبير. وهذا بدوره يوثق صلته بربه ويقربه منه؛ بأن يقوي إيمانه وتسليمه له تعالى، ويزيد تقواه، ويضبط أقواله وأفعاله. وعندما يتوجه له تعالى لا يداخله ولو بمثقال ذرة شك في أنه تعالى يسمعه أو يجيب دعوته؛ فيتوجه له تعالى بقلبه ويدعوه بقرب وإخلاص كبير. فليس ثمة بديل آخر يمكن أن يحل محل هذا القرب المعنوي.
فحيثما يكون الإنسان، يستطيع أن يدعو ربه الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، ويعرض عليه جميع حوائجه، فلا حائل يحول بينه وبين أن يسمع الله صوته، أو مانع يمنع وصول طلبه لربه، وذلك بحسب البيان القرآني: ﴿…وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ…﴾ (سورة الْحَدِيدِ: 57/4). مثل هذا الإيمان يقوي إرادة الإنسان، ويضبط أقواله وأفعاله دائمًا، ومن ثم يجمِّل شخصيته ويطورها. وبينما كان صلى الله عليه وسلم في سفر وكان أصحابه يجهرون بالتكبير بصوت عال، قال لهم صلى الله عليه وسلم مؤكدًا على هذا القرب: “أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ“2.
لذا؛ فإن إشعار الله عباده بهذا القرب، وحرص العباد وانتباههم للمحافظة على هذا الشعور، أحد الوسائل المهمة التي تنقي الإنسان من المشاعر والأفكار الخاطئة، وتحمية من الشرور، وتدفعه إلى الإيمان والعمل والأخلاق الحسنة، وتوجهه وتوصله إلى مرتبة الكمال. فقربه تعالى من عباده بصفته ربهم، وإعلامهم بقربه لهم، يعلم الآباء والأمهات وكذلك المربين درسًا في “ضرورة الاقتراب من مخاطبيهم، وإشعارهم بقربهم منهم”. ولهذا يخبر رب العالمين عباده بتعبير غاية الوضوح عن قربه منهم، حتى يستقر في قلوبهم حبه وقربه، ومن ثم يحببهم في طاعته والإذعان له عز وجل.
القرب من المخاطب، خُلق نبوي!
يقول الحق تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/215) مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقترب من مخاطبيه بقدر الإمكان حتى يتمكن من تعليمهم وتربيتهم وتزكيتهم من المساوئ والأخطاء. وقد التزم صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر والتوجيه الإلهي، ووصل بقربه من مخاطبيه إلى ذُرى القرب والمودة. وبينما يتحدث القرآن الكريم عن هذا القرب يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ…﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/6). ويقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: “وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ…” موضحًا بذلك قربه من جميع المؤمنين بشكل صريح. حتى إنه لم يكتف بالتعبير اللفظي عن هذا، بل اعتبر ذلك مسؤولية مادية تقع على عاتقه، فيقول: “…فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ“3.
وبصفته صلى الله عليه وسلم المعلم الأول للمؤمنين، فهو يعبر عن مكانته لمخاطبيه، ومن ناحية أخرى يعلم جميع المؤمنين بداية من طلابه الأوائل إلى جميع المؤمنين إلى يوم القيامة “القرب من رسول الله”: “لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ“4. ويشير صلى الله عليه وسلم بهذا البيان النبوي الشريف إلى ضرورة اقتراب المخاطب أيضًا من معلمه ومرشده حتى تحصل الاستفادة التامة.
إن مفهوم القرب النبوي لا يشمل المؤمنين فحسب بل ويتضمن أيضًا غير المؤمنين. لهذا فقد أثقل ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتعاد الناس عنه رغم هذا الجهد والسعي الذي بذله 5. وبحسب البيان القرآني فإنه صلى الله عليه وسلم يشعر بالحزن عند إعراض الناس عنه وهو يدعوهم إلى الحق والحقيقة، ويصف القرآن الكريم مدى هذا الحزن، فيقول تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/3)، ويقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6).
كان الصحابة أيضًا قريبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وكما كان صلى الله عليه وسلم قريبًا من أصحابه، فقد اقتدى به أصحابه في هذا الشأن وأصبحوا قريبين منه. فإن لم يكونوا قريبين منه في الأساس ما استفادوا من علمه وإيمانه وحكمته وخُلقه. لقد كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتربون منه حتى إنهم كانوا يقتدون به في كل أمر مادي كان أو معنوي. وبلغ بهم هذا القرب وهذا الحب إلى أنهم كانوا يحبونه أكثر من أنفسهم التي بين جنبيهم، ويعبرون عن قربهم لهم في كل فرصة بقولهم: “فداك أبي وأمي يا رسول الله”6.
وكان صلى الله عليه وسلم يستثمر هذا الحب والقرب في تنشئتهم وتعليمهم الإسلام في جميع مناحي الحياة. لدرجة أن هناك من المشركين من انتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الأمر، فجاؤوا إلى سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأخذوا يضايقونه قائلين: “إنا نرى صاحبكم يعلمكم حتى يعلمكم الخراءة”. فقال سلمان: “أجل، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام…”7.
لقد أوضحوا عن مدى قربه صلى الله عليه وسلم لدرجة أنه لا أحد يُحرج في أن يسأله في المسائل الخاصة والمحرجة، فيرشدهم صلى الله عليه وسلم ويدلهم على الصواب. وفي موقف آخر، يأتي غلام شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، ويخبره بأمر لم يكن يبوح به لأحد سواه، فلم يكن هناك من هو أقرب إليه من رسول الله ليخبره بهذا الأمر الخاص، فيقول: “يا رسول الله، ائذن لي في الزنا”. فصاح من سمعه من الناس. فأمر صلى الله عليه وسلم الناس بالصمت. فقال صلى الله عليه وسلم: “ادْنُهْ”، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث حتى اقتنع الشاب، ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الغلام، وقال: “اللهُمَّ كَفِّرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ“8.
لقد كان لهذه الحميمية والدعاء الصادق والرحمة النبوية الأثر البالغ في تحصين هذا الشاب وجعله أعفّ أبناء المدينة المنورة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بتزويجه. لذا؛ فإن من يتولون مسؤولية التربية والتعليم يستطيعون مساعدة وإرشاد مخاطبيهم بقدر قربهم منهم. وعلى العكس من ذلك فإن الذين يرون آباءهم أو معلميهم أو مرشديهم بعيدين عنهم، سيشعرون بالحرج والخجل من أن يفصحوا لهم عما يعتلج في صدورهم من مشكلات خاصة بهم. وعندما يكون الأمر هكذا وخاصة في وقت هم أحوج فيه للمرشد والموجِّه يقعون في الأخطاء دون أن يفصحوا عنها، عندئذ لن يكون من الصعب مساعدتهم وانتشالهم من هذا الخطأ الذي ارتكبوه.
خلاصة القول:
إن هذا المنهج الذي اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو منهج عالمي ينبغي لجميع المربين أن يلتزموا به. فإن الإنسان البعيد عن الناس، لا يتسنى له الاقتراب منهم والاندماج معهم، ومن ثم لا يستطيع التأثير فيهم ولا إرشادهم وضبط سلوكياتهم.
Footnotes
- انظر: سورة هود، 11/61؛ سورة سبأ، 34/50.
- صحيح البخاري، الجهاد، 131 (2992)؛ صحيح مسلم، الذكر، 13/44 (2704).
- صحيح مسلم، الفرائض، 5/14-16 (1619).
- صحيح البخاري، الإيمان، 8 (14-15)؛ صحيح مسلم، الإيمان، 16/69 (44).
- سورة الشرح، 94/3.
- انظر: صحيح البخاري، المغازي، 38 (4205).
- صحيح مسلم، الطهارة، 17/57-60 (262).
- مسند أحمد بن حنبل، 5/257 (22847)؛ الطبراني، 8/190 (7679)؛ زين الدين العراقي، تخريج الإحياء، 2/411؛ الهيثمي، 1/129.