الأسس النبوية في التربية والتعليم (13): الإحسان وفعل الخير للمخاطبين!

بقلم الدكتور/ سليم عبد الله

فعل الخير، هو من المبادئ الأساسية للتربية النبوية.. والتربية في الأصل من أعمال البرّ وفعل الخير؛ حيث يكمن فيها حب الخير ونشره وتنميته وتعزيزه ومنع الشر والظلم. وهو عمل يحول دون وقوع الإنسان في الشر، وينقذه من الخطأ إذا وقع فيه، بل ويغرس مكانه بذور الخير ويتكفل بإنباتها، وأثناء القيام بهذا، ينبغي التعامل بلين ولطف، وعدم الانحراف أبدًا عن حدود الإحسان والخير. لأن الإحسان وفعل الخير من أقرب الطرق للدخول إلى قلوب الناس وإثارة مشاعرهم وتعليمهم القيم والأخلاق الحميدة. ومن هذا المنطلق، فإن لفعل الخير قيمة تربوية عظيمة لا يمكن الاستعاضة عنها بأي شيء آخر. ولن يتسنى تعلم الخير والإحسان أو تعليمهما إلا من خلال فعل الخير لأنفسنا وللآخرين.

الله خير الرازقين!

حينما ننظر إلى فعل الخير من حيث التربية والأخلاق الإلهية، يتجلى أمامنا الله خالق ومحيي ورازق كل شيء، وواهب خلقه سبل الحياة، وصابغ عليهم جميعًا نعمه ظاهرة وباطنة، فنجده عز وجل يعامل جميع خلقه الأحياء منها والجماد معاملةً قوامها البر والإحسان، فإحسانه وفضله ورحمته عز وجل وسعت كل شيء. ويؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى يهب الخير لجميع خلقه وعباده، فيقول تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ (سورة الطُّورِ: 52/28)

فالله خالق الخير كله، المحسن إلى خلقه، الجواد الكريم، هو مصدر الخير كله ورحمته وسعت كل شيء، وخلق الإنسانَ وجعله يميل إلى الخير والشر بشكلٍ يتلاءم مع حقيقة اختباره، بيد أنه لم يتركه وحيدًا في الصراع بين الخير والشر؛ وإنما أرشده عز وجل إلى الطريق المستقيم من خلال رسله وكتبه التي أنزلها وعباده الصالحين، وأمره بـ”البر” أي فعل الخير، فيأمر عباده دائمًا بفعل الخير والإحسان إلى الغير والتحلي بالرحمة والعدل والإنصاف واللطف والجود، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/90)، ويلفت عز وجل الانتباه في موضع آخر إلى حقيقة أن البرّ والإحسان لا ينشآن إلا من البر والإحسان أيضًا: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾ (سورة الرَّحْمَنِ: 55/60).

وفي الوقت نفسه فإنه تعالى يقول: ﴿...وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/90). فينهي عز وجل عن المنكر، ثم يؤكد على أنه من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (سورة الزَّلْزَلَةِ: 99/7). كما يحث الحق تعالى على فعل الخير مُبينًا أن ثواب الحسنات يزداد ويتضاعف، أما السيئات فتظل كما هي، يقول تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (سورة الأَنْعَامِ: 6/160)1.

كما لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتباه إلى هذه المسألة، وبشَّر بأن الإنسان يُثاب حتى على نيَّة “فعل الخير”، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً2.

ولذلك ينبغي على الآباء والمربين والمرشدين أن يتبعوا هذا الخلق الإلهي والهدي النبوي؛ حيث يجب على المرء أن يحب الخير ويحب الأخيار، وأن يتحلى بالمشاعر الطيبة وحسن الظن تجاه الجميع وكل شيء، وأن يفعل الخير ويكافئ من يفعله، ولا يترك أي عمل صالح دون مكافأته. حتى ولو تصدى لكل أنواع الشر، فلا ينبغي له أن ينبذ المتورطين في الشر ويُهمَّشهم، بل على العكس، عليه أن يبحث عن سبل الخير للدخول إلى قلوبهم، وأن يرشدهم إلى الحق والصواب باهتمام وحب ورحمة، وأن يسعى جاهدًا إلى إصلاحهم من خلال اللين والرفق وفعل الخير.

إن الحسنات يُذهبن السيئات

يمتاز فعل الخير بالقدرة على إزالة جميع التأثيرات السلبية للسيئات والشرور على العالم الداخلي للإنسان وعلى نفسية المخاطب على حدٍ سواء. ولا ريب أن التخريب والدمار أمر يسير، لكن تأثير الخير في تعافي المشاعر أعظم وأكبر. فإن السبيل إلى القضاء على الشر، وإحياء الفضائل وإحلالها مكانها، لا يكون إلا من خلال فعل الخير دائمًا. فبحسب البيان القرآني: ﴿…إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (سورة هُودٍ: 11/114) 3. ومع ذلك، فإنه يصعب على النفس في بعض الأحيان الالتزام بهذا المبدأ، ولهذا يوصي القرآن الكريم بالصبر على الشدائد الظاهرة والباطنة بقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/115).

كما لفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتباه إلى أن الحسنات تزكِّي الإنسان وتطهره وتنشئه تارة أخرى، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصح سيدنا معاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن، فيقول له: “اتَّقِ اللهَ حيثما كُنْتَ، وأتبِعِ السيِّئةَ الحَسَنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسَنٍ”4.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعامل محاوريه دائمًا بإحسان ولين ليمحو أوجه القصور التي تصدر عنهم؛ فكان يوجههم ويحثهم على فعل الخير والإحسان بالحكمة والموعظة الحسنة. وفي هذا السياق نجد سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه الذي مكث عند رسول صلى الله عليه وسلم عشر سنين، من سن العاشرة إلى العشرين، ليتعلم منه من ناحية ويخدمه من ناحية أخرى، يلخص مبادئ التربية والتعليم التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته وتنشئته على النحو الآتي: “خَدَمتُ رسولَ اللهِ ﷺ، عَشْرَ سِنينَ، لا واللهِ ما سبَّني سَبَّةً قَطُّ، ولا قال لي: أُفٍّ قَطُّ، ولا قال لشيءٍ فعَلْتُه: لِمَ فَعَلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعَلْه: ألا فَعَلتَه..”5.

لا تحقرن من المعروف شيئًا!

يرى الإنسان أن فعل الخير أو المعروف قد يكون في بعض الأحيان أمرًا “عاديًّا” أو “لا أهمية له” ظنًا منه بأن هذه أشياء صغيرة لا قيمة لها. ومن ثم لا يهتم بـ”الأعمال الصالحة اليسيرة” التي يمكنه القيام بها بسهولة، ويتخلى عنها. ويتحول هذا الفهم تدريجيًا إلى أسلوب حياة يدفعه مع مرور الوقت إلى عدم الاكتراث بالقيام بالأعمال الخيرية الكبيرة. لكن فعل الخير هو أمرٌ عظيم في ماهيته لاعتماده على الإحسان في الأساس. فأحيانًا ما تكون هناك لحظات ومواقف خاصة يُرى في ظاهر الأمر أن المعروف الذي سيقدمه المرء بسيط جدًا، بيد أنه قد يُكسب المرء الثواب والخير العظيم، كما يدخل على المخاطب السعادة والحبور وكأنه قد فعل خيرًا عظيما.

لا يستطيع الإنسان في الحقيقة أن يعرف بالضبط أي أعمال الخير أكثر قبولًا عند الله، وأي المعروف يُهيمن على أفئدة المخاطبين ويؤثر في مشاعرهم تأثيرًا إيجابيًّا، ولهذا ينبغي له أن يطرق جميع أبواب الخير. وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين معيارًا عامًا في هذا الشأن، فيقول: “لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ6.

وبينما يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على مبدأ “لا تحقرن من المعروف شيئًا”، يجمع صلى الله عليه وسلم بين المعروف والصدقة، فيؤكد على هذا المنهج النبوي بقوله: “كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقَةٌ7.  وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا بأمثلة عديدة، فيقول: “تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدَقة، وأمرُك بالمعروفِ ونَهْيُك عن المنكَرِ صدَقةٌ، وإرشادُك الرَّجُلَ في أرضِ الضَّلالِ لك صدَقةٌ، وإماطتُك الحَجَرَ والشَّوْكَ والعَظْمَ عن الطَّريقِ لك صدَقةٌ، وإفراغُك مِن دَلْوِك في دَلْوِ أخيك لك صدَقةٌ8. ويقول صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ”، وذلك لأن “الكلمة الطيبة صدقة…”9.

ولا ينبغي التقليل من شأن الكلمة الطيبة والسلوك الحسن كالتبسم، وعذوبة اللسان، والثناء والتقدير للمخاطب في أثناء التربية والتعليم، لأن النشاط التربوي لا ينفك عن الإحسان وفعل الخير. حتى إن مجرد الابتسامة التي يحتاج إليها المخاطب في بعض الأحيان أو السؤال عن حاله وملاطفته ومسح رأسه يمكن أن تسهم بشكل كبير في تعليم السلوكيات الحسنة وتطويرها. ولهذا جمع سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الخير في قوله: “البر شيء هين: وجه طليق، وكلام ليِّن”10.

النهي عن المنِّ والأذى!

يعتقد كثير من الآباء والمربين أن التذكير بالمعروف بالعد والإحصاء سيؤثر في المخاطب بشكلٍ إيجابي، فيذكرونه أمامه دائمًا، والحال أن هذا خطأ كبير في التربية والتعليم. لأن النفس البشرية لا تحب أن يُذكِّرها أحد بالخير والمعروف الذي قُدِّم إليها؛ حيث يُشعرها هذا التصرف بالحرج وينتهي به المطاف إلى الشعور بالإهانة. وفي هذا السياق، فإن أحد المبادئ الأساسية التي كشف عنها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هو مبدأ “النهي عن المنِّ”، أي عدم إحراج المخاطب وكسر خاطره وجرح مشاعره بتذكيره بالمعروف الذي أُسدي إليه. فمثل هذا السلوك يُخرِج المعروف عن مقصده الحقيقي، ويُفسد التأثير التربوي للخير بل ويُلغيه تمامًا. يقول تعالى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/263). ويقول صلى الله عليه وسلم: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ11.

فالكلمة الطيبة والقول الليِّن من أبواب البر والخير، فيذهبان غيظ القلب ويشرحان صدر المخاطب. حتى ولو أخطأ الطرف الآخر، فإن العفو والصفح عمل صالح يطهر القلب من الضغينة والبغضاء، ويغرس فيه المحبة والاحترام، ويؤلف بين القلوب العباد. ومن ثم فإنه ينبغي ألا يحوِّل الآباء والمربون الإحسان والمعروف إلى أداة للسيطرة على المخاطب والضغط عليه. فكما أن المن والأذى يسلب الإنسان ثواب الإحسان، فإنه يسلبه أيضًا فرصة التعليم. والحقيقة أنه ينبغي على المرء أن ينسى كل ما فعل من خير وبِرٍّ.

قد يستخف البعض بهذه المسألة التي أكد عليها القرآن الكريم، متذرعين بقولهم: وما الذي في ذلك؟ وماذا سيحدث؟ إنني أفعل هذا من أجل منفعته!.. والحق أنه لا ينبغي لهم أن يحبطوا أعمالهم بمثل هذه الحجج الواهية، وألا يدفعوا المخاطب إلى اتخاذ رد فعل سلبي.

العرفان بالجميل!

ومن الأمور أيضًا التي ينبغي مراعاتها في التربية والتعليم هي تعليم المخاطبين أهمية العرفان بالجميل الذي قُدم إليهم، وترسيخ هذا المفهوم في أذهانهم. ومن ثم يجب على الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم وأن يعلِّموا مخاطبيهم امتثال هذا الأمر. ويقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعيار الأساسي لتكوين “شعور الشكر” لدى المؤمنين وترسيخه في نفوسهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: ” لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ12. كما يبين صلى الله عليه وسلم أن الأمر لا يتوقف عند حد الشكر فحسب؛ بل ينبغي أن يُتوَّج هذا الشكر بالدعاء، فيقول صلى الله عليه وسلم: “من صُنعَ إليهِ معروفٌ فقالَ لفاعلهِ جزاكَ اللَّهُ خيرًا فقد أبلغَ في الثَّناءِ13.

ليس هذا فحسب بل ويعلمنا صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقابل الإحسان بالإحسان كل حسب قدرته، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَن أُعْطِىَ عطاءً فوجَدَ فليَجْزِ به، فإن لم يَجدْ فليَثْنِ به، فمن أَثْنى به فقد شَكَرَه، ومَن كَتَمَه فقد كَفَرَه14. فمن لم يجد ما يكافئ به المخاطب، فليعبر عن مشاعره ولو ببضع عبارات طيبة، ويسهم ولو قولًا بخير الدعاء، ويحث الآخرين على فعل الخير دائمًا. فإن البيئة التي يسودها الشر ونكران المعروف لا يمكن الحديث فيها عن الكمال والنضج التربوي والتعليمي والأخلاقي.

Footnotes

  1. انظر: سورة النساء، 4/40؛ سورة هود، 11/115.
  2. صحيح البخاري، التوحيد، 35؛ صحيح مسلم، الإيمان، 59/203 – 207 (128، 129، 130، 131).
  3. انظر أيضًا: سورة العنكبوت، 29/45.
  4. سنن الترمذي، البر، 55.
  5. صحيح البخاري، الأدب، 39 (6038)؛ سنن أبي داود، الأدب، 1 (4774)؛ صحيح مسلم، الفضائل، 13/51، 52،53 (2309).
  6. صحيح مسلم، البر، 144.
  7. سنن الترمذي، البر، 45.
  8. سنن الترمذي، البر، 36.
  9. صحيح البخاري، الجهاد 72؛ الأدب 34؛ صحيح مسلم، الزكاة 17/56 (1009).
  10. سنن البيهقي، شعب الإيمان، ا10/ 404.
  11. انظر: سنن النسائي، الأشربة، 46.
  12. سنن أبي داود، الأدب، 12؛ سنن الترمذي، البر، 35.
  13. سنن الترمذي، البر، 88.
  14. سنن أبي داود، الأدب، 12؛ سنن الترمذي، البر، 87.
الاأسسالتربيةالتعليمالنبويةفعل الخير
Comments (0)
Add Comment