الأسس النبوية في التربية والتعليم (1): الهدوء والسكينة

بقلم الدكتور: سليم عبد الله

ثمة مبادئ كثيرة اتبعها رسول الله -ﷺ- في تنشئة الأطفال والشباب، وتعليم أصحابه رضوان الله عليهم، ومن بينها مبدأ “الهدوء والسكينة”. وهو مبدأ متبع في مواجهة الأخطاء المرتكبة، حتى لا يستفحل الخطأ، وتُهدم جسور التواصل، ويسير المرء في طريق خاطئ، وحتى يتعلم المرء الصواب، ولا يخسر مخاطبه. ويُعرف هذا المبدأ أيضًا باسم “التأنِّي”؛ وهو ترك العجلة والغضب، والتحلي بالحلم والوقار والصبر واللين والرفق. يقول رسول الله -ﷺ- الأَناةُ منَ اللهِ والعجلةُ منَ الشَّيطانِ1. فالتأني يستدعي الاعتدال، والتفكير القائم على حل المشكلة، ومن ثم يكون وسيلة للحصول على أكثر الحلول صوابًا. بينما العجلة فتصدِّر المشاعر وتقدمها على العقل والمنطق، فهي لا تسهم في حل المشكلة، بل إنها أيضًا تتسبب في وقوع كثير من الأخطاء. فالعجلة لا تأتي إلا بالأخطاء وليس الحكمة والصواب.

ومن ثم فإنه عند التعامل بتأنٍّ، يتم التحكم في كل شيء حتى نبرة الصوت والانفعالات والإيحاءات والإيماءات، وتُترك قنوات التواصل مفتوحة، وتُتاح الفرصة للحديث مع الطفل أو الشاب أو المخاطّب بهدوء وسكينة. ففي وسط هادئ كهذا، يستطيع المخاطَب التعبير عن نفسه بشكل مريح، ويشعر بأنه محبوب من أبويه أو معلمه أو المسؤول عنه دون مقابل رغم خطئه، ويدرك أنهم يحاولون مساعدته بلين ورفق. وفي هذا الوسط؛ حيث يغلب العقل والمنطق والرحمة على المشاعر والعواطف، تتاح الفرصة للتفكير والحوار المشترك فيما يجب فعله، وهكذا ينبع تلقائيا في داخل الطرف الآخر فكرة التخلص من الخطأ الذي وقع فيه. وإلا سيكون الأمر بمثابة نفخ الكير في النار، ويُفوّت الوقت المناسب للحل، وتُضيّع فرصة إرشاد وتوجيه المخاطَب.

ثمة أمثلة كثيرة من سيرة رسول الله -ﷺ- حول الموقف الذي يجب اتخاذه تجاه التصرفات والسلوكيات الخاطئة. وهذا عرض لبعض منها:

رافع بن عمرو: الغلام الذي يرمي النخل

دخل رافع بن عمرو بستان صحابي من الأنصار، فأخذ يرمي النخل، ويأكل مما يسقط منه. فأتى به صاحب البستان إلى رسول الله -ﷺ-، يشتكيه ويطلب معاقبته. فاقترب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدوء، وقال له بصوت ملؤه الشفقة: “يا غلام، لم ترمي النخل؟“. فقال الغلام: “يا رسولَ اللهِ! الجوعُ”. فقال له صلى الله عليه وسلم: “لا ترم النخل، وكل مما وقع“. ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة، بل إنه اقترب منه أكثر، فمسح رأس الغلام ودعا له: “اللهم، أشبع بطنه2.

وكما يتضح، فإنه -ﷺ- يستمع إلى المشكلة بهدوء دون أن ينفعل أو يعنِّف الغلام. فلم يصيح في وجهه معنفًا إياه “كيف تفعل هذا الأمر؟”. على العكس من ذلك، إنه -ﷺ- يقترب منه بعطف وحب قائلًا له “يا بني”، ويتحدث إليه برفق ولين، ويقدم له حلًّا بديلًا إذا شعر بالجوع مرة أخرى بقوله “كل مما وقع منها”. حتى إنه لم يكتف بهذا، بل يمسح على رأسه، ويحتضنه بالدعاء. لذلك فإن لبّ التربية والتعليم هو الهدوء والمحبَّة والشفقة. ومن هذا المنطلق، يجب على الآباء والمعلمين أن يكونوا هادئين قبل كل شيء. لأن الأطفال لا يدركون في الغالي أنهم مخطئون أو أن ما يفعلونه خطأ. ومن ثم من الممكن أن يتسبب التعنيف، والصياح، والعقاب في شروخ لا يمكن إصلاحها في نفسية الطفل. لذا فإنه من المهم في اللحظة الأولى من المشكلة أن يرى الإنسانُ مخاطَبه (الأم، الأب، المعلم، المربي، المرشد، المسؤول…) الملاذ الآمن والهادئ الذي يمكنه اللجوء إليه.

جُليبيب: الشاب الذي يطلب الإذن في الزنا

أتى فتى شاب النبيَّ ﷺ فقال: “يا رسولَ اللهِ ائذنْ لي بالزِّنا”. فغضب الصحابة الكرام لما سمعوا مقولته، وأقبلوا عليه يزجرونه. بيد أن رسول الله -ﷺ- يحافظ على هدوئه أمام هذا المشهد، ويقول لهم: “ادْنُهْ” مهدئا إياهم. ثم طلب من الفتى أن يدنوا منه، وسأله في هدوء: “أتُحِبُّه لأُمِّكَ؟“… “أفتُحبُّه لأُختِك؟“… “أفتُحبُّه لعمَّتِك؟“… “أفتُحبُّه لخالتِك؟“… فانتفض الفتى لذلك قائلًا: “لا واللهِ!”. فقال -ﷺ-: “ولا النّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم“… “ولا النّاسُ يُحِبُّونَه لبَناتِهم“… “ولا النّاسُ يُحِبُّونَه لأَخَواتِهم“… “ولا النّاسُ يُحِبُّونَه لعَمّاتِهم“… “ولا النّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم“…

وكما يتضح في المثال، فإن رسول الله -ﷺ-، يهدِّئ الجميع، ويقابل الفتى في سكينة وهدوء، ويُدنيه منه، فلم يزجره قائلًا “كيف تطلب شيء كهذا؟!” بل على العكس من ذلك، فإنه يبادله الحديث مخاطبًا عقله ومنطقه، ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا، بل يضع يده الشريفة على صدر الفتى ويخاطب عاطفته بالدعاء له: “اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه3. وقد أصبح هذا الشاب الذي عفَّ نفسه بهذا المنهج النبوي، أكثر فتيان المدينة المنورة عفَّة، وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه. لذلك ينبغي على المربين والمعلمين أن يحافظوا على هدوئهم وسكينتهم حتى أمام أكثر الرغبات والمطالب سلبية لمحاوريهم؛ وأن يحرصوا على حل المشكلة بمخاطبة العقل والمنطق والعواطف معًا، وألا يدفعوا مخاطبيهم إلى دائرة الخطأ بالغضب والتهديد والتعنيف.

الأعرابي الذي بال في المسجد النبوي

بينما رسول الله صلى الله عليه في وسلم في مسجده، أتى أعرابي، فانصرف إلى زاوية من زوايا المسجد، وبال فيها. فثار الصحابة عليه ليمنعوه. فلما رآهم رسول الله -ﷺ- قال لهم: “دَعُوهُ“. وبعد أن انتهى الأعرابي من بوله، قال صلى الله عليه وسلم: “أَهْريقوا على بولِهِ ذنوبًا من ماءٍ، فإنّما بُعثتُمْ ميسِّرينَ ولم تُبعَثوا معسِّرينَ“. ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ونصحه بأسلوب هادئ وليِّن: “إنّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ، ولا القَذَرِ إنّما هي لِذِكْرِ اللهِ، والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ4.

وكما نرى في هذا الموقف، لم ينهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي قائلًا: “كيف تقوم بهذا الفعل الشنيع في المسجد؟!” بل خاطبه بأسلوب يفهمه. في الوقت نفسه يعلِّم صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم أن يتعاملوا بلين مع المخطئين وأن يجتنبوا الغلظة والشدَّة. فهو صلى الله عليه وسلم يلتزم بمبدأ “يسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا5، الذي هو من المبادئ الأساسية للتربية النبوية، مشيرًا بذلك إلى أن هذا هو السبيل الوحيد لمساعدة المخاطبين والأخذ بأيديهم.

مهلًا يا عائشة!

دخل رهط من اليهود على رسول الله -ﷺ- في بيته، فسلموا عليه: “السام عليك”؛ حيث تلاعبوا بالألفاظ، فاستبدلوا كلمة “السلام” بكلمة “السام”، دعوة على رسول الله -ﷺ- بالموت. ففهمتهم السيدة عائشة رضي الله عنها، فثارت وردت عليهم بشدَّة: “بل عليكم السام واللعنة”. بينما ردَّ صلى الله عليه وسلم على ضيوفه بقوله: “وعليكم“، ثم التفت إلى زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلًا: “مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأمْرِ كُلِّهِ“.

وبعد أن انصرف الرهط، حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة قائلًا: “يا عائشةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، و إيّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ“، فقالت رضي الله عنها: “أوَ لمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟” فأجابها صلى الله عليه وسلم: “أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قُلتُ، رَدَدْتُ عليهم، فيُسْتَجابُ لي فيهم، ولا يُسْتَجابُ لهمْ فِيَّ6.

وكما يتضح من هذه الحادثة أيضًا، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يزجر ضيوفه قائلًا “كيف تدعون عليّ وأنا في بيتي وبين أهلي؟”، ولم يعنِّف السيدة عائشة قائلًا “كيف تتدخلين في الأمر وأنا موجود؟” كما أنه صلى الله عليه وسلم حافظ على هدوئه وأوصى السيدة عائشة بذلك أيضًا. فإن الحفاظ على الهدوء في مثل هذه المواقف، يحول دون توتر الجو، وتضخم المسألة وتحولها إلى نزاع وشجار. فإن الانفعال ورد الخطأ بخطأ والإساءة بمثلها لن يفيد كلا الطرفين بشيء، بل يعود عليهما بالخسران.

وفي موقف آخر أيضًا، أتت أسماء بنت يزيد، إحدى نساء الأنصار، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها معه، تريد أن تسأله في مسألة ما. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: “يا رسول الله كيف تغتسل إحدانا إذا تطهرت من الحيض؟” فلما سمعت السيدة عائشة سؤالها امتعضت وتدخلت بشدَّة قائلة: “تربت يمينك، فضحت النساء!” فقال صلى الله عليه وسلم: “مَهلًا يا عَائشةَ!” داعيا إياها إلى الهدوء، ثم واصل حديثه: “إن نساءَ الأنصارِ يسألنَ عن الفقهِ. نعمَ النِّساءُ نساءُ الأنصارِ لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ في الدِّينِ7. فنراه صلى الله عليه وسلم لم يغضب من السيدة أسماء، بل وأثنى على جميع نساء الأنصار في شخصها.

معاوية بن الحكم: الصحابي الذي تحدث في الصلاة

بينما يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الصلاة، إذ عطس رجل من القوم. فقال له معاوية بن الحكم رضي الله عنه “يرحمكم الله” في أثناء الصلاة. فرماه القوم بأبصارهم غضبًا منه. ففزع منهم قائلًا: “واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إليّ؟” فأخذوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فأدرك سيدنا معاوية بن الحكم أنهم يريدون أن يُصمتوه، فسكت. فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، دعاه، فقال له بأسلوب ملؤه الشفقة والرحمة: “يَا معاوية، إنّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شَيءٌ مِن كَلامِ النّاسِ هذا، إنّما هي التَّسْبيحُ، والتَّكْبيرُ، وقِراءةُ القُرآنِ“. وانطلاقا من هذا التسامح، قال معاوية: “يا رسولَ اللهِ، إنّا قَومٌ حَديثُ عَهدٍ بجاهِليَّةٍ”، وأخد يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض المسائل الأخرى8.

ويتضح من المثال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهر سيدنا معاوية قائلًا “كيف تتحدث في الصلاة وتفسد خشوع الجماعة؟!” وإنما تحدث معه بأسلوب ليِّن، وبيَّن له أن هذا لا يصح في الصلاة. وقد تأثر سيدنا معاوية من هذا الأسلوب اللين، فقال في هذا الموقف: “بأبي وأُمِّي ما رَأيتُ مُعَلِّمًا قَبلَه ولا بَعدَه أحسَنَ تَعليمًا منه، فما ضَرَبني، ولا كَهَرني، ولا سَبَّني، وقال: إنّ هذه الصَّلاةَ لا يَصلُحُ فيها شَيءٌ مِن كَلامِ النّاسِ هذا”.

خلاصة القول:

إن قيمة مبدأ “الهدوء والسكينة” في التعليم والتعلّم، هي أكبر بكثير مما هو متوقع. لأنه لا يتأتى تحديد أكثر المنهجيات والأساليب صوابا من أجل حل المشكلة وتصحيح الخطأ إلا بالمحافظة على الهدوء والسكينة، ولا يمكن اتخاذ أكثر القرارات صوابًا إلا في وسط كهذا. لذا يمكن القول “إن الحفاظ على الهدوء هو نصف الحل”. فالتعامل بهدوء وسكينة والاقتراب بلين ورحمة من السلوكيات والأفعال السلبية التي يقوم بها المخاطبون وعلى رأسهم الأطفال والشباب، هو أكثر الطرق صوابًا وصحة. وإلا فإن الخطوات والقرارات المتخذة بعجلة واندفاع وغضب تعود أيضًا بالضرر على الآباء والمعلمين والمسؤولين والمرشدين على حد سواء.

لذا ينبغي على الأب والأم والمعلم والمربي، إذا ما أخطأ الطفل أو سلك سلوكا منافيا، ألا يغضبوا من فورهم ويصيحوا في وجوههم، ولا يوترونهم، لأن الطفل الذي يُصرخ في وجهه يصير جبانًا، وينعدم لديه الشعور بالثقة والأمان. علاوة على أن الأطفال أو الشباب قد يُكِنون الكره والبغض تجاه والديهم أو معلميهم إذا ما خطؤوهم، بل ربما ينطوون على أنفسهم أيضًا. ومن ثم فإن المحافظة على الهدوء، والاقتراب منهم أطفالًا كانوا أو شبابًا بلين ورفق، يعزز شعور الحب والاحترام لديهم، ويقوي شعور الثقة فيهم. بينما الاقتراب منهم بغلظة وغضب يؤدي إلى نتائج عكس ذلك تمامًا. خلاصة القول، الهدوء يؤدي إلى الألفة ولم الشمل، بينما العجلة والغضب فيؤدي إلى النفور والانطواء وتشتيت الشمل.

Footnotes

  1. سنن الترمذي، البر، 66 (2012)؛ البيهقي، السنن الكبرى، 10/104 (20270).
  2. سنن الترمذي، البيوع، 54؛ سنن ابن ماجه، التجارة، 67.
  3. انظر: أحمد بن حنبل، المسند، 5/ 256-257.
  4. صحيح البخاري، (636)؛ سنن أبي داود (381).
  5. صحيح البخاري، العلم: 12، الأدب: 80؛ صحيح مسلم، الجهاد، 6، 7 (1732، 1733).
  6. صحيح البخاري، الأدب، 38 (6030)؛ صحيح مسلم، البر، 79 (4144)، (2592).
  7. صحيح البخاري، العلم، 32؛ علي المتقي، كنز العمال، 9/27765.
  8. صحيح مسلم، المساجد، 33؛ سنن أبي داود، الصلاة، 167 (931).
الأسسالتربيةالتعليمالسكينةالنبويةالهدوء
Comments (0)
Add Comment