بقلم: يوجَل مان
يشير لفظ أزمة بشكل عام إلى فترة زمنية صعبة، خطيرة وحرجة، تحدث فجأة وبشكل غير متوقع، فتؤثر سلبيًّا في السير الطبيعي للحياة الإنسانية، وتؤول بالخطط والمشاريع والأهداف والحسابات إلى طريق مسدود؛ وفي حال عدم إدارتها بشكل جيد وتخفيفِ حدَّتها إلى أدنى الدرجات قد تصبح سببًا في الفوضى والانهيار والخسائر الفادحة. فالأفراد والأسر والمجتمعات اليوم يواجهون كما هو الحال بالأمس أزماتٍ إداريةً واقتصادية واجتماعية وقانونية وعسكرية وإنسانية وأخلاقية وأسرية؛ أيْ أزمات ومشكلات مادية ومعنوية مختلفة.
وقد تنشب الأزمات بين الأفراد أو المجتمعات أو الشعوب أو الدول. وسواء نشأت نتيجة عوامل بشرية أو تطورات خارجية فإنها حقيقة وجزء لا يتجزأ من حياة الفرد والأسرة والمجتمع الذي يخضع للاختبار في كل آن. قد لا يمكن أحيانًا التنبؤ بها والحيلولة دونها رغم اتخاذ الاحتياطات والتدابير اللازمة مسبقًا. فما يجب فعله آنذاك هو التمركز حول الحل، وتدارك الخسائر والتلفيات؛ حتى إنه يجب تحويل الأزمات إلى فرص والخسائر إلى مكاسب. والمسؤولية الكبرى في تحقيق هذا تقع على عاتق ولاة الأمور من أصحاب الحل والعقد.
وفي هذا الإطار وقعت الكثير من الأزمات في عصر السعادة -في العهد المكيّ والمدني- ولا سيما أن من لم يقتنعوا بالإسلام ولم يرتضوه دينًا قد وضعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمام الكثير من الأزمات والمشكلات الإنسانية والاجتماعية، وذلك عن طريق الممارسات التي لجؤوا إليها مثل العنف والمقاطعة والإقصاء عن المجتمع والتهديد وتأجيج نار الفتنة والتمرد والنفاق وقرع طبول الحرب. وقد عرَّضت هذه الأزماتُ حياةَ المسلمين، وحريَّاتهم وحقوقهم الأوليَّة، ووضعهم المادي، وعلاقاتهم الاجتماعية، وأمنهم، وترابطهم وتكاتفهم، حتى مواطنتهم إلى تهديدات ومخاطر شتى؛ إلا أن الإدارة الحكيمة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإستراتيجيات والمبادئ التي التزمها كانت سببًا في اجتياز مراحل الأزمات بنجاح، وحل جميع المشكلات واحدة تلو الأخرى؛ بل إنها كانت وسيلة إلى نيل مكاسب وفرص دنيوية وأخروية مختلفة.
جعل أطراف المشكلة جزءًا من الحل
قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تهالك بنيان الكعبة الذي أقامه قصي بن كلاب وتصدع بسبب السيول والحرائق وعمليات النهب والسلب. وعلى إثر ذلك قرر سادة قريش أن يهدموا الكعبة ويعيدوا بناءها مجددًا. فتحالفوا جميعًا على هدمها، ثم شرعوا في البناء. ولما انتهوا من عملية البناء، وحان وقت وضع الحجر الأسود في موضعه؛ وقع خلاف وشقاق بين سادة قريش وزعمائها، وتحول إلى أزمة كبيرة. فكل قبيلة تؤْثِر نفسها في وضع الحجر الأسود في مكانه، وترى لنفسها الجدارة واللياقة بهذا الصنيع. وعلى الرغم من أنه عُرض عليهم تكسير الحجر إلى قطع فتحمل كل قبيلة قطعة إلى موضعها فقد قوبل هذا العرض بالرفض؛ بل أوشك الأمر أن يتمخض عن حرب شعواء بين هذه القبائل المتسلحة، حتى إنهم جاؤوا بإناء به دم وقالوا ما نترك هذا إلا بالدم. واستمر الأمر على هذا أربعة أيام.
عندئذ تدخّل أبو أمية بن المغيرة وكان أكبر أهل قريش سنًّا في حل المشكلة، فجمعهم عند المسجد الحرام، وأشار إليهم أن يحكِّموا أول من يدخل عليهم من باب بني شيبة. فأجمعوا على رأيه وانتظروا أول قادم. فكان سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم أولَ الوافدين عليهم، وكان حينها ابن خمس وثلاثين سنة. فلما رأوه استبشروا بقدومه لما علموا عنه من أخلاق عالية وفضائل كاملة، وقالوا: “هذا الأمين، رضينا، هذا محمد”. وما إن انتهى إليهم حتى أخبروه الخبر، وعرضوا عليه الأمر.
وارتضوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حكمًا، فإلى أي قبيلة يشير صلى الله عليه وسلم سيرضى الجميع؛ لكنه عرض عليهم حلًّا يجمع جميع أطراف المشكلة حتى لا يكون هناك أثرٌ لأي حساسية في نفوسهم تجاه من سيختاره ويقدمه عليهم. طلب منهم أن يحضروا له ثوبًا. فأتوا له بثوب كبير، فأخذ الحجر الأسود ووضعه عليه، ثم طلب منهم أن يأتي من كل قبيلة رجل يأخذ بطرف الثوب فيرفعونه جميعًا. ولمّا أصبح الحجر بمحاذاة الموضع المخصص له أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ووضعه في مكانه. وبذلك تم حل المشكلة التي أوشكت أن تشعل فتيل الحرب بشكل وأسلوب لقي استحسان ورضا الجميع، ولم يخلف وراءه أثرًا سلبيًّا يستقر في النفوس[1].
عدم تصعيد التوتّر والمحافظةُ على الصبر والهدوء
حينما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنّ الأربعين، نزلت عليه أولى آيات الوحي الإلهي، ليكون النبي الخاتم المبعوث للناس عامة. فكانت مهمته هي تبليغ الناس دين الإسلام؛ دين التوحيد والعدل؛ إلا أن مشركي مكَّة عدُّوا العدة لما علموا بهذا الخبر، وأخذوا يرمونه -حاشاه- بالجنون[2].
لقد كان “اصطفاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم”[3] بالرسالة سببًا منذ اليوم الأول في وقوع أزمةٍ كبيرة بينه وبين أهل مكة، وستظل هذه المشكلة قائمة إحدى وعشرين سنة، فضلًا عن أنها ستكون مع مرور الوقت سببًا في وقوع الكثير من الأزمات الأخرى. كان يبدو أن أهل مكَّة عازمون ومصرون على عبادتهم للأصنام والزود عن أنظمتهم السياسية والإدارية والاقتصادية التي تتشكل حول عبادتهم هذه، وكان من الممكن أن ينتهي أمر الدعوة قبل بدئها؛ فهذا سيدنا العباس رضي الله عنه ينقذ أبا ذر الغفاري لما أسلم من أيدي مشركي مكَّة في اللحظات الأخيرة عندما انكبُّوا عليه بدافع الكره والبغضاء في الأيام الأول من الدعوة.
فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى الإسلام فرادى حتى لا تتضخم المشكلة. فبدأ بمن يعرفهم جيدًا ويثق فيهم، وهكذا كان يفعل من آمن به من أصحابه. وبذلك اضطلع بعمل كبير دون أن يصعِّد التوتر السائد في مكَّة. حتى إنه قد أذن للناس أن يكتموا إسلامهم، بل وعمد إلى إعادة من أسلموا من خارج مكَّة إلى ديارهم حتى لا يلفتوا الانتباه[4]، كما كانت الصلوات ومجالس تعليم القرآن تؤدَّى في أماكن بعيدة عن عيون قريش[5]. ولقد أتى هذا المبدأ النبوي القائم على عدم تصعيد الأمور أكله، ووصل الإسلام إلى أكثر من مائة فرد كانوا النواة في الدعوة الإسلامية، وذلك حتى السنة الرابعة التي بدأت فيها الدعوة علانية وبشكل جماعي، وذلك على الرغم من الجو الحرج والمتأزم الذي هيأه أهل مكَّة[6].
ولما أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة، اجتمع في بادئ الأمر بعشيرته الأقربين، إلا أن عمه أبا لهب أفسد عليهم المجلس وأثار المشكلات. فآثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصمت عن أن يبث الفرقة بين أهله، وعن أن تتفاقم المشكلة[7]. والحال أنه قد جنى ثمار هذا التصرف السليم في سنوات المقاطعة الثلاث؛ حيث تأهب حتى المشركون من أهله للدفاع والزود عنه. ولم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جمع قريش ودعاهم إلى الإسلام، ومع أنهم قد تأثروا من هذه الدعوة إلا أن عمه أبا لهب تدخل في الأمر، وأغلظ القول للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسبب في نشوب أزمة ثانية. وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتًا على موقفه في هذه المرة أيضًا. فقد رجَّح الهدوء، والثبات على موقفه وعدم الجدال مع أبي لهب على مرأى ومسمع من الناس[8].
وقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ حتى لحق بالرفيق الأعلى؛ فلم يدخل في نزاع أمام الناس مع أبي جهل ولا ابن سلول ولا غيرهما في الأوقات الحرجة ولحظات الأزمة، وأعرض عن الجاهلين والتزم الأمر القرآني القائل: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/60). فعلى حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينير بصيرة الرأي العام الداخلي، كان القرآن الكريم يلقِّن أصحاب هذا القول الخسيس الجواب اللازم وكأنه يدافع عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.
على الرغم من كل ذلك كانت المشكلة تتضخم كل يوم بالنسبة للمسلمين في مكَّة؛ حتى إن أهل مكَّة الذين وطَّنوا أنفسهم على العداوة، أخذوا يتعقبون الناس عن كثب، وأخذوا يسومون من علموا بإسلامه سوء العذاب. من جانب آخر كانوا يحاولون إثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبليغ رسالته بالتهديدات والعروض التي يعرضونها على عمه أبي طالب[9]. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه الذين يتعرضون للتعذيب بالتزام الصبر وألا يقابلوا الظلم الذي يتعرضون له بمثله ألبتة. فحرص هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم على الالتزام بهذه الوصايا النبوية حتى ولو كان على حساب أرواحهم، ولم يتمكن أحد من جذبهم إلى جو العنف والشدَّة، ومن ثم فسَّر الرأي العام ما تعرض له المسلمون بأنه “ظلم وعدوان من رؤوس الشرك”، حتى إن التاريخ قد دوَّنه على نفس الشاكلة.
البحث عن طرق بديلة والانفتاح على الخارج
استمرت الدعوة إلى الإسلام في ظل ظروف قاسية في مكَّة، ولم تعد هناك قدرة على تأمين المسلمين، فأخذ الناس يبتعدون عن الإسلام بسبب جو الرعب الذي يعيش فيه المسلمون، ومع الوقت أخذت مثل هذه الأزمات تتضخم وتتفاقم من جانب واحد؛ مما دفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحث عن طرق بديلة من أجل تخطي هذه المشكلات؛ فقرر بداية الانفتاح على القبائل العربية الأخرى. وكانت الأسواق التي تقام في أطراف مكَّة وموسم الحج فرصة عظيمة لتحقيق هذا؛ حيث تجتمع القبائل من أنحاء شبه الجزيرة العربية من أجل هذه الأسواق ومن أجل مناسك الحج. فلم يفوِّت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأسواق التي تستمر إجمالًا ثمانية وثلاثين يومًا، فكان يطوف بخيام القبائل، ويعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى الإيمان به ونصرته.
تقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القبائل من بني عامر بن صعصعة، ومحارب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرَّة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبني نصر، وبني البكاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة، وهمدان، وبني شيبان بن ثعلبة وطلب منهم أن ينصروه هو وأصحابه، وذلك من أجل تخطي الأزمة في مكة. وما إن فرغ من الأسواق حتى أقبل موسم الحج، فعرض الإسلام على القبائل الموجودة بمنى، ودعاهم إلى نصرته. وبينما كان يقوم صلى الله عليه وسلم بهذه المحاولات، لم يسلم أيضًا من كيد قريش وعداوتهم، فقد كانوا يتعقبون أثره، ويحرضون القبائل ضده، ويدعون الناس إلى إنكار دعوته وعدم الإيمان به. ومع ذلك كله لم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزاع قولي أو فعلي معهم أمام القبائل، بل كان ينتقل إلى الخيمة التي بعدها وكأن شيئًا لم يكن[10].
وبسبب هذا الانفتاح على الأسواق في الدعوة صعّدت قريش من حدة العنف ضد المسلمين، ووصل الظلم إلى أبعاد لا يمكن تحملها، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أزمة إنسانية كبرى؛ من أجل ذلك وجد صلى الله عليه وسلم الحل في إرسال أصحابه إلى الحبشة عند الملك العادل النجاشي، فهاجر ما يزيد على مائة من الصحابة رضوان الله عليهم وقلوبهم مشغولة برسول الله صلى الله عليه وسلم[11]. لم يكتف هؤلاء المشركون الذين لا يقبلون شيئًا عن حرية الدين والاعتقاد بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبليغ رسالة ربه فحسب؛ بل إنهم بدؤوا في الاعتداء على شخصه الكريم. فتراهم يلقون سلى الجذور على رأسه الشريفة وهو ساجد عند الكعبة، ويعمدون إليه فيخنقونه بردائه، ويرمون بيته بالحجارة، ويلقون الأشواك في طريقه، ويحيكون المكائد ليغتالوه، ويفرضون عليه وعلى أهله المقاطعة، محاولين بكل ذلك بث الخوف في نفسه، وإخراجه من داره[12]. كانت كلُّ واحدة من هذه مشكلة قائمة بذاتها، ولذا قرر صلى الله عليه وسلم الذهاب إلى الطائف من أجل تخطي كل هذا؛ إلا أن ثقيفًا قابلته بنفس العداوة والبغضاء. ومع ذلك لم يدخل في نزاع معهم، بل وحتى إنه لم يقبل طلب الدعاء عليهم[13].
ولقد أينعت على المدى البعيد ثمارُ المبادئ والإستراتيجيات التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وقوع هذه الأزمات كلها. فهو لم يترك بداية أي أثر سلبي في أذهان أهل مكة لدرجة أنهم لما سُقط في أيديهم يوم فتح مكَّة ولم يجدوا حينها أي قول أو فعل من الماضي يمكنهم أن ينتقدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلموأصحابه؛ امتلكهم الخجل والخزي بما فعلوه بالأمس لما سألهم رسول الله: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ؟” فقالوا وهم في أشد الحياء: “خيرًا، أخٌ كريم وابن أخ كريم”. فهذا الاعتراف يستند في الحقيقة على ما رأوه بالأمس من العفو والصفح والصبر والصمت وضبط النفس. فعلى الرغم من أن الانفتاح خارج مكَّة في الدعوة لم يلق قبولًا حتى ذلك الوقت، فقد ذاع صيت الإسلام بين جميع القبائل العربية[14]. والنتيجة أن تعارفه صلى الله عليه وسلم بالأنصار كان بفضل الإستراتيجية التي اتبعها بالدعوة في الأسواق ومواسم الحج.
كذلك كان إرساله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الحبشة سببًا في تحويل الأزمة إلى مكاسب ذات أبعاد مختلفة. فقد أرسلهم بداية إلى مكان يستطيعون فيه أن يعيشوا دينهم بأريحية كبيرة. ولما خرجوا من مكَّة تلاشى من حولهم جو الخوف والذعر الذي كان يحاصرهم في مكة، مما أعطى الناس فرصة ولو ضئيلة للتفكر في الأمر. وقد كان لهذا الأثر الأكبر في إسلام أقوياء مكَّة أمثال سيدنا حمزة وعمر وحكيم بن حزام رضي الله عنهم أجمعين. ونُقلت الدعوة إلى قارة إفريقيا، وبدأ انتشار الإسلام بين عائلة النجاشي في أول الأمر ثم في الحبشة كلها، حتى إن ما يقرب من عشرين نفرًا أقبلوا إلى مكَّة يعلنون إسلامهم[15]. فيمكن القول إن الأزمة كانت سببًا ووسيلة لإرسال المسلمين إلى الحبشة، وتأمين بقاء الإسلام والمسلمين مستقبلًا. وإن إبقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجودهم في الحبشة إلى موعد عقد صلح الحديبية، لهو دليل على أنه تم التفكير في جميع الاحتمالات الممكنة في هذا الأمر.
توسيع مجال الحركة وإثارةُ الضمائر والنفوس
خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوات من شأنها أن تسفر عن نتائج عظيمة في المستقبل رغم الأزمة الموجودة في مكة، كما أنه لم يصدر عنه أية ردة فعل سلبي تجاه المظالم القاسية التي يعيشونها، وهذا ما جعل الرأي العام يصف ممارسات قريش بأنها إجحاف وظلم بيِّن واقع على المسلمين وليس مجرد نزاع بسيط، وهذا ما أثار غضب وسخط رؤوس الشرك. لقد عزموا جميعًا على التخلص منه صلى الله عليه وسلم تمامًا، لدرجة أن بني هاشم وعبد المطلب قد استلوا أسلحتهم، ووضعوه صلى الله عليه وسلم تحت حمايتهم. فتراجعت قريش عن قرارها وأعادت سيوفها إلى أغمادها لما لهاتين العائلتين من شأن عظيم عند العرب، واجتمع القوم بخِيف بني كنانة، وتحالفوا على “ألا يقبلوا منهم صلحًا ولا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يكلموهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم”، لتكون هذه بنود المقاطعة المشهورة التي فرضوها على بني هاشم وبني عبد المطلب. فوقَّعت عليها قبائل مكة، وعلقوها داخل الكعبة بعد أن أعلنوها للناس. وقد كان مقصدهم من وراء ذلك الحكم هو إبادة آل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوع والعطش والعزل عن المجتمع، ودفعُهم إلى تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن لم يفعلوا هلكوا جميعًا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم[16].
كانت الأزمات تتوالى في إثر بعضها، فقد انضمت أزمة جديدة إلى جانب الأزمات التي تستهدف القضاء على الإسلام والمسلمين واستئصال شأفتهم. ففي وقت غير متوقع وبشكلٍ لا يُتصوّر حُكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهله بوتيرة حرجة لا يُعرف مصيرها. فصار البقاء في البيوت بمثابة استخراج تصريح بالموت. فسيقوم الحارسان الرابضان أمام ديارهم ليل نهار بالحيلولة دون وصول المساعدات إلى عقر دارهم؛ لذا قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمه أبو طالب مواجهة هذه الأزمة في مكان يسمى شِعب أبي طالب. فحملوا أمتعتهم وعتادهم وانطلقوا بها إلى هناك.
وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم قد أفسح مجال الحركة أمام أقربائه، وفي الوقت نفسه جمعهم في مكان واحد ليكون بعضهم عونًا وسندًا للآخر، وكذلك ليكون الناس جميعًا على مرأى ومسمع لما يتعرضون له من ظلم واضطهاد فتثور ضمائرهم ووجدانهم. علاوة على أن ذلك يضمن متابعة التطورات في مكَّة، وتلقي الأخبار الجيدة التي تثلج صدور من في الحصار من أقربائه. ولذا نراه صلى الله عليه وسلم قد كلَّف سيدنا حمزة رضي الله عنه بهذه المهمة. وعلى الرغم من أن أبا جهل قد أخذ التدابير اللازمة من أجل تنفيذ بنود هذه المقاطعة بحذافيرها، إلا أن إستراتيجية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساعدتهم على النجاح في البقاء أحياء مدة ثلاث سنوات بالمساعدات التي تصل إليهم بشكل من الأشكال رغم الصعوبات التي واجهوها. وفي نهاية السنوات الثلاث لم يستطع خمسة من أشراف مكَّة البقاء مكبلي الأيدي أمام هذا الظلم أكثر من ذلك، وقاموا بإنهاء هذه المقاطعة الظالمة[17].
عدم التخلي عن الناس ومساعدتهم
يمكننا القول بكل أريحية إن المرحلة المكِّية قد مرت تقريبًا بأكملها في أزمات؛ لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم رغم ذلك اجتاز جدران الخوف المختلفة التي نسجها المشركون، ونقل الإسلام ومسلمي مكَّة إلى المستقبل بخسائر بسيطة. ولقد كان من ضمن المبادئ التي اتبعها خلال هذه الأزمات هو عدم التخلي عن الناس ومساعدتهم. فقد قام بشراء الرقيق الذين لاقوا شتى ألوان الظلم وقام بتحرير رقابهم[18]. كما قام بإعالة الفقراء وأصحاب الحاجة من المسلمين وجعلهم في ذمة الميسورين والآمنين منهم[19]. وآخى بين بعضهم البعض ليكون كل منهم سندًا للآخر ومعينًا له، وكان يمر عليهم في محال تعذيبهم فيرفع من هممهم[20]. ويغذيهم فكريًّا حتى لا يتأثروا بأقاويل المشركين ووأفعالهم[21]. كما كان يدعو للمحبوسين والمعذَّبين منهم، ويشحذ إرادتهم ويقوّي عزائمهم بالبشارات والأخبار السارة[22].
ولقد كان سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم يستعمل الناس حسب قابلياتهم ومهاراتهم، فمنهم من جعله كاتبًا للوحي، ومنهم من أوكل إليه تعليم المسلمين، ولم يسمح بالتقصير في أي أمر من أمور الدين والدعوة.
لقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول للبعثة مشكلات عديدة متشابكة تسبب فيها جميعًا مشركو مكَّة. وعلى الرغم من حدسه وتنبّئِه ببعض الأمور مسبقًا بعِظم بصيرته وفراسته واتخاذه التدابير والاحتياطات اللازمة، فإنه لم ينج من هذه الأزمات؛ ولكن لما أصبح وجهًا لوجه معها أظهر موقفًا رياديًّا وقياديًّا يحتذى به، واستمر في أداء مهمته بخطًى واثقة ووسائل مختلفة؛ حتى إنه استغل مرحلة الأزمات هذه، وتعامل مع الموقف بجميل طبعه وحسن خلقه، حتى إنه استطاع أن يترك أثرًا عميقًا في أذهان المشركين وليس أصحابه رضوان الله عليهم فحسب، فبعث بهذه الرسالة المعنوية: “إن فلسفتي في العمل تقوم في الأساس على التحرك الإيجابي، والصلح والصبر، والعفو والصفح، ومراعاة الحق والحقوق دون الخروج عن دائرة القانون”.
ولقد قام صلى الله عليه وسلم بعدة إجراءات حولت الأزمات إلى مكاسب كبيرة من شأنها أن يفتح أبواب خير كثيرة في المرحلة القادمة وذلك بالنسبة له صلى الله عليه وسلم وبالنسبة للصحابة رضوان الله عليهم أيضًا. فقد شحذ إرادتهم وشد من عزيتمهم ووسع آفاقهم تجاه الأزمات الكبرى التي سيواجهونها مستقبلًا. وإن هذه المبادئ الرئيسة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمواجهة الأزمات التي عرضت له في مكَّة، هي بمثابة مفاتيح لأبواب النجاة والخلاص للمسلمين بل وحتى للإنسانية جمعاء الذين يعيشون أزمات مماثلة. ولقد عرض “جورج برنارد شو (George Bernard Shaw)” الذي درس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعمق هذا الجانب على النحو الآتي:
“الإسلام هو الدين الوحيد الذى يبدو لي أن له طاقةً هائلةً لملائمة أوجه الحياة المتغيرة، وهو صالح لكل العصور. إنني درست تاريخ حياة محمد، ذلك الرجل العظيم، وفي رأيي يجب أن يطلق عليه لقب “منقذ البشرية”. إنني أعتقد أنه إذا قُدِّر له أن يتولى مسؤولية قيادة العالم، فلا شك أنه سيستطيع حل مشكلاته وإقرار السلام والسعادة فيه”[23].
[1] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 92-93؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/146؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، 3/294؛ البيهقي، دلائل النبوة، 2/57.
[2] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/199.
[3] البيهقي، دلائل النبوة، 2/207.
[4] أمثال أبو ذر الغفاري، عمرو بن عبس السلمي والطفيل بن عمرو الدوسي. انظر: صحيح البخاري، مناقب الأنصار، 33؛ صحيح مسلم، الفضائل، 28؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 176-177؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4/169،170،176.
[5] انظر: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، 4/52؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 120؛ تاريخ الطبري، 2/318؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 3/37.
[6] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 115-120.
[7] انظر: تاريخ الطبري، 2/319؛ السيرة الحلبية، 1/283.
[8] انظر: صحيح البخاري، التفسير، 26،34. صحيح مسلم، الإيمان، 89؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/74.
[9] ابن هشام، السيرة النبوية، 120-123؛ الحاكم، المستدرك على الصحيحين، 3/577.
[10] انظر: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، 2/612؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، 6/21؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 194-200.
[11] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 148-154.
[12] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 132، 136، 137، 191.
[13] انظر: صحيح البخاري، بعد الحلق، 7؛ صحيح مسلم، الجهاد، 39؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 193، 194؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 3/166-168.
[14] ابن هشام، السيرة النبوية، 129.
[15] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 180.
[16] لقد اتخذ أهل مكِّة قرارهم مسبقًا في دار الندوة، ووقعوا على هذا العمل في مكان بعيد عن مركز المدينة؛ لأن من خرجوا معهم كانوا قد خرجوا في الأصل من أجل قتله، فلو عرضوا رايهم هذا في دار الندوة لحصل جدال وتعالت الأصوات؛ لذلك عقدوا حلفهم في خيف بني كنانة؛ فكوَّنوا هالة من الإجماع القومي بل حتى القداسة على فعلهم هذا. والحال أنه لو كان بينهم ذلك اليوم أشراف مكَّة الخمسة الذين أنهوا هذه المقاطعة لوقفوا في وجه أبي جهل علانية وأفسدوا عليه مكيدته.
[17] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 162، 173-176؛ أبو نعيم، دلائل النبوة، 1/358، 359؛ ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، 38.
[18] انظر: ابن هشام، السيرة النبوية، 146، 147.
[19] انظر: البيهقي، دلائل النبوة، 2/216؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 4/140؛ الهيثمي، كشف الأستار، 3/169 (2493)؛ أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، 1/285 (376)؛ إسماعيل بن محمد الإصبهاني، سير السلف الصالحين، 1/94.
[20] أحمد بن حنبل، المسند، 1/217؛ ابن هشام، السيرة النبوية، 147؛ الهيثمي، مجمع الزوائد، 9/295.
[21] انظر: صحيح البخاري، المناقب، 16؛ النسائي، الطلاق، 25، 42؛ أحمد بن حنبل، المسند، 12/284.
[22] صحيح البخاري، المناقب، 25؛ الإكراه، 1؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 2/148.
[23] (Sir Georged Bernard Shaw, The Genuine Islam, 1936, 1/8.)