بقلم: يوجَل مان
لقد كانت الأخبار الكاذبة المختلقة -ولا تزال- من المشكلات الرئيسة التي تهم الفرد والأسرة والأمة والحضارات على مرِّ العصور، ولا سيما الأكاذيب والشائعات التي تُختلق بشكل ممنهج ومنظّم من أجل أهداف وغايات معينة؛ إنها قد أثارت الشكوك حول الأفراد والمؤسسات، وفرقت شمل العائلات، وأثارت البغضاء والفوضى، وسجنت الأفراد في مخاوف شتَّى، وتسببت في أزمة أمنية في المجتمع، وجُعِلت دعامة للظلم، وسببًا للنزاعات وشلالات الدم التي لا يمكن إيقافها، وإن هذا النوع من الأخبار قد تحولت إلى سلاح حالك قذر في أيدي الأفراد والمجموعات المحرومة من القيم الإنسانية والعازمة على القضاء على مخاطبيها، والتي لا تقبل شيئًا عن الحقوق والقانون، ولا ترضى شيئًا سوى مطامعها ومصالحها، وتستحلّ كل شيء في سبيل الوصول إلى أهدافها.
هناك الكثير والكثير ممن اضطلع بهذا السلوك المهين في عصر السعادة -عصر النبي صلى الله عليه وسلم- من أجل القضاء على الإسلام، وتأجيج نار الفتنة بين المسلمين، والتغلّب عليهم واستئصال شأفتهم، وخاصة أن هذا صار واقعًا معاشًا مريرًا منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تلبث تلك الأخبار التي اكتسبت بُعدًا عميقًا بالافتراءات والأكاذيب المختلفة، والتي طُرحت في أكثر الأوقات والمناطق حساسية أن تحولت إلى شائعات كبرى كما هو الحال بالنسبة لحادثة الإفك.. إن “دار الندوة” التي كانت بمثابة مركز قيادة وإدارة مكَّة في ذلك الوقت أصبحت وكأنها مركز ترويج الشائعات والأكاذيب وتطرح على الساحة كل يوم كذبة وافتراء جديدًا، وتروج الشائعات التي تحرّك الناس ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كانت الصدمات والزلزلات والفوضى والاضطرابات التي سببتها هذه الشائعات لها بلا شك العديد من النتائج التي أثرت على حياة الفرد والمجتمع وسير الأحداث. ولنعرض لكم بعضًا من هذه الأكاذيب:
شائعة “إسلام أهل مكَّة”
هاجر المسلمون إلى الحبشة بتوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب ظلم واضطهاد وتسلط أهل مكة حيث لم يتمكنوا من التمتع بحقوقهم الأساسية وحرياتهم، وهناك في بلد النجاشي وجد العديد من الصحابة الأمن والأمان وبدؤوا يعيشون قيمهم الخاصة بشكل مستقر.. لقد هاجروا؛ لكن عقولهم ظلَّت عند رسول الله وفي وطنهم الأم.. إنهم يحاولون الاطلاع على كل الأخبار الواردة من مكَّة من أجل معرفة عاقبة من تركوهم من خلفهم هناك.. فورد إليهم بعد ثلاثة أشهر أن أهل مكة قد تخلوا عن عنادهم وإنكارهم واعتنقوا الإسلام، ويعيش المسلمون الذين تركوهم من خلفهم في أمن وأمان؛ حتى إن الوليد بن المغيرة وأبا أُحيحة سجدَا خلف رسول اللهصلى الله عليه وسلم.
يتطلب التحقّق والتأكّد من الأخبار المسموعة أو المنقولة بين مكة والحبشة وفقًا لظروف ذلك العصر.. ومن الواضح أن المشركين أرادوا أن ينتهزوا هذا الأمر؛ إنهم يريدون إعادة المهاجرين الذين عجزوا عن إخضاعهم بالرشوة والافتراءات، وذلك عن طريق إقناعهم بأخبار لا أصل لها حول تغير الأوضاع في مكة، وعلى الرغم من أن بعض الصحابة قد عزموا ألا يعودوا حتى يأتيهم الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن البعض الآخر وخاصة ممن تأثروا بخبر إسلام وُجَهاء قريش مثل الوليد بن المغيرة وأبي أُحيحة، وغلب على عقلهم ومنطقهم الشوق إلى وطنهم، قالوا: “فمن بقي بمكة إذا أسلم هؤلاء؟!” وقالوا: “عشائرنا أحبّ إلينا” معربين عن شوقهم وحنينهم إلى وطنهم.
وبناء على ذلك خرجت في شهر شوال قافلة من تسعة وثلاثين نفرًا، ثلاثة وثلاثون رجلًا وست نسوة عائدين إلى مكَّة، لقد غلبهم الشوق إلى رسول الله والحنين إلى وطنهم، وبينما يتقدم المهاجرون بفرحة عارمة إلى مشارف مكة حتى لقوا ركبًا من كنانة فسألوهم عن قريش وعن حالهم، فأخبروهم بحقيقة الأمر، لكنهم في هذه الساعة قد اقتربوا من وطنهم لدرجة يثقل عليهم العودة إلى الحبشة، لكن دخولهم مكة دون حماية فيه الهلاك والخطر عليهم.
وفي وسط هذا الخوف اجتمعوا واستشار بعضهم البعض، وفي النهاية قالوا: “قد بلغنا ندخل، فننظر ما فيه قريش، ويحدث عهدًا من أراد بأهله، ثم نرجع”، ولم يدخل أحد منهم مكة إلا بجوار أو مستخفيًا.
وكان بعض المهاجرين العائدين من الحبشة إلى مكَّة في هذا اليوم أمثال سويبط بن سعد، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن مخرمة، وسعد بن خولة، وعمرو بن أبي سرح مكثوا بمكة بجوار رسول الله إلى أن هاجروا معه إلى المدينة.. بينما حُبس البعض أمثال عبد الله بن سهيل بن عمرو، وسلمة بن هشام، وهشام بن العاص من قِبل أقربائهم وتعرضوا لأشد العذاب، حتى إنهم قد فاتت عليهم فرصة الهجرة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لم يشتركوا في غزوتي بدر وأحد.. حتى إن بعضهم لم يقدر على الهجرة إلى المدينة قط، وتوفي في مكة المكرمة[1].
شائعة “مقتل النبي صلى الله عليه وسلم”
وبالانتقال إلى غزوة “أُحُدٍ” فقد تفرّق شمل المشركين وتعرّضوا للهزيمة في وقت قصير بما أظهره الصحابة الكرام على جبل أُحد من بسالة وإقدام، حتى إن بعض الصحابة قد بدؤوا في جمع الغنائم وجنودُ المشركين لا يزالون يفرون، وفي تلك الأثناء نزل معظم الرماة الذين وضعهم رسول الله على الجبل لحماية أظهُر المسلمين من الخلف -في مواجهة المنظر الذي يرونه- إلى ساحة القتال تاركين أسلحتهم من تلقاء أنفسهم ظنًّا منهم أن المعركة قد حُسمت.
ولما لمحت فرقة من فرسان قريش تلك الثغرة التي أحدثها نزول الرماة من مواقعهم على الجبل، عادوا إلى الجبهة من جديد ليباغتوا الصحابة الذين يتحركون في ميدان القتال بكل ثقة واطمئنان بسبب التدابير التي اتخذها رسول الله ضد الهجوم المباغت المحتمل وقوعه من الخلف، وهجموا عليهم بشكل غير متوقع، بالإضافة إلى أن الفارين من جيش المشركين قد لاحظوا الوضع، فرجعوا للجبهة وأحاطوا بالمسلمين من كل مكان، وبينما اضطربت صفوف المسلمين، وأصبحَ الموت والقتلُ منتشرًا بكل مكان صوت يصدح في الميدان: “قُتل محمد!”.
وكان ابن قميئة الليثي قد قتل سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، فظن أنه قتل رسول الله، فرجع إلى قريش يبشرهم قائلًا: “قتلتُ محمدًا”، فصرخ صارخ: “قُتل محمد”[2].. وبينما يتحرك رسول الله في وسط هذا الهرج والمرج من أجل لم شمل الجيش حتى وقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون.. وأغمي على رسول الله في الحفرة وسط جوٍّ يعلوه الغبار والاضطراب.
لقد كان خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا التوقيت الذي يحاول فيه الصحابة النجاة بكل ما أوتوا من قوة، له وقعٌ وتأثيرٌ كبيرٌ على حالتهم النفسية التي انهارت بالفعل من مباغتة المشركين إياهم.. فلم تسنح لهم الفرصة في وسط هذا القتال أن يتحققوا من الخبر.. علاوة على أن المنافقين الذين زرعهم ابن أُبيّفي صفوف المسلمين أخذوا يرددون “قُتل محمد”، ولا يصدر أيضًا عن قائدهم صلى الله عليه وسلم صوت ولا إشارة.
ولقد فكر بعضهم بعد الانكسار المؤقت الذى أصاب الجيش أن يكتب إلى عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين، وكان سيدنا أنس بن النضر طريحًا مصابًا شاهدًا على ما قالوه، إذ قال أحدهم: “ليت لنا رسولًا إلى عبد الله بن أُبيّ فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان”، وقال آخر: “يا قوم إن محمدًا قد قُتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم”، وآخر يمر بين الجرحى من الصحابة ويحثهم على العودة إلى ديارهم.
وفي مقابل هذا لم يتحمل سيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه هذه الكلمات، فنهض واقفًا وقال لهم: “يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء”، ثم استجمع قواه وانقضَّ على صفوف المشركين طالبًا الجنة التي يجد ريحها دون أُحد.
إنه في الحقيقة بموقفه هذا يبين الواجب على المؤمن فعله تجاه الجماعة التي انتشرت بين أفرادها الشائعة وتأثروا بها، وقد شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقف أنس ومحاولته لم شمل المسلمين من جديد، فقال في حقه: “إني لأرجو أن يبعثه الله أمة واحدة يوم القيامة”.
وعلى الرغم من أن بعض الصحابة الذين سمعوا مقولة سيدنا أنس ويتفقون معه في الرأي قد واصلوا القتال، إلا أن هناك مجموعةً طرحت أسلحتها أرضًا وانزوت جانبًا، ومجموعةً تركت الجبهة وصعدت الجبل، ومجموعة أخرى ثبتت في مكانها؛ وكانت المجموعة الأكبر هي من طرحت أسلحتها أرضًا وعادت إلى ديارها، بل إن وقع الصدمة كان كبيرًا عليهم لدرجة أن بعضهم قد ارتبك وصار يضرب البعضَ الآخر[3]، استغلت قريش هذه الجلبة وهذا التشتت، فأسقطت سبعين شهيدًا من الباقين في الجبهة وأصابت من الآخرين، فلم يبق هناك أحد لم تنلْه سيوف أو نبال أو رماح المشركين.
في تلك الأثناء قام الصحابة بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحفرة، فرآه كعب بن مالك وكان يبحث عنه، فنادى بأعلى صوته: “يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم “أن أنصت”. ثم صعد رسول الله الجبل، وقال: “إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ“، فاجتمع الجيش الذي فرَّقته الشائعة، والتف من حوله ثانية.
وبذلك نرى مدى تأثير الخبر الكاذب الذي طُرح في أكثر أوقات القتال حساسية وتأزّمًا، لقد شتت شمل المسلمين، وعرَّضهم لهزة شديدة وخسائر فادحة[4].
أنزل الله عز وجل قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/144) ملفتًا الانتباه إلى الزلزلة التي أحدثها الخبر الكاذب، وكأنه تعالى يقدِّر ويعظم موقف سيدنا أنس رضي الله عنه.
شائعة “مجيء أبي سفيان بجيش عرمرم لا يُقهر”
قال أبو سفيان عند انصرافه من أُحُد: “موعدكم وإيانا العام القابل ببدر”، فقَبِل رسول الله الموعد.. فلما دنا الموعد تأهب المسلمون في المدينة للقتال.. وبينما يذهب نعيم بن مسعود إلى مكَّة ليعتمر، اطلع على ما يدور في المدينة، فأخبر أبا سفيان وقريشًا أن المسلمين يتهيؤون لقتالهم.
أخذ أبو سفيان الذي يقف خلف هذه الدعوة للقتال يبحث عن مخرجٍ من هذا الموقف، فالوفاء بالعهد شيءٌ مهمٌّ عند العرب.. إنه يريد أن يتخاذل عن الخروج بحجة القحط وجدب الأرض في هذه السنة؛ ولكنه في الوقت نفسه يخاف أن يُقال عنه إنه لم يأتِ خوفًا من المسلمين، فاستغل أبو سفيان قدوم نعيم بن مسعود وطلب منه أن يعود إلى المدينة ويشيع بينهم أن “أبا سفيان قد حشد جيشًا لا قبل لكم به”، محاولًا أن يخذل المسلمين عن المسير لموعده ببدر، وجعل أبو سفيان لنعيم عشرين ناقة توضع تحت يد سهيل بن عمرو حتى يفعل ما أراد منه.
وبالفعل قَبِلَ “نُعَيم بن مسعود” هذا العرض، وما إن وصل المدينة حتى بدأ في فعالياته.. فوجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهزون، فقال لهم: “تركت أبا سفيان قد جمع الجموع وأجلب معه العرب، فهو جاء فيما لا قبل لكم به، فأقيموا ولا تخرجوا فإنهم قد أتوكم في داركم وقراركم، بئس الرأي رأيتم لأنفسكم، والله ما أرى أن يفلت منكم أحد!”، وجعل يطوف بهذا القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستبشر بذلك المنافقون وقالوا: “محمد لا يفلت من هذا الجمع!”، محاولين إضعاف معنويات المسلمين وإثنائهم عن الخروج للقتال، لقد تأثر البعض من هذه الحرب النفسية التي تقوم على أخبار كاذبة حتى كرهوا الخروج.
لقد تعاظم تأثير هذا الخبر الكاذب ومقولة المنافقين في نفوس المسلمين، حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرُجَنَّ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ“، فكان ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم على موقفه قد أذهب عن الصحابة الرعب المصطنع، وخرجوا معه للقاء المشركين ببدر.
في الجانب الآخر كان أبو سفيان ورجاله يستمرون في ترديد دعاياتهم بأن المسلمين قد انتهى أمرهم ولن يجرؤوا على الخروج، إن لهذه الشائعات تأثيرًا كبيرًا على من لا يعرفون حقيقة الأمر، وأقبل رجل يُقال له مخشي بن عمرو والناس مجتمعون في سوقهم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل ذلك الموسم، فوجد المسلمين ببدر، فقال: “يا محمد، لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم”[5].
شائعة “مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه”
وبالانتقال إلى موقف آخر فقد خرج رسول الله وأصحابه إلى مكَّة معتمرين، ولكن قريشًا قطعت عليهم الطريق عند الحديبية، فمكثوا فيها قرابة عشرين يومًا.. فبعث رسول الله الرسل إلى مكة ليخبروهم أنهم لم يخرجوا لقتال وأن مقصدَهم أداء العمرة والعودة إلى المدينة، وكان من بين الرسل الذين بعثهم إلى قريش سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومكث المسلمون ينتظرون الرد القادم من مكَّة.
طال الانتظار ولم يرجع عثمان بن عفان رضي الله عنه، فوصل خبر إلى الحديبية أن عثمان قد قتلته قريش، ليس هذا فحسب بل هناك خبر آخر بأنهم قتلوا كذلك عشرة من المسلمين كان رسول الله قد أذن لهم بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة، إنها أخبار تؤثر بشكل كبير على الموقف الذي يلتزمه المسلمون حتى اللحظة، فمن المعلوم أن قريشًا في جميع الحوادث السابقة طوال تسعة عشر سنة لم تلتزم بالحقوق والقانون إذا ما كان الأمر يخصّ رسول الله والمسلمين.
إن إرسال رسولٍ آخرَ إلى مكّة للتحقق من الأمر فيه تعريضٌ لحياته للخطر أيضًا.. والواجب فعله في هذا الموقف هو إظهار ثبات إيماني لجميع من يتعقّبون هذه المرحلة عن كثب، فجمع رسول الله أصحابه الذين ينتظرون في الحديبية محرِمين منذ أيام وأعينهم على طريق العمرة باشتياق كبير، ودعاهم للبيعة تحت الشجرة.
فتسابق الصحابة الكرام لمبايعة رسول الله فردًا فردًا.. إنهم يعرضون عليه حياتهم مهما كان الثمن، فيبايعونه على ألا يفروا حتى الموت.. وبايع صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه في غيابه، فضرب بشماله على يمينه لعثمان، وقال: “إنه ذهب فِي حاجة اللَّه وحاجة رسوله”.
ولم يلبث أن فرح المؤمنون ببشرى عدم صحة خبر مقتل سيدنا عثمان والصحابة العشرة الذين استأذنوا لأداء العمرة.. من الواضح أن هناك من ينزعج من التزام رسول الله الدبلوماسية حتى في أكثر الأوقات تأزّمًا كهذا الوقت؛ فإن قريشًا التي تأجّج نيران الفتنة في كل تحركاتها تريد مواجهة المسلمين المحرمين الذين هم أقلاء في العدد والعدَّة.. ولكن الثبات الذي أظهره رسول الله والمسلمون في بيعة العقبة قد كسر شوكة الكفر، فعلى الرغم من قلة العدد والعدة لدى المسلمين إلا أن الاتحاد والتكاتف الذي أبرزوه في الحديبية قد أرغمَ قريشًا على إبرام الصلح مع المسلمين[6].
شائعة “ارتداد بني المصطلق عن الإسلام”
عين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب فتح مكَّة “الوليد بن عقبة” على صدقات بني المصطلق، ومن المعلوم أن عقبة بن أبي معيط والد الوليد بن عقبة كان من أشد الناس عداوة لرسول الله.. فكانت واضحةً رغبةُ النبي في أن يكسب الوليد ويرقق قلبه نحو الإسلام والمسلمين.
فلما خرج الوليد إلى بني المصطلق وسمعوا به قد دنا منهم، خرجوا إليه على صهوة خيولهم وإبلهم، فلما رآهم الوليد يتقدمون نحوه في هذا الوضع، ولّى راجعًا إلى المدينة ولم يقربهم، وأخبر رسول الله بما يظن، فقال: “إنهم قد اجتمعوا لقتالك!”.
هذا الخبر يدل على ارتداد بني المصطلق الذين أسلموا قبل أربع سنوات، وهذا أمر خطير يدفع الفريقين إلى القتال.. لم يقتنع الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر، لا سيما وأنهم لم يفعلوا ذلك من قبل منذ إسلامهم قبل أربع سنوات، وبناء عليه أرسل سيدنا خالد بن الوليد ليتحقق من الأمر حتى لا يدع مجالًا لأن يتقاتل المسلمون فيما بينهم، لا سيما وأن السيدة جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها هي من بني المصطلق، وكانت تخبر رسول الله بأن الوضع خلاف ذلك.. وما هي إلا بضعة أيام حتى اتضح أن الخبر الذي أتى به الوليد ليس صحيحًا، وتمَّ إخماد الفتنة قبل اشتعالها[7].
وقد نزلت في هذه الحادثة آية كريمة تبيِّن وتوضح طريقة التعامل مع الشائعات، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (سورة الْحُجُرَاتِ: 49/6).
النتيجة
من الواضح للعيان أنه قد شاعت الأخبار الكاذبة سواء بشكل مقصود أو غير مقصود في عصر السعادة -عصر النبي صلى الله عليه وسلم- وكانت لها نتائجُ مختلفة على بنيةِ خير العصور وخير القرون.. إن عجلةَ الإنسان، وخوضَه في الأخبار الكاذبة خلال الأوقات الحساسة، وعدمَ تمكُّنه زمانيًّا ولا مكانيًّا ولا إمكانيًّا من التحقق من صحتها، وكونَ الخبر يتعلق بأشد النقاط حساسية لدى الناس في ذلك الوقت، ومخاطبتَها المشاعر؛ كل هذه الأسباب على وجه العموم قد زادت من مدة ومرحلة التأثير في المخاطبين، لدرجة أن البعض رأوا أنهم محاصرون في دائرة العجز، فأظهروا ردة فعل انسحابي -حتى ولو بشكل مؤقت- بتأثير الصدمة التي أصابت آمالهم، وظلّوا هكذا إلى أن يظهر الفكر السديد، ويصفى المحيط، ويظهرَ الخبر الحقيقي للعيان..
ربما أراد المولى عز وجل أن تقع مثل هذه الحوادث في عهد النبي بين صحابته ويكون الحلُّ بِيَدِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكي يُري عباده طرقَ الحلّ السليمة.. وقد رُئي بالتجربة أن من يختلقون هذه الأخبار يصدِّرون أكثر الموضوعات حساسية على الساحة، ويستخدمون الحجج والبراهين المختلفة من أجل التأثير على الجماهيروتوجيههم.. ولأن هذا النوع من الأخبار يمس نقطة الشعور والحس لدى الإنسان فإن أحاسيسَه تنجرف وتقع تحت وطأة وتأثير هذه الأخبار بموجب طبيعته البشرية، بل إنها كذلك تبطل مفعول الإرادة والعقل والمنطق والمحاكمة التي يتوجب على المؤمن تفعيلها باستمرار.
ومن ثم تكون الوظيفة المنوطة بنا اليوم هي ألا نغفل عن حقيقة أن الخبر الكاذب هو سلاح فتَّاك يمكن التعرض له في أي وقت، وأن نكون دائمًا في غاية الانتباه والحذر، لا سيما أيام الفتن، وأن نضع في حساباتنا احتماليةَ عدم صحة الخبر، وضرورةَ التثبت والتحقق منه؛ فإنه إن لم تتوفر الإمكانية للتحقّق من الخبر فيجب الالتزام بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية دون الاستسلام للأخبار الكاذبة مهما كلّف الأمر، وعدم التسرّع في إصدار الأحكام والخوض في الأمر.
[1] لمزيد من التفصيل انظر: ابن هشام: السيرة، 2/13-17؛ ابن سعد: الطبقات، 1/149-151.
[2] تذكر المصادر أن الذي صاح: “قتل محمد” هو إبليس. انظر: ابن سعد: الطبقات، 2/31.
[3] ابن سعد: الطبقات، 2/31.
[4] لمزيد من التفاصيل انظر: ابن هشام: السيرة.
[5] لمزيد من التفاصيل انظر: ابن سعد: الطبقات، 2/45.
[6] لمزيد من التفاصيل انظر: ابن سعد: الطبقات، 2/73.
[7] لمزيد من التفاصيل انظر: ابن سعد: الطبقات، 6/27؛ ابن الأثير: أسد الغابة، 1244؛ ابن حجر: الإصابة، 1570.