بقلم: يوجَل مان
تعتبر العدالة التي هي أساس الملك من أشد الموضوعات حساسية ومن أكثر المسائل التي وقف عليها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد حقيقة التوحيد؛ لا سيَّما أن الظلم يبعث في المظلوم ألمًا ومرارة في الدنيا، ويدفع الظالم إلى عذاب أليم وظلام أبدي في الآخرة.. من أجل ذلك بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدايةً بالبيانات والنصوص النورانية ليعرِّف الناس ويرشدهم إلى الطريق الذي يجب عليهم أن يسلكوه، ووضع كذلك المبادئ التشريعية التي يلزمهم التمسك بها.. فكانت مواقفه إزاء المشكلات التي قابلها طوال حياته، والتزامُه العدل في حل جميع الأزمات، وعدم عدوله عن الحق ولو قيد أنملة ميراثًا لمن بعده ونموذجًا يُحتذى.. فعندما ننظر إلى حياته وأخلاقه الموصوفة بـ”الأسوة الحسنة” نرى المبادئ الحياتية الرئيسة الخاصة بهذا الصدد بارزة واضحة للعيان.
الوقوف بجانب الحق
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف دائما إلى جانب صاحب الحق بغض النظر عن هويته ومكانته، ويأمر مخاطبيه ويوصيهم بذلك؛ للحيلولة دون انفراج الأبواب أمام الظلم والعدوان، أو إغلاقها على الفور إذا انفرجت بالفعل؛ نظرا لأن من شأن الظلم والعدوان تقويض الأسس التي تربط ما بين العلاقات الإنسانية والبنية الاجتماعية، مما يؤدي إلى هلاك الأمم.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينًا كان عليه، ولم يحن موعد قضائه بعد، ولم يكن مع رسول الله ما يكفي، فاشتد عليه الأعرابي، فنهره الصحابة، وقالوا: “ويحك تدري من تُكلِّم؟”، قال الأعرابي بأسلوب فظٍّ: “إني أطلب حقي”، وعندما شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الموقف قال لأصحابه بأسلوب مهذب: “هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ؟” فقضى الأعرابيَّ وأطعمه، فقالَ الأعرابي: أوفيتَ أوفى اللَّهُ لَكَ، ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى من حوله قائلًا: “أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ“[2].
نجد كذلك أبا بكر رضي الله عنه الذي صدَّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر؛ في رسالته ومنهجه ودعوته قد قال في أول خطبة له لما وُلي خلافة المسلمين: “أيُّها النَّاس، قد وُلِّيت أمركم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسنَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السُّنن فعَلَّمَنا فعَلِمْنا، اعلموا أنَّ أَكْيَس الكَيْس: التَّقوى، وأنَّ أَحْمَق الحُمْق: الفجور، وأنّ أقواكم عندي الضَّعيف، حتى آخذ له بحقِّه، وأنَّ أضعفكم عندي القويُّ، حتى آخذ منه الحقَّ…”[3].
المحسوبيات والوساطات
كان نبي الحق صلى الله عليه وسلم يتحرى إقامة العدل وتأسيس دعائمه عند إصدار الأحكام أو تنفيذها على حد سواء، فلا يميل إلى طرف على حساب الآخر، ولا يأخذ في الاعتبار اختلاف الطبقة والمكانة الاجتماعية ولا الهوية الشخصية، فقد كان مرشده ودليله في كل الأمور هو القرآن الكريم الذي يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (سورة النِّسَاءِ: 4/135).
ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذُكر في قصة “فاطمة بنت الأسود” المخزومية والتي سرقت يوم فتح مكة.. وكانت من أشراف قومها، فأرسلوا حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع لها عند رسول الله، فاحمر وجه الكريم صلى الله عليه وسلم أمام هذا الطلب، فقام وخطب قائلًا: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا“[4].
المبادرة إلى ردّ الحقوق
لقد كان ردُّ الحقوق إلى أصحابها من دون تريُّث أو تلكؤ أحدَ الأمور الحساسة التي لم يتنازل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد المنهج النبوي على إعطاء الأجير والعامل حقّه قبل أن يجف عَرَقه، كما اعتبر المماطلةَ في أداء الديون والقروض ظلمًا وإجحافًا يستوجب العقوبة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما روي عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ (أي استعان عليه بأن شكاه للنبي صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ (أي اليهودي): يَا مُحَمَّدُ إِنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ: “أَعْطِهِ حَقَّهُ“، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَالَ: “أَعْطِهِ حَقَّهُ“، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إِلَى خَيْبَرَ، فَأَرْجُو أَنْ تُغْنِمَنَا شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيهِ، قَالَ: “أَعْطِهِ حَقَّهُ“، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُرَاجَعْ: فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدٍ فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ فَقَالَ (لليهودي): اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ الدَّرَاهِمِ: فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ: مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: هَا دُونَكَ هَذَا، بِبُرْدٍ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ[5]. نعم، إنه لَجَديرٌ بالإنسان أن يظلّ جائعًا أو عطشان أو عاريًا ولكنه لا يدع عليه حقًّا لأحد.
الاستبراء من الحقوق قبل الرحيل إلى الدار الآخرة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم شديد الاهتمام بحقوق الآخرين، لا سيما حقوقهم الشخصية عليه، وكان يدعو الناس أن يطالبوه بما عسى أن يكون لهم عليه من الحقوق حتى يتحلل منها قبل الرحيل إلى جوار ربه.
ففي اليوم الذي اشتد عليه المرض قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، أخذ يتحلل من أصحابه، قائلًا: “إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ (أي اقترب وقت أداء حقوق عليَّ لأفراد من بينكم يجب أن أؤديها وأنا حي)،وَإِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ فَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ عِرْضِهِ شَيْئًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَقْتَصَّ! وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ بَشَرِهِ شَيْئًا فَهَذَا بَشَرِي فَلْيَقْتَصَّ! وَأَيُّمَا رَجُلٍ كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ! وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلَاكُمْ بِي رَجُلٌ كَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَخَذَهُ أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ رَبِّي وَأَنَا مُحَلَّلٌ لِي، وَلَا يَقُولَنَّ رَجُلٌ إِنِّي أَخَافُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّحْنَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ طَبِيعَتِي وَلَا مِنْ خُلُقِي!“[6].
إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد أن يترك الدنيا -بل وما كان يريد أن يغادر من بلدٍ إلى بلدٍ في الدنيا- وعليه حق، فعند هجرته كان في بيته ودائع للمشركين.
وما كان له أن يخون الأمانة فيها، بل كان يعتبرها حقًّا ويعدّ الخيانة ظلمًا كبيرًا، ولذا استخلف عليًّا كرم الله وجهه -قبل أن يهاجر من مكة- حتى يرد تلك الأمانات إلى أهلها، على الرغم من الأخطار التي من شأنها أن تؤدي إلى مقتل علي رضي الله عنه.
صيانة الحقوق
كان رسول الله أعدلَ الناس في القضاء بين الناس، يحكم بينهم بمنتهى الأمانة ولا يحابي طرفًا على حساب طرف آخر، فمن أمثلة ذلك ما روي أن رجلين من الأنصار أتياه يختصمان في أمر الميراث، وعرضا عليه المسألة، ولم يكن لديهما حجج أو شهود؛ مما يعني أنه في موقف غاية في الحساسية لأنه سيبني حكمه على مجرد ما يسمع من حديثهما فلذلك حذرهما رسول الله من محاولة الاحتيال في الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ“[7].
السعي إلى إحقاق الحق
لم يصمت صلى الله عليه وسلم قطّ طوال حياته أمام المظالم التي شهدها أو نُقلت إليه، فلا يتراجع ولا يتخاذل عن التدخّل إحقاقًا للحق ونصرة للمظلوم مهما كانت الظروف والأحوال، ومن دون النظر إلى مدى المكانة الاجتماعية لأحد الأطراف، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ“[8].
فقد حدث قبل البعثة بعشرين سنة أن أقبل رجلٌ من بني “زبيد” بتجارة له إلى مكَّة، فباعها إلى العاص بن وائل؛ إلا أن العاص قد غدر به ولم يؤدّه حقه محتميًا بقوته ومكانته في مكَّة، فلما انقطعت به السبل صعد جبل أبا قبيس وأخذ يقرض شعرًا يستلين به قلوب أعيان مكَّة، وأخذ يذكر ما تعرض له من ظلم مستنهضًا الهمم والضمائر في إعانته على نيل حقه.
فاجتمع أشراف بني هاشم وبني المطلب وبني زهرة بن كلاب وبني تيم بن مرَّة وبني الحارث بن فهر في بيت عبد الله بن جدعان.. فنظروا في أمر التاجر ووصلوا في نهاية الأمر إلى أن تعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقُّه ما بلَّ بحرٌ صوفة، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش”[9]، وهو ما سُمّي بـ”حِلف الفضول”.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين عامًا عندما حضر هذا المجلس واشترك في عقد هذا الحلف واتخاذ هذا القرار الإنساني في بيت عبد الله بن جدعان، وقد ظل عاملًا فعالًا في هذا الشأن حتى بعثته، وقد بذل الكثير والكثير من الجهد من أجل تحقيق العدالة.. وقد امتدحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته هذا الحلف الذي انعقد في أيام الجاهلية، تلك الأيام التي كان الحق فيها دائمًا في صفِّ القوي، بينما الضعيف مهضوم الحق مكسور الجناح.. لقد مدحه صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِحِلْفٍ حَضَرْتُهُ بِدَارِ ابْنِ جُدْعَانَ حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَغْدِرُ بِهِ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ لأَجَبْتُ وَهُوَ حِلْفُ الْفُضُولِ“[10].
مراعاة الحق عند إصدار الحكم
إن الأنظمة والقوانين والتشريعات مهما كانت في غاية الكمال إلا أن الأشخاص الذين يحملونها إلى أرض الواقع إذا كانت بهم مشكلة يصبح من الطبيعي جدًّا ظهور الظلم والطغيان، وفي هذا الصدد ينبه رسول اللهصلى الله عليه وسلم القضاة الذين يتقلدون المواقع الحساسة أن يلتزموا العدل في قراراتهم التي يصدرونها، وينبههم ألا يظلموا الناس ولا يكونوا وسائل لظلمهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ جَائِرٌ“[11].
التلطّف في إصدار الأحكام
يدعو رسول الله في الكثير من المسائل إلى التقمص العاطفي مع المخاطبين[12]، فمن الأهمية بمكان أن يحاول القاضي إدراك مشاعر الناس وأحاسيسهم تجاه الأحكام، وعلى القضاة أن يضعوا أنفسهم مكان مخاطبيهم، فإن لهذا عظيم الأثر في تحقيق العدل وعدم الوقوع في الحيف والظلم.
لذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى أصحابه من حوله قائلًا: “أَتَدْرُونَ مَنِ السَّابِقُونَ إِلَى ظِلِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟” قالوا: “الله ورسوله أعلم”، فقال صلى الله عليه وسلم: “الَّذِينَ إِذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإِذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ“[13].. وهذا الأسلوب بالسؤال والجواب يعكس مدى حرصه صلى الله عليه وسلم في رسوخ هذه النقطة في أذهانهم.
عدم الانحياز إلى الحاكم الظالم
إن ظلمَ الحكّام في الغالب يكون عامًّا يطال رعيتهم أو ينتشر في نطاق أوسع في الأماكن التي يريدون السيطرة عليها، وفي الأغلب يتجرع الأبرياء ويذوقون أشد أنواع الآلام التي لا توصف، ومن هذا المنطلق يشعر رسول الله بضرورة تنبيه أمته في هذا الشأن قائلًا: “أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، وَلَا غَدْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ غَدْرَةِ إِمَامِ عَامَّةٍ يُرْكَزُ لِوَاؤُهُ عِنْدَ اسْتِهِ“[14]، وكما هو الحال في كل شر فإن الظلم عقابه العذاب الأليم والخزي الكبير في الدار الآخرة.
فمن أهم الأسباب التي تجعل الحكام يوغلون في الجور وظلم الناس وقوفُ الجماهير بجانبهم من أجل مصالحهم الشخصية، وتصفيقُهم لكل ما يفعلون.. ولذلك يحذر رسول الله أمته من هذا بقوله: “اسْمَعُوا، هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ؟ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَيَّ الحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَهُوَ وَارِدٌ عَلَيَّ الحَوْضَ“[1].
عدم التجاوز في طلب الحق
لم يغفل النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا عن جانب الموقف الذي يجب التزامه إزاء المظالم التي يتعرض لها الإنسان، فقد أضاء السبيل للأمة في هذا الصدد أيضًا، وبين أنه يجب على المؤمن بداية أن يلتزم الحذر في كلماته وتصرفاته حتى لا يضيع حقُّه عند مطالبته به، ولا يتحول من مظلوم إلى ظالم بسبب أسلوبه الخاطئ في مطالبة الحق.. فكما أن لكل شيء أسسًا وأسلوبًا خاصًّا به فإن هذه المسألة المهمة لها سبيل وطريق خاص يجب التزامه وتعقبه، ولكل مقام مقال.. ومن أمثلة ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: “إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا”، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ“[15].
وكان هذا استشرافًا منه للمستقبل، وإعدادًا لأذهان وعقول أصحابه لما سيلاقونه، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، على عادته في تنشئة جيل المستقبل، وقد تحقّق ذلك كما قال.
ليس لمؤمن أن ينزوي إلى ركن ويتغافل ويتجاهل ويتعامى عن المظالم التي تعرض لها أو رآها، بل عليه أن يبتغي جميع السبل المشروعة والقانونية ويفعل ما يتوجب عليه من أجل الدفاع عن حقّه دون أي تقصير، ثم ينتظر النتيجة من الله وهو يستشعر راحةَ الأخذ بالأسباب، ولا يلجأ إلى التجاوز والعدوان ألبتة، وأن يتحلى بالصبر والتأني مهما كانت الظروف، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا“[16].
الاستعانة بالدعاء في إقامة العدل
لقد كان رسول الله يحرص على تمثل الحق وتبليغه للآخرين وترسيخ دعائم العدل، وكان بالإضافة إلى ذلك يتضرع إلى الله ويتوجه إليه بالدعاء ألا يكون هو وسيلة للظلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “اللهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ“[17].
كذلك عندما يخطو صلى الله عليه وسلم أولى خطواته خارج المنزل يتضرع إلى الله بالدعاء ألا يقع في الظلم والعدوان، قائلًا: “بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ، أَوْ نَضِلَّ، أَوْ نَظْلِمَ، أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا“[18].
النتيجة
لقد تبوأت إقامة الحق والعدلِ مكانةً عالية ومنزلة غاية في الحساسية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك العصر الذي نسميه: “عصر السعادة”، فكانت تصرفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن نموذجًا يُحتذَى به، وسبيلًا يُقتفى.. كما أنه صلى الله عليه وسلم أنشأ جيلًا ذهبيًّا وقافًا عند الحق، كارهًا للظلم، ومراعيًا للحدود.. جيلًا يتواصى بالحق والصبر والصمود تجاح الظلم.. وها هو سيدنا عمير بن سعد رضي الله عنه والي حمص الذي قال في خطبته فأوجز: “ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق.. فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام، فلا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلًا بالسيف ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاءً بالحق وأخذًا بالعدل”[19].
الهوامش
[1] انظر: سورة القَصَصِ: 28/59.
[2] سنن ابن ماجه، الصدقات، 17/2426.
[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/136.
[4] صحيح البخاري، الحدود، 11، 12، 14؛ الشهادات، 8؛ الأنبياء، 50؛ فضائل الصحابة، 18؛ المغازي، 52؛ صحيح مسلم، الحدود، 8/1688؛ سنن الترمذي، الحدود، 9/1430؛ سنن أبي داود، الحدود، 4/4373، 4374؛ سنن النسائي، السارق، 5/8، 74، 75.
[5] مسند الإمام أحمد، 24/241.
[6] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 2/201-202.
[7] صحيح البخاري، الشهادات، 27؛ سنن أبي داود، الأقضية، 7.
[8] سنن أبي داود، الملاحم، 18؛ سنن ابن ماجه، الفتن، 20؛ مسند الإمام أحمد، 36/541.
[9] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/91.
[10] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 1/91.
[11] سنن الترمذي، الأحكام، 4.
[12] مسند الإمام أحمد، 25/217 (15883).
[13] مسند الإمام أحمد، 4/440 (24379).
[14] سنن الترمذي، الفتن، 26. أي خلف ظهره والإستُ: الدبرُ ( يوم القيامة ) وإنما ينصب للغادر تشهيرا له بالغدر وفضحًا له على رؤوس الأشهاد، وإنما قال: عند إسته استخفافًا بذكره واستهانة بأمره، أو لأن عَلم العزة ينتصب تلقاء الوجه، فناسب أن يكون علم المذلة فيما هو كالمقابل له.. (مرقاة المفاتيح ٦/٢٤٢٥)
[15] صحيح البخاري، الفتن، 2.
[16] سنن الترمذي، الزهد، 17؛ مسند الإمام أحمد، 29/561 (18031).
[17] صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 26؛ سنن النسائي، قيام الليل، 12.
[18] سنن أبي داود، الأدب، 102-103؛ سنن الترمذي، الدعوات، 35.
[19] ابن سعد: الطبقات الكبرى، 5/208.