كان أبو طالب قد أخد معه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الشام ولكنه في طريقه إليها لاحط أمور جعله يتخوف على ابن أخيه، ويَحذر من تطاله الأيدي لتلحق به أذى ربما يؤدي إلى فقدانه. فعاد من هذه الرحلة وهو أشد حذرا عليه مما سبق.
فقد زاده ما عاشه وسمعه في هذه الرحلة إلى جانب ما كان يعرفه سابقا انكبابا وحنوا على ابن أخيه. بالإضافة إلى ما كان يراه منه من الابتعاد عن معتقدات المجتمع وعاداته التي تجري عليها من عبادة الأصنام وسائر العادات السيئة، وكان يلاحِظ منه أنه يحمل فلسفة حياة مختلفة تماما عن التي يمليها المجتمع.. ولا بدع في ذلك وهو الذي اصطفاه ربه ليتقلب من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام النظيفة حتى ينقذ الإنسانية مما وقعت فيه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما ذكر لي – يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: “لَقَدْ رأيتُني فِي غلمانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لبعضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ، كُلُّنَا قَدْ تعرَّى وَأَخَذَ إزارَه فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، يَحْمِلُ عَلَيْهِ الحجارةَ، فَإِنِّي لأقْبل مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ، إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ -مَا أَرَاهُ- لَكْمَةً وَجِيعَةً ثُمَّ قَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إزارَك. قَالَ: “فَأَخَذْتُهُ وَشَدَدْتُهُ عليَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أحملُ الحجارةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عليَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي”.
ومن أمثلة ذلك ما روته أم أيمن رضي الله عنها قالت: كان ببُوَانةَ صنم تحضره قريش وتعظمه وتنسك-أي تذبح- له، وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى قالت: رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ويقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم: أي لمة وهي المس من الشيطان، فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها: أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تَمثَّل لي رجل أبيض طويل، أي وذلك من الملائكة، يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسَّه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ صلى الله عليه وسلم.
وقد توفى الله والده صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في بطن أمه، وماتت أمه وهو في السادسة من عمره، ومات جده وهو في الثامنة، وكأن ربه سبحانه وتعالى أراد أن يتولى بتربية أمين الإنسانية مباشرة، وذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيما بعد: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”.[1]
فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته حتى بلغ أنْ كان رجلا أفضل قومه مروءةً، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تُدَنِّسُ الرجال، تنزُّهًا وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لمِاَ جمع الله فيه من الأمور الصالحة.[2]
فعن علي بن أبي طالب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما هممتُ بشيءٍ مما كان أهلُ الجاهليةِ يهمُّون به من النساءِ إلا ليلتَينِ كلتاهما عصَمني اللهُ عزَّ وجلَّ فيهما؛ قلتُ ليلةً لبعضِ فتيانِ مكةَ -ونحنُ في رعاءِ غنمِ أهلِها- فقلتُ لصاحبي: أَبصِرْ لي غنمي حتى أدخلَ مكة َأسمُرُ فيها كما يسمرُ الفِتيانُ، فقال: بلى، قال: فدخلتُ حتى جئتُ أولَ دارٍ من دورِ مكةَ سمعتُ عزفًا بالغرابيلِ والمزاميرِ، فقلتُ: ما هذا؟ قالوا: تزوَّجَ فلانٌ فلانةً، فجلستُ أنظرُ وضرب اللهُ على أُذُني، فواللهِ ما أيقظَني إلا مسُّ الشمسِ! فرجعتُ إلى صاحبي، فقال: ما فعلتَ؟ فقلتُ: ما فعلتُ شيئًا، ثم أخبرتُه بالذي رأيتُ، ثم قلتُ له ليلةً أخرى: أَبصِرْ لي غنَمي حتى أسمرَ، ففعل، فدخلتُ، فلما جئتُ مكةَ سمعتُ مثلَ الذي سمعتُ تلك الليلة، فسألتُ، فقيل، نكح فلانٌ فلانةً، فجلستُ أنظر وضرب اللهُ أُذُني، فواللهِ ما أيقظَني إلا مسُّ الشمسِ، فرجعتُ إلى صاحبي، فقال: ما فعلتَ؟ فقلتُ: لا شيءَ: ثم أخبرتُه الخبرَ فواللهِ ما هممتُ ولا عدتُ بعدَهما لشيءٍ من ذلك حتى أكرمَني اللهُ عزَّ وجلَّ بنبوَّتِه”.[3]
وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان ينقل الحجارة معهم للكعبة، وعليه إزار، فقال له العباس عمه: يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة؟ قال: فحَلَّه فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانا.[4]
كيف لا وهو أخر حلقة مباركة من سلسلة الأنبياء الذين خصهم الله بعصمته وكلاءته، وقد بشر به كل نبي وحاول أن يُعد أمته لقدومه، وقد استهل الكون حركتَه الأولى به، وهو ثمرة الوجود الطيبةُ، ولم تكن دعوته منحصرة بقطر أو بقعة من الأرض، أو بمجموعة محصورة من بني البشر، بل هو المرشد الأكمل لجميع الثقلين، فما أحرى به أن يصونه ربه ليس بعد بعثته بل منذ صباه إلى أن يصطفيه لرسالته، وما أجدرَ به أن يتنزه عن كل أنواع الرزائل! وهذا ما حصل في واقع الأمر.
يُستسقى الغمام بوجهه
كانت مكة تعيش أياما سيطرت فيها حرارة الجو، وقحط الناس طويلا، وكأن السماء أَغلقت على سكانها أبواب الرحمة، وقحلت الأرض وانشقت من الجفاف، فلا ترى في البئية نبتة خضراء، ولا تكاد تجد موردا للماء، فقامت قريش تبحث عن الحلول، فقائل منهم يقول: اعتمِدوا اللات والعزى، وقائل منهم يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، قال الراوي -وهو جلهمة بن عرفطة-:
فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون: -أي كيف تُصرَفون عن الحق- وفيكم باقية إبراهيم وسلالةُ إسمعيل عليهما السلام؟ أي فكيف تعدلون عنه إلى ما لا يجدي. قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إيها، فقاموا بأجمعهم: فقالوا، يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق لنا، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دُجُنة تجلت عنه سحابة قتماء،[5] حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:
وأبيض يستسقي
الغمام بوجهه … ثمال اليتامى عصمة للأرامل.[6]
[1] أنظر: المناوي، فيض القدير ١/٩١.
[2] السهيلي، الروض الأنف ١٤٤.
[3] البداية والنهاية ٣/٣٥١.
[4] البيهقي، دلائل النبوة ٣/٣١، وانظر: ابن هشام، السيرة ١/١٦٨.
[5] دُجُنة: أي ظلمة، قتماء: من القتام بالفتح وهو الغبار، وحوله أغيلمة: جمع غلام، ولاذ: أي طاف بأصبعه الغلام، وما في السماء قزعة: أي قطعة من سحاب، واغدودق: أي كثر مطره.
[6] من قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا.. ثمال اليتامى عصمة للأرامل: أي ملجأ وغياث لليتامى، ومانع الأرامل من الضياع. والأرامل: المساكين من النساء والرجال، وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا. انظر: الروض الأنف ٤/٣٤-٣٨؛ الحلبي، السيرة الحلبية ٢/١٧٠.