أصبح جبل النور ملتقى لنورين، سيتكرر بينهما اللقاء مرات عديدة.
فتوجه إلى مكة وقد ألقى الله على كاهله قولا ثقيلا، وحمّله عبءا كبيرا، وكاد قلبه ينوء بثقل هذه المهمة الكبرى. وأصبح جميع أعضائه ترتجف بتأثير الوحي الذي نزل على قلبه، وإذا به بصوت يدوي في محيطه وهو في وسط الجبل:
“يا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ”.
يقول صلى الله عليه وسلم: “فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ”.
فأصبح صلى الله عليه وسلم وكأنه تَسَمَّر في مكانه، لا يقدِّم خطوة ولا يتأخر، وبعد مدة بدأ يحرك رسه يمينا وشمالا فإذا به يرى المناظر نفسها، وكأن جبريل الأمين طبق الأفق بكامله..
ومن جانب آخر، كانت أمنا خديجة قد استبطأت مجيئَه، فبَعثت رسلها في طلبه فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، ولا يزال رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا مكانه.. ولما هدأت به الحالة توجه إلى مكة، فكان لا يمر بمكان إلا ويسمع مِن حواليه أصواتا تُسَلِّم عليه صلى الله عليه وسلم، فكان يلتفت يمينا وشمالا ولكنه لا يرى شيئا. [1]
فرجع إلى بيته ودخل على خديجة فَقَالَ: “زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي”، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: “لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي” فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ”[2]
أجل، إن خديجة بكلامها هذا كانت تريد أن تقول: إنك تسد في مجتمعك فراغا في هذه الخصال الحميدة، فهل من المتوقع أن يخريك رب هذا المجتمع.
والواقع أن خديجة كانت تقدِّم بموقفها هذا أنموذجا ينبغي لكل امرأة مسلمة أن تحتذي بها في الوقوف بجانب زوجها والعمل على تهدئته وتسليته وهو يواجه المصاعب في سبيل أداء مهمته الدعوة إلى الحق.
فشرح صلى الله عليه وسلم لها كل ما عاشه في الغار، فقدَّمت خديجة مثالا رائعا للصبر والخبرة والتوكل ورباطة الجأش، فكانت تسند زوجها وتقف بجانبه، لأنها كانت واثقة بأن زوجها “الأمين” سيكون آمنا ولن يتخلى عنه ربه. يقول صلى الله عليه وسلم:
وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْتُ إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا: فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْنَ كُنْتَ؟ فَوَاَللَّهِ لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا لِي، ثُمَّ حَدَّثْتهَا بِاَلَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَت: أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ وَاثْبُتْ، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ!”. [3]
إلى ورقة ابن نوفل
وكان في مكة شخص آخر، كان من المتوقع أن يهش لهذا الخبر، وهو ابن عم خديجة: ورقة بن نوفل، وكان ورقة قد تنصر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فهبتْ إليه مسرعةَ وأخبرتْه بما سمعتْ من زوجها، فكان كل كلمة يسمعه منها تجيش مشاعره، فلما وصلت إلى نقطة من كلامها إذا به يهتف قائلا: ” قدُّوس قُدُّوسٌ!”، ثم أتبع كلامه: وَاَلَّذِي نَفْسُ ورقةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كنتِ صَدَّقْتِينِي يَا خديجةُ لَقَدْ جَاءَهُ الناموسُ[4] الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لنبيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ. [5]
وكان يعنى أن البذرة قد انفلقت من تحت التراب وهي في طريقها إلى أن تصبح برعما. وأن الوقت قد حان لقدوم من سيسعد الله البشرية على يديه.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتْه بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فقال:
يابن أخي أخبرني بما رأيتَ وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذَّبَـنَّهْ![6] ولتؤذَينَّهْ! ولتخرَجَنَّهْ! ولتقاتَلنَّهْ! ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبَّل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله. [7]
وفي
رواية لمسلم: فقال له ورقة: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى
مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ
قَوْمُكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ”،
قال: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ،
وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثم لم ينشَب ورقة أن
توفي، وفَتَر الوحيُ. [8]
[1] ابن حجر، الإصابة 7/601؛ المناوي، فيض القدير 3/19
[2] البخاري، الصحيح، 4/1874 (4638)
[3] السيرة، ابن هشام ١/٢٢١.
[4] ا(الناموس) هو صاحب السر والمراد جبريل عليه السلام سمي بذلك لاختصاصه بالوحي.
[5] السيرة، ابن هشام ١/٢٢٢.
[6] الهاءات الأربعة لا ينطق بها إلا ساكنة فإنها هاءات سكت وليست بضمائر.
[7] السيرة، ابن هشام ١/٢٢٢.
[8]رواه مسلم. (فيها) في حين ظهور نبوتك. (جَذَعأ) أي شابا، والجذع في الأصل الصغير من البهائم ثم استعير للشاب من الإنسان. (يومُك) يوم إخراجك أو يوم ظهور نبوتك وانتشار دينك. (مؤزرا) قويا، من الأزر وهو القوة. (ينشَب) يلبث. (فتر الوحي) تأخر عن النزول مدة من الزمن.