بقلم: يوجَل مان
كانت المرأة في الجاهلية يُنظر إليها على أنها مخلوق ذليل، حقير، جالب للتعاسة وسوء الحظ، لا حقوق لها ولا احترام. حتى إن مجرد وجودها في الحياة مشكلة، وكانت بعض القبائل تئد البنات في سن صغيرة، ويدفنونهن وهن على قيد الحياة. فكان نزول الوحي الأول، وتكليف محمد الأمين صلى الله عليه وسلم بمهمة النبوة، بمثابة البشرى التي تعلن عن بزوغ الشفق الذي ينتظرْنه. فوقف الإسلام في وجه هذه الأفعال والممارسات المستمرة منذ عصور، وقام بالسيطرة على هذه الفوضى التي ليس لها ضابط ولا رابط بشكل تدريجي، عن طريق إصلاحها بالأخلاق السامية وإرساء دعائم الحق والعدالة. فبدّد الضباب الأسود الذي يحوم حول رؤوس النساء؛ وأعاد للمرأة حقها واعتبارها ومكانتها السامية.
وقد كان للمرأة دور فعّال في عصر السعادة؛ فقد لعبت دورًا مهمًّا في إصلاح وإنشاء الفرد والمجتمع والحضارة، وضربت أمثلة عظيمة على الشجاعة والإقدام، وساهمت في حل المشكلات:
أول ممولٍ وراعٍ للدعوة الإسلامية
كان النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة ماسة إلى الإمكانات المادية من أجل تشكيل مراكز دعوية تعنى بشؤون الناس، ومساعدة المقهورين والمظلومين، وتلبية احتياجات الفقراء والمحتاجين من المسلمين، فكان الداعم الأكبر له في هذا الشأن هي السيدة خديجة رضي الله عنها رغم معارضة أقربائها وتوبيخهم. ومن هذا المنطلق قد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها أول ممول وراع للدعوة الإسلامية. فقد كانت من أثرياء مكَّة. فوضعت كل أموالها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستخدمها في سبيل الله. حتى في سنوات المقاطعة الظالمة الثلاث استعانت بمن تعرف للتدخل في الأمر، فكانت صاحبة الدعم الأكبر في اجتياز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقربائه هذه المحنة الشديدة 1.
إخبار حمزةَ بإهانة أبي جهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقدم أبو جهل في نفر من قريش، وتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والإهانة؛ يقصد بذلك إثارة المشكلات وزيادة حدَّة التوتر في مكة؛ فلم يكن يحمل فكرة أو فلسفة أو مشروعًا يقدمه للمجتمع. فكان يصيح بأعلى صوته ليبث الخوف فيمن حوله، ويثير جوًّا من الشدة والعنف، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرف مخاطبه جيدًا يحافظ على سكوته وهدوئه ومكانته السامية، مترفعًا عن مقابلة فعل أبي جهل بمثله. فلما علم أبو جهل بأن استفزازاته لا طائل منها سكت عما يقول؛ فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه إلى بيته.
لكن مولاة عبد الله بن جدعان التيمي وعتيقته كانت في مسكن لها فوق الصفا، وسمعت بفظاظة وقبح قول أبي جهل، فجزعت لفعله هذا واعتدائه بالقول على إنسان بريء معصوم. فذهبت إلى حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصَّت عليه الأمر بكل تفاصيله. تريد بذلك إيقاف هذا الظلم البيِّن. ولا سيما أن تاريخ أبي جهل مع النساء أسود. فقد قتل السيدة سميَّة، وأذهب بصر السيدة زنِّيرة من شدة التعذيب. ولقد كانت هذه البسالة والإقدام من جارية صاحبة ضمير حيّ سببًا في إسلام حمزة، وتغير مجرى الأحداث في مكَّة2.
النجاة من محاولة التواطؤ على قتله
ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس حلولًا بديلة لمواجهة الظلم والاعتداء في مكة. فبدأ بأشرافها يدعوهم إلى الإسلام، وإلى نصرة دعوته؛ إلا أن ثقيفًا قد اتخذت موقفًا أسوأ مما يفعله أهل مكَّة بالمسلمين، فقد أغروا به سفهاءهم، فأمطروه بوابل من الحجارة ليخرجوه من بلدهم. وحينما همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج فتحت امرأة تُدعى رُقَيْقَة دارها له صلى الله عليه وسلم ولغلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه.
لقد كان صنيع هذه المرأة عظيمًا جدًّا رغم أنها من أهل الطائف الذين اختلت عقولهم لدرجة رشق ضيفهم بالحجارة، وقد أتى إلى بلدهم ليشاركهم أفكاره بأكثر الطرق براءة وسلمًا. فلقد قامت هذه المرأة بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى ثقيف معرِّضة نفسها وعائلتها لخطر قومها، حتى إنها قد أكرمت نزلهما. فلما استراح رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها حتى لا يعرضها هي وأهلها للخطر أكثر من ذلك، ثم سلك طريقه إلى مكَّة3.
إبطال خطط الاغتيال
أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فخرج الصحابة في مجموعات على التوالي. فاجتمعت رؤوس الشرك والظلم في دار الندوة للحيلولة دون خروجه صلى الله عليه وسلم من مكّة بعد أن عجزوا عن منعه من دخول قلوب الأنصار. وهمّوا باتخاذ قرار نهائي بشأنه صلى الله عليه وسلم يشتركون جميعًا في تنفيذه. فاقترح بعضهم تكبيله بالسلاسل وحبسه في حجرة حتى الموت، واقترح آخرون نفيه وإقصاءه عن بلادهم. ولكن هذه الآراء لم تلق رضا الجميع، فعرض عليهم أبو جهل أن يأخذوا من كل قبيلة شابًّا فتيًّا، ثم ينقضوا عليه فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل.
لقي هذا الرأي رضَا واستحسانَ رؤوس الشرك، وبدؤوا على الفور في الاستعداد لذلك. علمت رُقَيْقَة بِنْت أَبِي صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ (ابنة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكانت زوجة لرجل من بني زهرة، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهيرة، وقالت له: “إِنَّ قُرَيْشًا قَدِ اجْتَمَعَتْ تُرِيدُ بَيَاتَكَ اللَّيْلَةَ”4. وسرعان ما نزل جبريل عليه السلام، ليؤكد له صحة الخبر، ويطلب منه الهجرة إلى المدينة. فكانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي نهاية مرحلة بالنسبة للمشركين، وبداية مرحلة جديدة بالنسبة للمسلمين. لقد كان لرقيقة بنت أبي صيفي فضل كبير في اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر. كذلك اضطلعت السيدة أسماء بنت أبي بكر بعمل عظيم في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غار ثور.
امرأتان غيرتا مجرى التاريخ
وصل الوعي والحماس الإسلامي إلى أوج ذروته في زمن قصير بالمدينة المنورة بفضل مجهودات ومساعي سيدنا مصعب رضي الله عنه قبل الهجرة. فكان الأنصار يتألمون لتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانهم من المسلمين في مكة إلى الظلم والقهر بينما هم يعيشون في رغد واطمئنان في المدينة. فاجتمعوا فيما بينهم وتعاهدوا على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة إلى المدينة، والزود عنه وحمايته من كل ما يعترضه من خطر أثناء قيامه بوظيفته. لكن كان يجب عليهم فعل هذا دون إشعار أهل مكة؛ لذا خرجوا مع قافلة الحج إلى مكة، ثم خرجوا خفية ليلًا لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة.
كانت الغالبية العظمى من هذه المجموعة المكونة من خمسة وسبعين نفرًا بمن فيهم السيدتان نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو؛ من الشباب5. ولقد كانت السيدة أسماء حاملًا في الشهر الثامن، لكنها أقنعت زوجها لتكون من بين من يوقعون على هذا القرار التاريخي؛ فتحملت سفرَ ثمانية أيام على ظهر البعير، ووضعت وليدها بعد بضع ساعات من البيعة. ولقد كان لهاتين المرأتين أثر كبير في نشر الإسلام وفي تشكيل مصير الإنسانية بالقرار الذي اتخذتاه من بين خمسة وسبعين نفرًا بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يمر الكثير حتى بدأت الهجرة، ووصل الإسلام الذي نجا من الضغط والاستبداد في مكة إلى مرحلةٍ تمكنه من تشكيل حضارته وإبراز عالميته.
النصيحة والرأي السديد
قطع مشركو قريش الطريق أمام المسلمين الذين خرجوا إلى مكة بنيَّة العمرة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد وصلوا إلى مشارف مكَّة، فلم يرغبوا في العودة وهم خالُو الوفاض. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، وأقام فيها هو وأصحابه عشرين يومًا كانت كلها مليئة بتبادل الرسل والسفراء، إلى أن رضيت قريش في النهاية بالصلح، إلا أن بنود الصلح المجحفة حطمت معنويات المسلمين؛ فبعد أن كان لديهم أمل كبير لأداء العمرة هذا العام، إذا بهذا الصلح يلزمهم بالعودة إلى المدينة والانتظار للعام المقبل فضلًا عن أن من هاجر من مكة إلى المدينة بعد عقد هذا الصلح يتم إعادته ورده إلى مكة ثانية. ولقد تم كتابة هذا الصلح والتوقيع عليه من الطرفين.
أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عناية خاصة بمادة وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، فقد كان يفكر في المكاسب التي ستعود على المسلمين من وراء هذا المناخ المفعم بالأمن والأمان. فأمر أصحابه بالتحلل من إحرامهم وذبح الهدي، فاعتراهم الوجوم والذهول لما يشعرون به من ظلم واقع على المسلمين بهذا الصلح، ولم يبادروا إلى تنفيذ ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على غير عادتهم طوال تسع عشرة سنة، فقد كانوا يأملون أن يرجع الطرفان عن الصلح فيتغير الوضع ولقد كان هذا الموقف على قدر كبير من الحساسية. فاستشار صلى الله عليه وسلم زوجته أمَّ سلمة أمَّ المؤمنين رضي الله عنها في الأمر، فأشارت عليه: “يا رسول الله، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك”، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحر بدنة، ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا. كانت هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها تعطيل مؤقت للأمر النبوي، وقد تم الوصول إلى الحل بنصيحة سيدة قد ساعدت في حل المسألة بسهولة ودون أي آثار جانبية.
إنشاء المنبر
لم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة ولو لمرة واحدة أن يجتمع بجميع أصحابه تحت سقف واحد طوال ثلاث عشرة سنة بسبب الظلم والضغط الدائم في مكَّة، فما إن وصل المدينة المنورة حتى قام ببناء المسجد النبوي. وأصبح يجالسهم كثيرًا، ويخطب فيهم باستمرار، ويحدثهم متكأ على جذع نخلة من سواري المسجد. وفي أواسط العام السابع من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى الستين من عمره، وانتهت غزوة خيبر التي استمرت ثلاثة أشهر، وعادوا إلى المدينة؛ بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بالتعب ويشق عليه الوقوف طويلًا في خطبه، فاقترح عليه بعض الصحابة أن يُصنع له شيء يخطب عليه، فإن الناس قد كثروا، ويا حبذا لو تم ذلك حتى يتمكن الجميع من رؤيته أثناء الخطبة. فجاء صوت من الخلف يقول: “يا رَسولَ اللَّهِ ألَا أجْعَلُ لكَ شيئًا تَقْعُدُ عليه، فإنَّ لي غُلَامًا نَجَّارًا”.
كان هذا صوت امرأة من الصحابيات: إنها السيدة فُكَيْهَة زوجة سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنهما، فاكتفى حينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنْ شِئْتِ“، وبعد مدة أبلغها بصنع المنبر. فأمرت على الفور غلامها ويدعى “نسطاس” بصنع المنبر من شجر الأثل، ونقله إلى المسجد. استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر بنفسه، ووضعه في موضعه المعلوم إلى اليوم. وبذلك حُلت مشكلة معاناة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء قيامه للخطبة وكذلك مشكلة من يجدون صعوبة في رؤيته وهو يخطب على الأرض بشكل دائم. وهكذا جاءت فكرة المنبر الذي أصبح أهم أركان المسجد على مر التاريخ الإسلامي من امرأة 6.
الصيام أم إزالة الخلاف
لما أحس رسول الله صلى الله عليه وسلم باقتراب أجله، خرج إلى مكَّة لأداء مناسك الحج، ليبيِّن للمسلمين جميعًا أركان الحج بشكل فعلي وعملي، ويودِعَ مهمة نشر الدين الإسلامي الذي يحمله على كاهليه حتى هذا اليوم إلى الإنسانية جمعاء، وفي الوقت ذاته يودِّعهم أيضًا. وفي أثناء وقوفه صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفات وقع هذا الأمر الذي ترويه لنا السيدة أم الفضل رضي الله عنها: “أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِصَائِمٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ، فَشَرِبَهُ”7.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفات واقفًا على بعيره، في موضع يستطيع الجميع منه رؤيته. فأخذ اللبن الذي أُهدى إليه، وشربه أمام الجميع، ونهى الحجاج عن صوم يوم عرفة. وبذلك استطاعت أم الفضل رضي الله عنها حل المشكلة التي نشبت بين الحجيج بطريقة بسيطة جدًّا ولكنها أكثر وقعًا وتأثيرًا؛ وكانت وسيلة وسببًا في تركيز الحجيج في وقفتهم على عرفات، وإماطة اللثام بشكل دائم عن مسألة قد تتسبب في مشكلات مستقبلًا8.
سقيا الماء وتمريض الجرحى والمصابين
يَعِد الإسلام الإنسانية بالمحبة والمرحمة والعدالة والأمان والسلام. وقد أُرسِل رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين؛ إلا أن أعداء الإسلام والحاقدين عليه والحاسدين قد اختاروا الظلم والعنف والشدة منذ اللحظة الأولى، وأجبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الخروج من مكَّة، حتى إنهم لم يكتفوا بذلك؛ فقد بدؤوا يطلقون الجيوش للقضاء على المسلمين المقيمين في المدينة المنورة. فكانت الحروب التي خرج فيها المسلمون مدافعين عن حقوقهم الأساسية وحرياتهم يستعينون ببعض السيدات اللائي يمتلكن التجربة والمهارة والمعرفة؛ من أجل مداواة الجرحى، وسقي الجنود، ومناولة الطعام لهم، مضطلعين بذلك بدور عظيم في مساندة المسلمين في المصائب والأزمات التي تحل بهم.
على سبيل المثال شاركت في غزوة أحُد أربع عشرة امرأة منهن: السيدة فاطمة، وأم أيمن، وحمنة بنت جحش، وأم عمارة. وقد كانت أم عمارة تحمل الأربطة على وسطها. كذلك كانت الرُّبيِّع بنت معوِّذ وليلى الغفارية وأم سنان ممن شاركن في تمريض جرحى المسلمين. وكانت أم سنان تحمل معها الأدوية إلى الجبهة في غزوة خيبر، وقامت بمداواة الجرحى من الجنود. وكانت ممن يخرجن كثيرًا إلى الجبهة السيدة عائشة وأم سُليم وأم عمارة يحملن على ظهورهن القرب بها الماء يسقين بها المجاهدين.
مساعدة الفقراء وقضاء حوائجهم
إن الفقر منذ القدم من أهم المشكلات الاجتماعية، وكثيرًا ما أمر الإسلام أتباعه بالسعي والعمل للتغلب على الفقر، وفي الوقت نفسه حرّم عليهم الإسراف والربا. وأجاز الاقتراض من أجل سد حاجات الفقراء؛ وأمر بأداء الزكاة والتصدق والإنفاق في سبيل الله. وقد أعلنت النساء في عصر السعادة النبوي النفير من أجل حل مشكلات الفقراء.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو النساء في الأعياد وعند الخروج إلى المعارك في الأوقات العصيبة للتصدق مما يمتلكن؛ فكُنَّ يتصدقن بما في أيديهن من حليّ. حتى إن بعض النساء استغللن المهارات والمهن التي يمتلكنها في مساعدة الفقراء والمساكين وتلبية احتياجاتهم. وخير مثال على ذلك من الأزواج الطاهرات السيدة زينب بنت جحش، فقد خصص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا في مؤخرة المسجد النبوي تدبغ فيه الجلود، وتتصدق بما تكسبه للفقراء9.
استضافة الوفود
بفتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة أُزيلت أعظم العقبات من أمام الإسلام، ومن ثَمّ فقامت القبائل التي نجت من ضغط مكة وتخويفها بالوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، ودخلت في دين الله أفواجًا. وكان عدد الوفود يتفاوت من حين إلى آخر، وكذلك كانت الأيام التي تقضيها في المدينة المنورة تختلف من وقت إلى آخر. فأحيانًا كان بعضها يقتصر على ثلاثة أفراد، وبعضها كان يصل إلى مائتي فرد. كما كان البعض يمكث أحيانًا في المدينة ثلاثة أيام ويمكث البعض الآخر خمسة عشر يومًا أحيانًا أخرى. وقد كان حسن استقبال هذه الوفود والحرص على راحتهم له أهمية بالغة من حيث هداية القبائل الذين تركوهم من خلفهم، فكان يجب استضافتهم على أكمل وجه، من حيث توفير المأوى والمأكل والمشرب الذي يناسبهم. ولذلك كان أصحاب البيوت الواسعة يهرولون إلى مساعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حل هذه المسألة؛ فيتحملون على عواتقهم مهمة استضافة الوفود القادمة إلى المدينة طوال مدة إقامتهم.
وقد كان من بين المساهمين في هذا العمل العظيم السيدة رملة بنت الحارث، وكانت تمتلك أكبر البيوت بجانب المسجد النبوي. ففتحت بيتها تطوعًا للوفود؛ فاستضافت فيه 3 أفراد من قبيلة غسان، وأكثر من 10 من حنيفة، و12 من عذرة، و20 من عبد قيس، و4 من ثعلبة، و10 من خولان، و15 من الرهاويين، وأكثر من 10 من فزارة، و7 من سلامان، و13 من كلاب، و10 من محارب، و200 من النخع10.
دورهن في استعادة الجنود مواقعهم على الجبهة
في غزوة أحُد تسرع بعض الرماة الذين يتمركزون في أخطر المواقع ويضطلعون بأهم عمل على الجبهة، فتركوا مواقعهم دون إذن ظنًّا منهم أن الحرب قد انتهت، فوضعوا المسلمين الذين يتحركون على الجبهة بأريحية لثقتهم فيهم بين نارين. ولا سيما عندما انتشر الخبر الكاذب الذي أشاعه ابن قميئة على الجبهة بأن “محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قُتل”، مما أثر بشكل بالغ في الجنود وسير المعركة. حيث انطلق بعضهم إلى المدينة خوفًا على أهله وصعد بعضهم إلى الجبل لينجو بنفسه من الهلاك، وجثم بعضهم في مكانه وقد سقط السيف من يده، وقال بعضهم: “قوموا فموتوا على ما مات عليه”. أثر بشكل بش
وفي وسط هذا الاضطراب والخلل الكبير على الجبهة تدخلت النساء اللائي شاركن على الجبهة، ينادين في الجنود الفارين إلى المدينة: “ويحكم أتفرون عن رسول الله”11. وقطعت أم أيمن طريق الفارين وجعلت تحثو التراب في وجوههم، وتقول: “هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك!”12. أما نسيبة بنت كعب فقد نزلت ساحة القتال وفي يدها سيفها تذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدافع عنه تارة، وتحث الجنود وتحمسهم إلى القتال تارة أخرى. ولقد كان هذا الموقف من النساء له وقع كبير وتأثير عظيم في استعادة الجنود أماكنهم واستجماعهم قواهم من جديد.
ولقد تكرر نفس الموقف في غزوة حنين. فإن الجنود الذين انضموا إلى صفوف الجيش بعد فتح مكة وكانوا يتقدمون الصفوف لما رأوا المشركين ينهالون عليهم بوابل من السهام والرماح في مقدمة الوادي لاذوا بالفرار، فأفسد هذا الأمر نظامَ الجيش وتسبب في تشتيت الجنود الذين في الخلف. ولم يثبت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى مجموعة صغيرة، فنكز صلى الله عليه وسلم فرسه وتقدم الجميع ليعيد تنظيم صفوفهم واستجماع قواهم من جديد13. وكان من بين من يحاولون حشد الجنود مجددًا معه أربع سيدات: أم عمارة وأم سُليم وأم سليط وأم الحارث. فكانت أم سليط وأم الحارث تناديان في الأنصار: “ما لكم وللفرار؟!” وأخرجت أم عمارة سيفها، وأم سليم خنجرها يقاتلن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يلبث أن احتشد الجند مجددًا، وتم التغلب على هوازن في مدة قصيرة. وهكذا لعبت المرأة دورًا مهمًّا في إعادة حشد الجنود مجددًا في حنين كما فعلن في أحُد أيضًا.
خلاصة القول
لا شك أن شجاعة النساء في عصر السعادة ودورهن في حل المشكلات لم يقتصر على النماذج التي عرضناها فحسب. فقد اكتفينا بعرض بعض الأمثلة منعًا للإطالة. ويُستفاد من هذه النماذج أن المرأة قد استعادت مكانتها وحقوقها وحريتها بالإسلام بعد أن كانت مهضومة الحق في الجاهلية، ولم تُحرم من القيام بدورها بين الفرد والأسرة والمجتمع. بالعكس تبوأت مكانة كبيرة في قلب الحياة بأفكارها وأفعالها، ولعبت دورًا فعالًا في حل المشكلات والتغلب عليها. وقد كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاههن يشجعهن ويحفزهن، وقد واصل صلى الله عليه وسلم دعمه لهن رجاء أن يحملن رسالته إلى المستقبل. والحال أن هذه الأدوار الإيجابية والفعالة التي اضطلعت بها المرأة في الحياة الاجتماعية قد استمرت مضاعفة في عهد الخلفاء الراشدين أيضًا.
Footnotes
- لمزيد من المعلومات، انظر:
Reşit Haylamaz, Mazlumların Hâmisi Hazreti Hadîce (radıyallahu anhâ), Sîret Yayınları
- «ابن هشام، السيرة النبوية، 1/312. على نفس الشاكلة كانت شجاعة امرأة سببًا في إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، إنها السيدة فاطمة بنت الخطاب، لقد كانت وسيلة في إسلام أخيها. فأصبح دخول سيدنا عمر للإسلام فتحًا مبينًا للإسلام، وفي الوقت نفسه نجاة لبعض المسلمين من ظلم المشركين
- ابن الأثير، أسد الغابة، 495؛ ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 588. ولمزيد من المعلومات انظر:
https://www.peygamberyolu.com/taifin-ilk-meyvesi-rukayka/#.XgS04i3BKqA
- ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 1873
- ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 1810
- قد ساهمت زوجة عبد الله بن أبي عوف في بناء المسجد النبوي أيضًا. ولما وافتها المنية، طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه أن يحملها على عاتقه؛ فلما سألوه عن سبب ذلك، أخبرهم بأنها كانت تحمل الحجارة ليلًا على كتفها سرًّا للمسجد
- صحيح البخاري، 2/162
- صحيح البخاري، الحج، 88
- ابن سعد، الطبقات الكبرى، 10/114؛ ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، 1882
- سنن أبي داود، 519؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/299، 300، 314، 331، 344، 346؛ البيهقي، دلائل النبوة، 6/143؛ ابن سيد الناس، عيون الأثر، 2/248؛ المقريزي، إمتاع الأسماع، 14/305
- الواقدي، المغازي، 1/241
- الواقدي، المغازي، 1/241، 242
- صحيح البخاري، المغازي، 55