زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها
في الطريق إلى الزواج الميمون
كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا. وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قَدَر على ذلك. فقد طلبوها وبذلوا لها الأموال، ولكنها كانت أوصدت الأبواب دونهم جميعا، حيث بلغ بها العمر مَبلغا، ولم تبق لديها حاجة إلى أن تعتمد على رجل كسائر نساء مجتمعها. فقد كانت ذات ثروة ومال، تقوم -حسب مقاييس عصرنا- بالتجارة الدولية، وكان يعمل تحت يدها أناس من شتى البقاع، حيث كان من العاملين لديها أناس من الروم وفارس والغسانيين، بالإضافة إلى أبناء الحيرة والشام. ولكن الوضع الآن كان مختلفا تماما، فما كان لديها سبيل إلى الوصول إليه صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق الزواج، ولكن كيف الوصول إليه؟!
بل إن عمرو بن هشام الذي اشتهر فيما بعدُ لدى المسلمين بـ”أبي جهل”، كان هو أيضا من ضمن الراغبين في الزواج منها، ولكنها رفضته أيضا وأغلقت فيه وجهه الباب.. بل إن هناك من يعتقد بأن ذلك هو السبب في ما كان يضمره من الحقد الدفين تجاهه صلى الله عليه وسلم، ويُروَى أنه لما سمع بزواجه من خديجة قال: ألم تجد غير يتيم أبي طالب!؟
صَدِيقة تتفهم الحال
وكانت لخديجة صَديقة قريبة منها، تُحدثها بأسرارها وترتاح لها، ألا وهي نفيسة بنت مُنية، حيث إنها ما زالت تحدثها حتى كشفت عما تخفي في صدرها، كيف لا وقد تضافرت الأسباب لها لتُحاول الظفر بمحمد بن عبد الله، وقد شاهدتْ فيه وسمعت عنه الكثير من سمو الأخلاق، وصدق اللسان وعلو النسب، بالإضافة إلى ما حدثها به ميسرة مما عاينه في رحلة الشام، وما قاله ورقة، وغير ذلك.. ولا نستبعد أن تكون نفيسة قد استشفت ذلك من تغير أحوالها وأطوارها، فأدى ذلك بها إلى أن تنبش عما في ضميرها، فلما صارحتها خديجة هونت الأمر عليها، وأخبرتها بأنها هي التي ستقوم بالمهمة وتجس نبضه.
ولنستمع إلى نفيسة لتروي لنا قصتها. قالت:
“كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، قوية، شريفة، وأَنعَم الله عليها بالكرامة والخير، وهي يومئذٍ أوسط قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالاً، وأحسنهم جمالاً، وكانت تُدعَى في الجاهلية “بالطاهرة”، قد طلبها جُلّ رجال قومها، وذكروا لها الأموال، فلم تَقبل، فأرسلتْني خُفية إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عِيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: “ما بيدي ما أتزوج به!”، قلت: فإن كُفيتَ ذلك، ودُعيتَ إلى المال والجمال والشرف والكفاية، ألا تجيب؟ فقال: فمن هي؟ قلت: خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت: عَليّ،
فذهبتْ نفيسة إلى خديجة تبشرها بقبول محمد ورضاه، وسرعان ما عادت برسالة خديجة إلى محمد: يا بن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك[1] وسِطَتك[2] في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك.
وأرسلتْ إليه أن ائت الساعة كذا وكذا، ولكن ما كان ينبغي أن يتم هذا الأمر من دون مشاركة عائلة الطرفين، وتَلاقي الأسرتين، لأن الزواج اتصال أسرتين لا مجرد قِرانِ فردين.
فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، لأن أباها خويلدا كان قد هلك قبل الفجار.[3] فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته. وهكذا تمت الخطبة وتراضت الأسرتان، واجتمع رؤساء مضر وكبراء مكة وأشرافها، وبذلك تم إعلان هذا الأمر بعد أن كان في نطاق ضيق.[4]
وقائع حفل الخطبة
هذا وقد حضر الحفل من أبناء عبد المطلب أبو طالب والعباس وحمزة. وكان المتكلم باسم محمد صلى الله عليه وسلم هو عمه أبو طالب، فقال في خطبته:
“الْحَمد لله الَّذِي جعلنَا من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَزرع إِسْمَاعِيل، وضئضئ (أصل) معد، وعنصر مُضر، وَجَعَلنَا حَضَنة بَيته وسُوَّاس حرمه، وَجعل لنا بَيْتا محجوجا، وحرما آمنا وَجَعَلنَا الْحُكَّام على النَّاس.. ثمَّ إِن ابْن أخي هَذَا مُحَمَّد بن عبد الله لَا يُوزن بِهِ رجل إِلَّا رجح بِهِ شرفا ونبلا، وفضلا وعقلا، فَإِن كَانَ فِي المَال قُلٌّ (أي قلة) فَإِن المَال ظلّ زائل، وَأمرٌ حَائِل (متحول)، وَمُحَمّد مَن قد عَرَفْتُمْ قرَابَته، وَقد خطب خَدِيجَة بنت خويلد وبذل لَهَا من الصَدَاق مَا آجلُه وعاجلُه: اثنتا عشرة أوقية ذهبا ونشًّا،[5] وَهُوَ وَاللهِ بعد هَذَا لَهُ نبأ عَظِيم، وخطر جليل جسيم”.
فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل، فقال:
الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرتَ، وفضَّلَنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تُنكر العشيرة فضلَكم، ولا يَرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليّ يا معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار.”
ولكن أبا طالب أراد أن يتكلم عمُّها بالقبول، لأنه أقرب إليها من ورقة فقال: “قد أحببت أن يَشركك عمها”، فقال عمها: “اشهدوا يا معاشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد”. وشهد على ذلك صناديد قريش.[6]
وعلى إثر ذلك تم الزواج وأولم عليها محمد صلى الله عليه وسلم، فنحر جزورا، وقيل جزورين، وأطعم الناسَ وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة وكان سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها الرسول ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت، وتزوجها رسول الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة.
وهكذا تم العقد ومراسيم النكاح، وأقيمت الوليمة وذبحت الذبائح، وبهذا بدأت في حياة خديجة رحلة جديدة تدوم على مدى خمسة وعشرين عاما.
وكان من أكثر الناس فرحا بهده المناسبة أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وراعيه. وقد لقي هذا الأمر قبولا عاما لدى أهل مكة وأشرافها على العموم، حتى انعكس على أشعارهم التي قالوها بمناسبة ذلك اليوم.
ولكن لم تكن فرحة أحد في ذلك اليوم توازي فرحة خديجة، وكان خديجة قد دعت لوليمتها حليمة السعدية مرضعة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى تقرَّ عينه بحضورها.. وقد قامت خديجة بواجبها نحو حليمة حيث إنها لما شيعتها إلى بلادها أهدت لها خمسة وأربعين شاة تطييبا لخاطر زوجها الذي رضع منها..
وقد قضى صلى الله عليه وسلم أياما في بيت أبي طالب، ثم انتقل إلى البيت
الذي اشترى من ابن أخي خديجة: حكيم بن حزام، لتبدأ فيه حياته الزوجية التي ستقضيها
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على مدى خمسة عشر عاما. وكانت حياة مثالية
نموذجية يُحتذى بها في الحياة الأسرية ويسود فيها التعاون والاحترام المتبادل..
فقد كان صلى الله عليه وسلم يساعد أهله في أمور الأسرة، كما كان يتولى حوائجه
الشخصية بنفسه إذا اقتضى الأمر. وبالمقابل، كانت خديجة رغم أنها كانت موسرة تستطيع
أن تستخدم الخدم لأمور بيتها كانت تتولى خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسهاـ
ولا تحيلها لغيرها، وتقوم بذلك كله بنشوة العبادة.. وقد كانت حصرت نفسها في إرضاء زوجها إلى درجة أنها
كانت تتخوف من أدنى أذى يصيب حبيبها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[1] وذلك لأن نسبها تلتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأب في قصي، ومن جهة الأم في لؤي.
[2] السِّطة: من الوسط، أي توسطك وكونك من أوسط قومك أي أعلاهم نسبا.
[3] انظر الروض الأنف /١٥٥.
[4] أنظر: ابن سعد الطبقات ٢/١٠٦،
[5] أى نصف أوقية.
[6] أنظر: أبو زهرة، خاتم النبيين ١/١٤٤-١٤٥.