رضاعه صلى الله عليه وسلم، وشق صدره
كان من عادة أهل مكة أن يدفعوا أولادهم إلى المرضعات في البادية حيث يتوفر بها الغذاء الطيب والهواء النقي، وينشأ الطفل بين الأعراب أفصح لسانا وأجلدَ جسما، حيث يتربى الأطفال على تحمل الأجواء وخشونة البادية.. بالإضافة إلى أن الطقس في مكة كان شديدا يتعب الجسم.. وكان الناس تأتون إليها من صوب فتختلط العادات والتقاليد، بينما كان الطفل في البادية يحافظ على صفاء طبيعته بين أحضان الطبيعة بعيدا عن مفاسد المدينة، فينشأ على النقاء ويتطبع به، فأصبح من العادة أن تأتي المرضعات من البادية إلى مكة ليأخذن الأولاد، وكن يأخذن في مقابل ذلك الأجرة من أهالي الرضعاء.
وفي تلك السنة أيضا توجهت عشر مرضعات من ديار بني سعد نحو مكة لالتماس الرضعاء، وكان لهن صيت حسن في ذلك، من بينهن حليمة بنت عبد الله ابن الحارث ترافقها زوجها الحارث بن عبد العزى المكنَّى أبا كبشة، وكان ذلك العام سنة جدب وقحط، يعاني فيه الناس من قلة الزاد والطعام، حتى إن أولادهن الذين كانوا يرافقونهن يتضورون جوعا، ولكن لم يكن لدى الأمهات ما يسددن به جوعة أطفالهن، بل إن الجوع أثر على الأمهات فلم تبق في أثدائهن ما يغذين به أولادهن، ولم تكن ناقتها العجوز ترشح بقطرة من لبن، فما كانوا يستطيعون النوم من بكاء الأطفال.
حتى إن أتان[1] حليمة كانت تعجز من السير في ذلك الطريق الطويل حتى أصبحت مذمومة في الركب وشق ذلك عليهم.
تقول حليمة: قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما معنا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أننا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبي، فكنا نقول: ما عسى أن تصنع أمه وحدها!؟
فما بقيت امرأة قَدِمت معي إلا أخذتْ رضيعا غيرى. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي -تعني زوجها-: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم، فلَآخذنَّه.
قال: لا عليكِ أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبتُ إليه فأخذته،[2] وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. فلما أخذتُه رجعت إلى رحلي، فلما وضعتُه في حجري أَقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى رَوِيَ، وشرب معه أخوه حتى روي، حتى ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى شارِفِنا[3] فإذا إنها لحافل (غزيرة اللبن)، فبتنا بخير ليلة. يقول صاحبي (تعني زوجها) حين أصبحنا: تعلمي [أي اعلمي] والله يا حليمة لقد أخذتِ نَسَمَة [أي ذاتا] مباركة. قلت: والله إني لأرجو ذلك.
ثم خرجنا، وركبت أتاني وحملته عليها معي، فو الله لَقطعتُ بالرَّكب ما لا يَقْدر عليه شيء من حميرهم، حتى أن صواحبي لَيقُلنَ: يا بنت أبى ذؤيب ويحك، اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها. فأقول لهن: بلى والله إنها لهي هي. [فيقلن والله إن لها لشأنا].
قالت: ثم قدِمْنا منازلنا من بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدبَ منها، فكانت -والله- غنمي تروح عليَّ -حين قدِمنا به معنا- شِباعا لُبَّنًا (أي غزيرةَ اللبن)، فنحلب ونشرب منها، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم، ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبضّ (أي ترشح) بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لُبَّنًا (أي كثيرة اللبن جمع لبون)، فلم نزل نتعرف من الله الزيادةَ والخير.[4] حتى مضت سنتاه وفصلتُه، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سَنَتيه حتى كان غلاما جفرا (يعني ممتلئ البدن قويا يستغنى بالطعام)
ولم يذكر التاريخ أكانت تلتقي به أمه، أم تركته إلى البادية مطمئنة عليه!!، ولكن إذا كان التاريخ لم يذكر أنها رأته، فلنفرض أنها كانت تراه من وقت بعد اخر، وإذا كان التاريخ لم يذكر الرؤية، فإن أقصى ذلك أنه لم يثبتها، ولم ينفها، فالفطرة والحنان يوجبانه، وهما أصدق خبرا، ولذلك نقرر أنها لابد كانت تراه من حين لآخر.[5]
قالت حليمة: فقدِمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لِمَا كنا نرى من بركته، فكلَّمْنا أمَّه، وقلت لها: لو تركتِ ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردَّتْه معنا.
نعم، لقد رأت الخير بين يديه، فأرادت أن تبقيه ليبقى الخير، ولأنه قد نال محبتها، وأصبحت لا تستطيع فراقه كأنها التي حملته، ولم ترض الأمُّ التي حملت به أن تتركه لشوقها إليه، ولتضمه أحضانها، فلم تسلِّمها ولدها لأول طلب، بل مازالت [حليمة] بها حتى قَبلت، ولعل قبولها سببه ما ذكرته من أنها تخشى عليه وباء مكة، وتريده أن يكون مستمتعا بجو الصحراء الصافي من حمل الأسقام والأوباء فهي قد رضيت إيثارا ومحبة.
حادثة شق الصدر
وهكذا بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره.
فقد روى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعَه، فشقَّ عن قلبَه، فاستخرج القلبَ، فاستخرج منه عَلقة، فقال: “هذا حظ الشيطان منك”، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعَون إلى أمه- يعني ظئره[6]– فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى ذلك الْمِخْيَطِ (الإبرة) في صدره. [7]
وروي أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سياق حديثه عن القصة: فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بَهْمًا[8] لنا: إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بِيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا. ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقَياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنَني بهم فوزنتُهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بهم فوزنتُهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتُهم. فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنتَه بأمته لَوَزَنَهَا”.[9]
تقول حليمة: فرجعنا إلى خبائنا وقال
لي أبوه: يا حليمة لقد خشيتُ أن يكون هذا الغلام قد أصيب [أي من الجن]، فألحِقيه
بأهله قبل أن يَظهر ذلك به، فاحتملناه فقدِمنا به على أمه فقالت: ما أقدمَك به يا
ظئر، وقد كنتِ حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلتُ: قد بلغ الله بابني، وقضيتُ الذي
عليَّ وتخوفتُ الأحداث عليه، فأديته عليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنكِ، فاصْدُقيني
خبرَكِ، قالت: فلم تَدَعْني حتى أخبرتها.[10]
[1] الأتان: الأنثى من الحمير خاصة
[2] زاد ابن سعد في طبقاته ٢/٩٠: وقالت أمه: يا ظئرُ (أي التي تعطف على ولدها فترضعه)، سلي عن ابنك، فإنه سيكون له شأن. وأخبرتْها ما رأت وما قيل لها فيه حين ولدته. وقالت: قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر. ثم في آل أبي ذؤيب. قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الذي في حجري أبو ذؤيب. وهو زوجي. فطابت نفس حليمة وسُرَّت بكل ما سمعت. ثم خرجت به إلى منزلها. فحدجوا أتانهم (أي حملوها، والحَدَج من مراكب النساء يشبه المِحَفَّةَ). فركبتها حليمة وحملت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديها وركب الحارث شارفهم، فطلعا على صواحبها بوادي السرر، وهن مرتعات وهما يتواهقان (يتسابقان)، فقلن: يا حليمة ما صنعتِ؟ فقالت: أخذتُ والله خير مولود رأيته قط وأعظمهم بركة. قال النسوة: أهو ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم! قالت: فما رحلنا من منزلنا ذلك حتى رأيت الحسد من بعض نسائنا.
[3] الشارف: الناقة العجوز.
[4] ابن هشام، السيرة ١/ ١٥١؛ ابن كثير، البداية والنهاية ٣/٣٣٤؛ أبو زهرة؛ خاتم النبيين ١٦٠.
[5] أبوزهرة، خاتم النبيين، ص ١١٢
[6] الظئر: هي المرأة التي ترضع ولد غيرها.
[7] صحيح مسلم، باب الإسراء 1/ 92. وانظر: ابن سعد، الطبقات ٢/٩٠؛
[8] البَهم: ولد الضأن الذكر والأنثى.
[9] ابن هشام، السيرة ١/١٥٤-١٥٥.
[10] السيرة، ابن هشام ١/١٥٢. وهناك روايات كثيرة في حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم، تركناها خوف الإطالة، وممن أدلى بدلوه في الحديث حول تحليل الموضوع ومقارنة الروايات بعضها ببعض محمد أبو زهرة، وقد أجاد في الإتيان بكلام متوازن فارجع إليه إن شئت في كتابه: خاتم النبيين /١١٣.