حاجة الأمة إلى السيرة السنّة
لم تكن الأمة في ظرف من ظروفها التي مرت، بحاجة إلى ما أسْمَيْتُه بـ”السيرة السُّنَّة” كما هي بحاجة إليه اليوم، لأنها وصلت في علاقتها بالإسلام إلى حد خرج الإسلام فيها من مرجعية الأمة من الناحية الواقعية، وعَوَّضت المرجعيةُ الأوروبية البشريةُ مرجعيةَ الوحي في جميع شؤون الأمة تقريبًا. و”الأمة” نَفْسُها إنما نَنْطق بها اليوم مجازًا، وإلا فلا “أَمَّ-يُؤَمُّ” ولا إمام يَؤمّ، ولا وجود للجَمْع كله مأمومًا من إمامٍ يَؤمّ قصدًا موحدًا يقوم على الوحي. هذا لا وجود له في العالم الإسلامي اليوم، وإنما قِطَعُ غيارٍ متناثرة في أماكن شتى من العالم، وبقايا من هذه الأمة.
لكن لا تزال طائفةٌ قائمة بالحق، لن تزول ولن تنتهي حتى تقوم الساعة… والحقُّ حجتُه باقية في الأرض، قد يضعف ولكنه لا يزول ولن يزول.
ما يحدث الآن هو بمثابة سماد للحق وبمثابة تقوية لهذا الحق، حيث جعله ينطلق على أساس متين ويعيد بناء الإنسان بناء جديدًا، يشابه من جوانب متعددةٍ المسلمَ الأول في الجيل الراشد في خَيْر القرون. ولكن مسلمي اليوم لن يبلغوا ذلك اليوم إلا بعد بلاء عظيم يُمحَّصون فيه تمحيصًا بأشكال مختلفة من البلاء، ولكن الخير كل الخير في ذلك للأفراد وللأمة في النهاية.
إن ما نسميه بـ”السيرة النبوية” فيه السِّرُّ، ولكنه لم يُعَدَّ الإعدادَ العلميَّ قبْلُ ليَحل الإشكال بسرعة بَعدُ. ومن ثم يمكن تلخيص الموجبات اليوم باختصار في ثلاثة:
1- الحاجة العامة للبشرية إلى النموذج الكامل في “الآدمية”، ليس في “الإنسانية” بل في الآدمية، لأن أغلب ذكر الإنسان في القرآن يأتي في سياق الشَّرّ، وفي سياق الذّم. والحالاتُ التي ذكر فيها في سياق المدح قليلة جدًّا، فكلنا إذن أبناء آدم النبي -عليه السلام-.
وحاجة البشرية اليوم إلى نموذج “ابن آدم” المثالي الكامل هي حاجةٌ قوية جدًّا، لأن “صورة المسلم” لم تعدْ موجودة على الوجه الصحيح في الكرة الأرضية، و”صورة غير المسلم” أشكالٌ من التشوه للآدمية. فالبشرية تتخبط، والمسؤولون الأوائل هم مَن يُسمَّون بـ”المسلمين”، لأنهم حَجَبوا عن الناس الحقَّ بأشكال متعددة من الحجب، سواء في الفهم السيئ أم في الممارسة السيئة، أم في التديّن البالغ السوء. إنهم منعوا الناس من رؤية الحق في الصورة البهية النقية.
والحاجة إلى السيرة النبوية الصحيحة الشاملة الكاملة، حاجة قوية لتحُلّ هذا الإشكال للبشرية اليوم؛ لتحلَّه عندنا نحن المسلمين أولاً، ثم لتحلّه عند غيرنا.
2- حاجة الأمة إلى المنهاج الأمثل للخروج من الظلمات إلى النور، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ونحن ما زلنا لم نستطع الخروج، ويوم نخرج نستطيع الإخراج بإذن الله تعالى. السيرة فيها السِّرّ، أي السيرة النبوية الصحيحة الكاملة الشاملة.
3- حاجة العلماء إلى سيرة صحيحة شاملة كاملة واضحة يروونها.
لقد نزل كتاب الله -سبحانه وتعالى- وجُمع وصار في مصحف، ثم جُمعت سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مراحل، ثم بدأ جَمْعُ السيرة، قصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
فالعناية تدرّجت حسب هذا السُّلَّم؛ العنايةُ بكتاب الله -سبحانه وتعالى- أولاً له الصدارة، ولذلك بين أيدينا كتاب الله -سبحانه وتعالى- بالتواتر اللفظي. ثم هناك بعد ذلك العنايةُ بسنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدها العناية بسيرته -صلى الله عليه وسلم- ولم تَحْظ بمستوى العناية التي حَظِيت بها سنّته -صلى الله عليه وسلم-، فليس بين أيدينا في موضوع السيرة ما يشبه صحيحَي البخاري ومسلم. فالحاجة العلمية إلى جانب الحاجة الحضارية لهذه الأمة، إلى جانب الحاجة العامة للبشرية، كُلُّها من الموجبات التي تدفع أهلَ الغَيْرة دفعًا إلى أن ينخرطوا في المشروع انخراطًا كلّيًّا لإنجاز “السِّيرة السُّنة”.
ما المقصود بـ”السيرة السنة”؟
السيرة فِعْلَةٌ من “السيْر” واسم هيئة؛ أي الكيفية التي تمّ عليها السَّيْر، أي الحالة التي كان عليها السيْر، وهي هاهنا بالنسبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- قِصَّتُه كقصة بقية الأنبياء. ونحن عندما نلتمِسُ ما أسمّيه بـ”الهدى المنهاجي” في هذا الدين، نلتمسه أولاً في القصص القرآني، أي في سِيَر -عز وجل- (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)(الأنعام:90)، أي سِيَر الرسل والأنبياء. فهناك منهاجُ إخراج الناس من الظلمات إلى النور كامن، وقد اقتدى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أمره الله -سبحانه وتعالى- في عدة مناسبات واضحة جدًّا:
• في مناسبة فتح مكة قال كما يقول يوسف -عليه السلام-: -عز وجل-: (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ)(يوسف:92).
• ثم في مناسبة بيعة العقبة: -عز وجل-: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا)(الأعراف:155).
في مناسبات متعددة اِئتسى بما قُصَّ عليه في القصص القرآني: -عز وجل-: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)(هود:120).
ولكن القصة الأكبر والأضخم، والتي تُمثّل النموذج الأكبر للتجربة الأعظم؛ التجربةِ الخاتمة الكاملة الشاملة، التجربة التي لم تقتصر على مرحلة بعينها من حياة الإنسان الفرد أو حياة الإنسان الجماعة. ولكن تجربةٌ كاملةٌ لإخراج أمة بكاملها من الظلمات إلى النور، وتأسيس أساسٍ للبشرية حتى قيام الساعة، تسترشدُ به وتستهدي به.. هذه التجربة أين نجدها موثقة؟
نجدها في سيرة ابن إسحاق، وابن هشام، في المغازي وفي الكتب المختلفة للسيرة.. ولكن بهذا المعنى الذي أتحدث عنه لا نَجِدُها؛ بمعنى أن كُلَّ ما فيها صحيح، ولا تَقْتَصر على جانب بعينه من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسُننه وأيامه، بل تشمل كل ذلك منذ وُلد.. وذلك يدخل في منهاج الإعداد، حيث أُعِدَّ ثلثي الوقت ليُنْجز ويُنفِّذ في ثُلُث الوقت، أي أربعون سنة من الإعداد، وعشرون سنة من الإنجاز.
توجد نصوص كثيرة صحيحة صريحة بأن عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ستّون سنة، أربعون منها قبل البعثة، وعشرون بعدها، عشرة بمكة، وعشرة بالمدينة. وهناك المعروف والمشهور، وهو ثلاث وستون سنة على أساس أن الثلاث هي مرحلة الدعوة السرّية، وعشْرٌ للصَّدْع بالدعوة بمكة، وعشْرٌ للصَّدْع بالدعوة بالمدينة.
إذن هذا النموذج بكامله -من أوَّله إلى آخره- هو قصةٌ. ولنا نموذج في القَصص القرآني، ومنها قصة موسى -عليه السلام- في سورة القصص؛ لقد بدأت بحديث صُنْع الله له على عينه وهو في بطن أمّه في وقت مبكّر، وسورة طه اهتمت بالقسم الثاني، وسورة الأعراف بنهاية القصة. هذه السور بهذا الترتيب كافية لرؤية قصة موسى -عليه السلام- منذ وُلد إلى أنْ صار إلى ما صار إليه مع قومه.
فسيرة صحيحة شاملة كاملة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نملكها اليوم، والسنة الموجودة الآن في الكتب والتي تحتاج هي نفسها إلى أن يجتهد أهل الحديث وعلماؤه ويؤسّسوا مجمعًا حديثيًّا عالميًّا كمجمع الفقه، لإخراج مدونة الحديث الصحيح مرتّبة مصنّفة.. وكل الكتب تدخل في الحساب بعد غرْبلتها عبْر شورى علمية من ذوي الاختصاص في كتاب جامع، وتبقى الكتب القديمة في محلّها، ولا يَستغني عنها ذوو الاختصاص، لكن الأمة في مرحلة الاستئناف الحضاري والعَوْدة إلى التاريخ في حاجة إلى أن تواجه شيئًا واحدًا واضحًا قد خرج من أيدي العلماء بالشورى العلميَّة.
هذه السنة الموجودة الآن في الصحيحين وفي غيرهما إذا قورنت مع السيرة، نجد هناك النظرة الأُفُقية للدين، والنظرة العَمُودية، والنظرة الموضوعيَّة، والنظرة الزمنيَّة التاريخية.. إن القرآن نزل أول ما نزل، منجَّمًا مفرَّقًا: -عز وجل-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً)(الإسراء:106)، ثم جُمع في النهاية في كتابٍ على الصورة التي هو عليها في المصحف الآن، وفي العرضَتَيْن الأخيرتين في رمضان الأخير من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الصورةُ التي بقي عليها الكتاب كما هو، كانت لها صورة أخرى في علاقة النصّ القرآني بالتاريخ وبالمكان والزمان.
المنهجُ الذي اختاره الله -سبحانه وتعالى- ليُحِّل به الوحي في الواقع هو مقتضى ترتيب نزول القرآن الكريم، ولم يبق لنا بغاية الدقة كما كان أول مرة، لأن تلك الصورة بذلك الشكل لا يمكن أن تُلْزَم بها الأمةُ لتغيُّر الزمان والمكان والإنسان، فيحتاج الأمر إلى اجتهاد، لكن المعالم الكبرى مهمةٌ جدًّا وهي باقية.. القرآن -وهو ينزل على نبيه- ذلك البيان، حين عُزل عن التاريخ صار سنّة، وجُمعت النصوص وصُنّفت، وصارت بعدُ مُرتبةً على الموضوعات، وكُلٌّ رتَّبها على طريقته.. وعلى كُلٍّ، فالترتيب الذي صار مشهورًا بعد ذلك هو الترتيبُ حسب الموضوعات، فإذا أردتَ أن تعرف الإسلام عن طريق السنّة تجد هذه المواضيع أمامك.. لكن الترتيب الذي كان لتلك السُّنّة نَفْسِها والرسول -صلى الله عليه وسلم- ينطقُ بها أو يَفعلها أو يُقرّها، كان ينبغي على ذلك الترتيب أن يكون في السِّيرة، ولكنه بتلك الصورة الصحيحة الشاملة الكاملة لم يكُن.. وهو ما أقْصِدُه بـ”السِّيرة السُّنة”، أي السيرة التي تُمَثِّل السنة، لكن بصورة زمنيَّة في صورة مرتبطة بالمكان والزمان، وفي شِقٍّ تاريخيٍّ دقيق؛ كُلُّ حادثة بعد التي تليها بالضبط.. أيُّ نصّ من النصوص الواردة، ينبغي أن نلتمس له بدقة، مكانه في النسق التاريخي لزمن السيرة، لنحصل في النهاية على هذه القصة الكاملة النموذجية لأكمل نبي وأعظم رسول -صلى الله عليه وسلم-.
لِمَ لَمْ تُكتب هذه “السيرة السنّة” قبل؟
هناك أسباب عدة لعدم الاهتمام بـ”السيرة السنة” من قِبَل الأمة، ومنها:
1-انفصال السيرة عن السنة: واضح مما سبق أنها في أصل الانطلاق انطلقت منفصلة عن السنة، وسارت متقاربة متكاملة، لكن ليست هي هي، وهذا هو الأمر الأول. إذن لِمَ كان الاهتمام بالسنة أكثر من الاهتمام بالسيرة؟ السبب هو “حاجة الأمة”؛ فالأمة والعقل دائمًا يقتضيان الكياسة، والكياسة تقتضي أن تستجيب الأمة للحاجات الضاغطة بأي أمر.. والأمة -بالعوارض والنوازل التي تَنزل- تحتاج إلى الاجتهادات التي بها تواجه ذلك؛ فما كان تابعًا للقضايا الجديدة النازلة بالأمة في توسُّعها وتنوع أجناسها، وقع الاعتناءُ به والاجتهادُ فيه، لإظهار الإسلام في صُوَره النقية النموذجية الكاملة الموضوعية.
هذه “النظرة الأفقية” للدين، كانت حاجةُ الأمة إليها كبيرة جدًّا، وتزداد كل يوم في تفاصيلها وجزئياتها.. فكانت تحتاج إلى السنّة في القياس عليها لاستنباط الأحكام التي بها تعالج مشكلاتها الجديدة النازلة. استجابت الأمة لهذا الأمر، فرتّبت له عبر القرون الثلاثة، وأنهت قصة الغربلة الشاملة للسنة، والقرونُ الثلاثة تعني منتصف المائة الثالثة.. ثم استمر الأمر بعدُ على نفس الاهتمام، لكن بالنسبة للسيرة لم يستمر بهذا الشكل أبدًا.
2-انعدام الداعي: الأمر الآخر في هذه النقطة (أي الأسباب التي جعلت الأمة لا تكتب السيرة بهذا الشكل)، هو انعدام الداعي من هاته القرون السابقة أو ضعفُه، وهو السبب الأهم؛ فالقرون السابقة أي ما قبل القرنين الأخيرين -لأن هذين الأخيرين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين هما من صميم ما يجري- حيث ما زلنا في المرحلة التاريخية المتشابهة، بمعنى أن الأمة إذ ذاك كانت تعيش الإسلام فيه خُروق، وفيه بدَعٌ، وفيه أمورٌ، أي ما عادتْ تَسِير السيرَ الطبيعيّ، وبه أشكالٌ من المخالفات، وبه أشكالٌ من المعاصي ومن الفسوق في التديُّن وليس في “الدين”، لأن هذا الأخيرَ دائمًا ثابتٌ مستقر، ولكن تديّن الناس لم يبق كما كان أول مرة يكاد يُطابق النص. فحدثت أشكالٌ من المعاصي والفسوق، ولكن بقيت المرجعيَّة هي المرجعيَّة، والناسُ يعترفون في النهاية أن القرآن والسنة وما استُنبط منهما إليه يرجعون في شؤونهم العامة عند الاختصام.
لكن في هذين القرنين الأخيرين بدأنا نعيش وضعًا جديدًا، أي إننا نعيش “التنكُّر للمرجعية”.. الآن -ببساطة- هل وزارة التعليم عندنا -مثلاً- تستشير الكتاب والسنة؟! أو تستشير الإسلام؟! وهل وزارة الإعلام تستشير الإسلام؟ وهل وزارة التجهيز والفلاحة تستشير الإسلام؟ وأيُّ وزارة كانت، هل تفعل شيئًا من هذا؟ بل لها استشارات قانونية وتسير وفق قوانين، ولكن هذه القوانين مستقاة من الغرب أساسًا.. إذن نحن لنا مرجعية غير إسلامية في حقيقتها، والأمر في غاية الوضوح.
حين حدث هذا، بدأ الغيورون على حال هذه الأمة يتلمسون الطريق، وهذا ما يقف وراء ظهور بعض المحاولات في القرن الأخير لتفسير القرآن الكريم وفق ترتيب النزول كحال محمد عزّة درْوزة، وحبنَّكة الميداني وحال غيرهما.. سواء عند السنة أو عند الشيعة فهناك محاولات تتلمَّسُ الطريق نحو القصة الأمّ، قصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قصة كيف أخرج الناسَ من الظلمات إلى النور؟ يعني كيف كان الأمر ليُستَهدى به؟ لأن تلك السيرةَ صنعَها القرآن، وصنعها تنزُّل القرآن خطوة خطوة.
إن انعدام هذا الداعي جعل القرون السابقة لا تلتمس هذا، فكانت حاجة التبرك بالسيرة أحيانًا، والتأسي بالسيرة أحيانًا، وللدلائل والشمائل أحيانًا… إلخ. ولكن الحاجة إلى أن نُعيد البناء من الأساس لم تَأْتِ من قبل، والذين أحسّوا بالخطر أو ببعض الخطر اهتمُّوا مع ذلك بفقه السيرة في وقْت مبكّر، وما زلتُ أذكر جهدَ ابن القيِّم في “زاد المعاد” في مسألة فقه السيرة الذي عنده، فتلك الوقفات عنده في غاية الأهمية، لكن لم يصل الأمر في زمانه إلى ما وصل إليه في زماننا، ولذلك اشتدّت الحاجة الآن ووجبتْ. فنحن بحاجة الآن إلى منهاج حقيقي نراه في تجربة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحيحًا، قابلاً لأن يُستَنبط منه الاستنباط الفقهيُّ باطمئنان.
هل يمكن اليوم كتابة “السيرة السنّة”؟
هل يمكن اليوم كتابة “السيرة السنّة”؟ أزعم أن “نَعَمْ”.. وقد كانت محاولات للأفراد وللمؤسسات؛ ويعرف الجميع جهود الدكتور أكرم ضياء العمري، وجهود إبراهيم العلي، وجهود الدكتور ناصر الدين الألباني وغير هؤلاء.. ولكنها جهود حتى الساعة لم تسر وفق المنهج العلمي الدقيق والرؤية الشاملة للهدف من السيرة جملة: أي لماذا نُعيد كتابة السيرة أساسًا؟
فالسيرة الآن -في الصحيحين وفي غير الصحيحين- تحتاج إلى استخلاصٍ لا علاقة له بالأبواب والموضوعات كما هي الآن في الصحيحين، بل على القارئ أن يعود إلى كل نص ليستخلص ما يتعلق بشخصية أو بحادثة أو بفعل أو بقول، ويربطه كقطعة صغيرة مع قطع أخرى لتلتقي في النهاية -بعد جهود كبيرة من الجمع والتصنيف والتوثيق والتحقيق-ولنحصل في النهاية على مادة كبيرة فيها الأمور الكبيرة وفيها الدقائق والجزئيات، ولكن تحتاج إلى أن تُنسّق بدقة.
ويُسهم في العملية متخصّصون في هذه العلوم أساسًا، في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف وفي السيرة النبوية؛ وإذا قلت السيرة، دخل معنا أهل التاريخ، لا سيما الذين يهتمّون بالسيرة. لكن نحن بالدرجة الأولى تعنينا قصّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كل ما كُتب فيها بأشكال مختلفة يُسْتخلص منه ما له علاقة ثم يخضع لمنهج أهل الحديث، يعني إذا كان له سندٌ فالسند يدرس فنُخرّج الحديث ونرتِّب رُتبتَه، وإذا لم يكن له سندٌ فكيف يُتعامل معه؟ وهل يوجد ما يُعضِّده أم لا؟.. إلخ.
ولكن الجهود تتكامل وتتضافر من قِبَل أهل القرآن وأهل الحديث وأهل السيرة، وأقول “أهل السيرة” مجازًا، وإلا فأهل السُّنة هم أهلُ السِّيرة، وأهْلُ السيرة هم أهل السُّنة؛ فالسنةُ الموجودةُ هي نفسُها السيرةُ معزولة عن الزمن، والسيرة الموجودة هي نفسها السُّنةُ معزولةً عن الموضوعات، لكن لم تُعَدَّ السيرة بنفس الطريقة التي أعدت بها مادة السنة، فاختلفتا.
هذه المصادر بصفة عامة هي المراحل الأساسية: مرحلة الجمع والتوثيق وتكون طويلة وكثيرة ومهمة، لأنه لابد من حصر المدونة وحصر الكتب التي تدخل ويُرجع إليها.. وستواجهنا عَقبةُ المخطوطات ولا شكّ، ولكن على الأقل نُعِدُّ المشروع انطلاقًا من المطبوع ونرتِّبُ الأمر للمخطوط، ونُعِدُّ العدة لمسألة ما أسمّيه بـ”معضلة النص”، وهي قضية كبيرة ليستْ في السيرة وحدها، بل في مختلف العلوم الإسلامية.
أما “إشكالُ النص”، أي الإعداد العلميُّ للنصّ، فحتّى الساعة لم يَتَيَسَّر، ونسأل الله تيسير أسبابه، فالجمع فالتوثيق، ثم التحقيق والتدقيق للجزء والكليات والجزئيات، ثم التصنيف والتأليف.. هذه المراحل واضحةٌ كبيرة.
خاتمة القول
يجب الشروع في مشروع “السيرة السُّنَّة”.. أولاً نحتاج إلى بَلْوَرة لهذا المشروع بوضوح، ثم إننا نحتاج إلى رجال يحترقون غَيْرةً على الأمة وعلى واقعها وعلى مستقبلها.. ونحتاج إلى رجال يحملون الأمانة إلى رساليِّين حقًّا، إلى أتْباع محمد -صلى الله عليه وسلم- حقًّا؛ ليس الذين يزخرفون الكلام في محمد -صلى الله عليه وسلم- ويدعُون أيديهم في الماء، بل نحن بحاجة إلى أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقًّا.
فهذا المشروع يمكن أن يُبَلْوَر بِيُسْرٍ -إن شاء الله تعالى- إن وُجد مَن ينهض بهذا الأمر، وما أحسن أن تتخصص كلُّ جهة في قضية من قضايا الأمة لتستطيع النهوض بها ولا تضيّع الوقت. وذلك التخصص مبنيٌّ على التكامل مع تخصصات أخرى في قضايا الأمة في جهات أخرى. ولابد من هيئة للإشراف على هذا المشروع تكون واعية وصابرة ومحتسبة ومستعدة للتضحية… إلى غير ذلك، ولابد من جمهرة من الباحثين الصابرين العلماء القادرين بإذن الله -سبحانه وتعالى-.
كاتب المقال: الشاهد البوشيخي، الأمين العام لمؤسسة البحوث والدرسات العلمية (مبدع) / المغرب. منقول من مجلة حراء