الأسس النبوية في التربية والتعليم (14): مقابلة السيئة بالحسنة!
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
إن مبدأ “دفع السيئة بالحسنة” أحد المبادئ الأساسية للتربية النبوية، ومن أفضل وسائل محو السيئات ومضاعفة الحسنات. فقد أنزل الحق تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا المنهج الإلهي1، ومن ذلك قوله: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34)، وقد امتثله رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته، لهذا ينبغي على كل أب وأم ومعلم ومربٍ أن يتخذ هذا المنهج شعارًا له في جميع شؤونه ولا سيما في التربية والتعليم. فإن الاقتراب من المخطئ أو ممن اقترف سيئة بالحب والشفقة والرحمة، ومقابلة ما فعله بالحسنى، بدلًا من مقابلته بسيئة مثلها، أو بالغضب والإقصاء؛ هو مبدأ ضروري يغرس بذور الود في الفؤاد، ويوجه القلب إلى طريق الحق والصدق وفعل الخير. أمَّا في نهاية الآية الكريمة فقد ذُكر تأثير الإحسان وفعل الخير وأثره على النحو الآتي: ﴿…فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34).
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة!
يلفت القرآن الكريم في هذه الآية الأنظار إلى حقيقة التبليغ والتربية والتعليم التي يدركها كل عقل بشري ويقبلها الجميع؛ إنها حقيقة: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة؛ لا يستوي التصرف الحسن ولا التصرف السيء، ولا تستوي الكلمة الطيبة ولا الكلمة الخبيثة. ولهذا فإن المبلغ أو المرشد أو المربي الحقيقي لا يقابل السيئة بالسيئة، لأن تأثير الحسنة والخير على الحالة النفسية للمرء ليس كتأثير السيئة والشر. فمن ارتكب سيئة وقوبل بالإحسان تخمد المشاعر السلبية لديه، وتلين روحه المتمردة، ومن ثم ينتابه شعور كبير بالسكينة والأمان والثقة، فتتشكل لديه مشاعر أكثر حميمية تجاه مخاطبه، ويشرع في التعامل مع القضايا بطريقة أكثر عقلانية وليس بدوافع عاطفية فحسب.
ولهذا السبب فإن الإنسان الغاضب والمتوتر يهدأ أمام الكلمة الطيبة والأسلوب اللين، بل ويندم على ما أبداه من خطأ وسوء. على النقيض من ذلك، إذا رد الإنسان على مخاطبه الغاضب بالأسلوب نفسه، فإن غضبه سيزداد وسيتطور تدريجيًا ليتحول إلى شجار كبير. ولا شك أن الشجار لن يحل مشكلتهما، بل إنه سيعقد المسائل أيضًا لدرجة تستعصي على الحل. ولا سيما عندما تطغى النفس والأنا، فإن كثيرًا من المشكلات التي كان يسهل حلها بالإحسان لم تعد قابلة للحل. فكما أن الحسنة والسيئة لا تستويان لا عقليًا ولا منطقيًا، فإن عواقبهما وأثرهما على أرض الواقع أيضًا لا يستويان قطعًا. فمن المعلوم أن القيمة السلوكية والتربوية للخير سامية وعظيمة، بينما ليس هناك للشر قيمة أخلاقية أو تربوية تُذكر.
وثمة حقيقة قرآنية أخرى في هذا الصدد تؤكد على أنه لا يستوي من يعمل الصالحات ولا من يجترح السيئات، يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (سورة الْجَاثِيَةِ: 45/21). ويقول تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ (سورة غَافِرٍ: 40/58).
خلاصة القول، إنه لا يستوي التوحيد ولا الشرك، ولا الإيمان ولا الكفر، ولا العدل ولا الجور، ولا الحلم ولا الغلظة، ولا العلم ولا الجهل، ولا العفو ولا الغضب، أي أن الخير والشر لا يستويان أبدًا. إذ إن الخير يحوِّل العداوة إلى صداقة، أما الشر فيحوِّل الصداقة إلى عداوة؛ والخير كذلك يحول التمرد والجموح إلى طاعة ولين، أما الشر فيحول الطاعة واللين إلى تمرد وجموح.
ادفع السيئة بالحسنة!
وبعدما ذكرت الآية الكريمة حقيقة: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ…﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34)، أكدت بعدها مباشرة على مبدأ: ﴿…ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34)، وهو أهم خطوة ينبغي الالتزام بها للنجاح في مهمة التربية والتعليم. ومن ثم نستنبط خمس حقائق أساسية أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم وبالفعل جميع المؤمنين في شخصه صلى الله عليه وسلم، وخاصة الآباء والمربين:
1– للخير مكانة مُثلى وقيمة عليا لدى كل إنسان، ولا ينبغي أبدًا تجاهل هذه الحقيقة في التربية والتعليم؛ فإن ظن المرء “أنه لو قدم معروفًا لابنه أو لتلميذه فإنه لن يُدرك ذلك ولن يُجدي نفعًا!” فإن هذا الظن يصبح عائقًا كبيرًا أمام التربية والتعليم.
2– عندما تُقابَل السيئة بالسيئة تكون العواقب أكثر سوءًا، وعندما تُقابَل السيئة بالحسنة تكون العواقب أفضل وأجمل. فالتربية والتعليم من أبواب الخير والبرِّ الخالصة، ومن ثم لا يمكن للتعليم أن يتحقق بالألفاظ البذيئة، ولا يمكن كذلك أن ينجح بالسلوكيات السيئة المتبادلة؛ فلا يمكن بهذه الطريقة إكساب المخاطب الأخلاق الحميدة والسلوكيات الحسنة، والسبيل إلى تحقيق هذا، هو بالكلمة الطيبة والسلوك الحسن والإحسان والإكرام.
3– يقول عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ…﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/84). أي إنهم حتى لو فعلوا بك شرًا، فلا تقابل شرهم بمثله، لأنك ﴿لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (سورة القَلَمِ: 68/4). وتصف أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها هذا المنهج الأساسي الذي طبَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم على النحو الآتي: “لم يَكُنْ رَسولُ اللهِ ﷺ فاحشًا ولا مُتفَحِّشًا، ولا سَخّابًا في الأسْواقِ، ولا يَجزي بالسيِّئةِ السيِّئةَ، ولكنْ يَعفو أو يَصفَحُ” 2. ولا شك أن العفو والصفح في التعليم وكذلك أيضًا فعل الخير حقيقة ضرورية لا مراء فيها. ومن ثم ينبغي على المؤمنين أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدوا به في هذا الصدد كما هو الحال في كل أموره وشؤونه.
4–ينبه القرآن الكريم في مواضع أخرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في هذه المسألة، ويحفزهم على الثبات على الإحسان وألا يغيِّروا أسلوبهم إزاء الإساءة والشرور، يقول تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/60). ويقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾ (سورة الفُرْقَانِ: 25/63)3.
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بُعث رحمة للعالمين ومعلمًا للبشرية جمعاء، فظًا ولا غليظًا ولا يجزي السيئة بمثلها حتى ولو كان هذا صادرًا ممن يتلقى العلم والتربية على يديه صلى الله عليه وسلم. لأن واجبه صلى الله عليه وسلم كان تنشئة هؤلاء الأفراد تنشئة قويمة وأن يكون قدوة يحتذى بها في هذا الأمر. فإذا جزى السيئة بمثلها، فلن تكون هناك فرصة لأن يتعلم المخاطب الصواب أو أن يعايشه، ولا أن يصل إلى الكمال الأخلاقي. لذلك لا ينبغي للآباء أو المعلمين أن ينهزموا أمام انفعالاتهم ويفسدوا أسلوبهم، وألا ينحدروا إلى مستوى مخاطبهم إذا أخطأ أو أساء. بل على العكس من ذلك، يجب عليهم أن يحتووا المسيء بأسلوب ملؤه الحب والرحمة؛ أي يستخدموا تأثير وقوة الخير والإحسان.
5– يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/90). ولذلك لا ينبغي للمؤمن أن يشُذَّ عن القاعدة، حتى ولو انحرف المخاطب وتصرف دون أي معايير أو قواعد. وعليه المطالبة بحقه في إطار الحدود المشرعة دون الوقوع في الأخطاء أو الانحراف عن الحقيقة والصواب. ويشير سيدنا عمر رضي الله عنه عن هذه المسألة بإيجاز شديد فيقول: “ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه” 4. ويضرب سيدنا عبد الله بن عباس مثالًا رائعًا على ذلك فيقول: “الرَّجُلُ يَسُبُّ الرَّجُلَ فَيَقُولُ الْآخَرُ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ”5.
وهكذا فإنه عندما تُقابل الإساءة بقوة الخير والإحسان الفعلي بالإضافة إلى الصبر والحلم والعفو والعقل والمنطق والرحمة والكلمة الطيبة، يزول هذا الشر وينشرح قلب المخاطب نحو الحقائق والجماليات. ويملأ شعور الإحسان هذه الفجوة التي بين الآباء وأبنائهم أو المعلمين وطلابهم في فترة وجيزة، بل ويؤدي إلى توطيد العلاقة أكثر من ذي قبل كما عبرت الآية الكريمة.
تنشأ المحبة من رحم الإحسان!
ومن الجوانب النفسية المهمة التي تركز عليها الآية الكريمة هو أن الإحسان يؤلف القلوب ويعيد الود والصداقة مرة أخرى، يقول تعالى: ﴿…فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34). فينشأ الخير والود من رحم الخير؛ بينما ينشأ الشر والبغض من رحم الشر. ومن ثم فإن مقابلة السيئة بالحسنة والسلوك الطيب، هو العلاج الناجع لتحويل العداوات إلى صداقات حميمة، وتوجيه الأشخاص الذين يميلون إلى الشر إلى طريق الخير والصواب. ويلخص سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هذا المنهج الذي يحوِّل الإنسان من عدو لدود إلى ولي حميم في تفسير هذه الآية الكريمة بقوله:
“أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم”6.
إن هذا المنهج القويم، يزيل المشاعر السلبية من النفوس، كما يزيل مشاعر العداوة والبغضاء والانتقام التي تكونت بمرور الوقت، ويزيل أيضًا الأوهام والوساوس التي غرسها الشيطان في نفس المخاطب، وفي النهاية تكون النفس مهيأة لتأسيس صداقة حميمية جديدة. لهذا ينبغي على الآباء والمعلمين أن يستفيدوا بقدر الإمكان أثناء التربية والتعليم من الميزة الإيجابية للإحسان وفعل الخير التي تخلق الصداقات وتزيل العداوات. ولا ينبغي للآباء أن يسعوا إلى إدانة الأبناء ومعاقبتهم على ما ارتكبوه من خطأ، بل يجب عليهم كسب صداقتهم من جديد ولم شملهم بالأفعال الطيبة والأساليب الحسنة.
لا ينبغي للمعلمين والمربين أن يُطلِقوا أحكامًا مسبقة بقولهم: “هؤلاء الطلاب سيئون!” أو “هؤلاء الطلاب يرتكبون كذا وكذا من الأخطاء، ولن يفلح أحد منهم أبدًا!”، بل على العكس من ذلك، يجب أن يكسبوا صداقتهم مرة أخرى عن طريق التركيز على فعل الخير والإحسان إليهم أكثر من التركيز على الخطأ الذي اقترفوه. لأنه من الصعب تصحيح سلوك المخاطبين الذين عُجز عن تحويلهم إلى أصدقاء، وإنقاذهم من طوق العادات السيئة وأصدقاء السوء، وتزويدهم بالأخلاق الحميدة وتنشئتهم تنشئة سليمة.
مقابلة السيئة بالحسنة هو سِمَة الصابرين!
إن كبح جماح الغضب إزاء الشرور والسيئات، والتغلب على المشاعر السلبية والتركيز على فعل الخير، ليس بالأمر الهيِّن الذي يتيسر على الجميع تحقيقه. كما أن الحفاظ على هذه الفضيلة والمداومة عليها يتطلب إرادة قوية وعزمًا كبيرًا. ومن ثم يؤكد القرآن الكريم على أمرين مهمين لتحقيق هذا الأمر العظيم، يقول تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34-35)
إن التربية والتعليم عملية طويلة تتطلب جهدًا كبيرًا وصبرًا عظيمًا، ولهذا ينبغي للمعلمين ترجيح الصبر والإحسان دائمًا واستخدامهما استخدامًا أساسيًّا في مواجهة الشرور. وإلا، فسوف يكون هناك بين المربي والمتلقي نوعًا من أنواع التوبيخ والإدانة والانفعال والعنف والإقصاء لفترات طويلة إلى غير ذلك من المواقف السلبية التي تلحق ضررًا كبيرًا بالتواصل مع المخاطب وبالتربية والتعليم. فمثل هذه التصرفات السلبية تُقصي الأطفال والنشء عن والديهم وتُبعد الطلاب عن معلميهم ومرشديهم. فالعائق الأكبر أمام التربية والتعليم، ليس ارتكاب الأبناء أو الطلاب الأخطاء، ولكن تسرع أولياء الأمور أو المعلمين في معاجلة الأمر بطريقة خاطئة.
لا تكن أسيرًا للوساوس!
الوسواس من ألد أعداء الإنسان في مسألة الصبر على فعل الخير. فربما ينجرف المسؤولون وراء عواطفهم وأنفسهم بينما يطبقون مبدأ مقابلة الأخطاء والشرور بفعل الخير، فيوسوس لهم شياطين الإنس والجن على حد سواء بوساوس مختلفة من قبيل: “أنت تقابل دائمًا جميع أخطائه وسيئاته بالإحسان والخير، ولكنه لم يتغير. لم يُجْد مبدأ مقابلة السيئة بالحسنة نفعًا، إنه مبدأ لا فائدة منه، فهذا الشخص لن يفهم فعل الخير، فعليك أن تلزمه حدَّه”.
إن الآباء والمعلمين والمرشدين خاصة، وجميع المؤمنين عامة، مطالبون بالاستعاذة بالله من مثل هذه الوساوس الشيطانية والنفسية، يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/36)7.
قد يُثير الشيطان غضب الإنسان ويستفزه، فلا يعد له طاقة على تحمل الأذى والصبر عليه، بل ويدفعه إلى الانتقام أو معاقبة المخاطب. فالاستعاذة بالله وطلب العون منه عز وجل إزاء حيل الشيطان ووساوسه، هو توجيه مهم يحمي المربين والمخاطبين على حد سواء، ويمنع الإنسان من الانجراف وراء وساوس النفس والانحراف عن المعايير الأساسية للتربية والتعليم.
لا تكن سلبيًّا!
ورغم أن مبدأ “دفع السيئة بالحسنة” فعال ومهم للغاية في التربية والتعليم، إلا أن الإنسان لا يستطيع أحيانًا التغلب على نفسه وأنانيته، فلا يتمكن من التعامل وفق هذا المبدأ. وفي هذه الحالة ينبغي ألا ينجرف الآباء أو المعلمون وراء المشاعر العدائية، وأن يراعوا المعايير التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: “لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا“8.
ولذلك فإن المبدأ الرئيس في التربية والتعليم هو رد الحسنة بالحسنة؛ أما السيئة فلا تُدفع إلا بالحسنة. لكن، إن لم يتيسر تحقيق هذا المبدأ، فينبغي على الأقل تجنب ظلم المخاطب وتحري العدل في التعامل معه. ورغم أن القرآن يذكِّر بالعدل في هذه المسألة فإنه يشجعنا أيضًا على العفو والصفح ودفع السيئة بالحسنة، قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة الشُّورَى: 42/40)9.
وفي موضع آخر ينص القرآن الكريم صراحة على أن الصبر خير من المقابلة بالمثل، يقول تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/126).
النتيجة
إن استخدام مبدأ دفع السيئة بالحسنة في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة التي تحض على الخير والفضيلة يعتمد على بصيرة المربين وفراستهم وخبرتهم. وفي إطار هذه المبادئ العامة، ينبغي أن يحدد الآباء والمعلمون والمرشدون، مناهج ومبادئ عامة وفقًا لعمر مخاطبيهم ومستواهم وبنيتهم الشخصية. وفي حين يعتقد الآباء أو المعلمون أنه من الأنسب والمفيد تطبيق العقوبة على من يقترف سيئة، يمكنهم أيضًا فرض تلك العقوبة وفقًا لعمر المخاطب وما ارتكبه بشكلٍ عادل. وجدير بالذكر أن الأوامر والتوصيات الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، مثل العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة، تتعلق بالحقوق الشخصية، ولا يشمل هذا المبدأ الجرائم أو الانتهاكات التي تُرتكب ضد العامة.
Footnotes
- انظر: سورة المؤمنون، 23/96؛ سورة الرعد، 13/22؛ سورة القصص، 28/54.
- سنن الترمذي، البر، 69.
- انظر: سورة الزخرف، 43/89.
- انظر: تفسير القرطبي، سورة فصلت، تفسير الآية 34.
- انظر: تفسير القرطبي، سورة فصلت، تفسير الآية 34.
- انظر: تفسير ابن كثير، سورة فصلت، تفسير الآية 34.
- انظر: سورة المؤمنون، 23/97؛ سورة الأعراف، 7/199–200.
- سنن الترمذي، البر، 63.
- انظر: سورة البقرة، 2/194.