منهَجِيَّة السنة النبوية في مُوَاجهة الأَفكار الإِلحادية
بقلم: محمود الأزهري
التدين غريزة فطرية، فالسواد الأعظم من الناس كان متدينًا، ولا يزال السواد الأعظم من الناس متديِّنًا، وسيبقى السواد الأعظم من الناس متدينًا، إلا أنه لا يخلو جيل من هذه الأجيال من معطلين وملحدين، فكما يُخلق غالبيةُ الناس يبصرون ويسمعون وينطقون، فكذلك يتواجد فيهم العُمْي الذين لا يبصرون، والصم الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون. وهؤلاء الملاحدة بأنواعهم بلغوا الغاية من ارتكاس الفطرة، وانتكاس الفكرة، إلا أنهم خلف من سلف، وثمرة من بذرة أسلافهم الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿وَقَالُوا۟ مَا هِیَ إِلَّا حَیَاتُنَا ٱلدُّنۡیَا نَمُوتُ وَنَحۡیَا وَمَا یُهۡلِكُنَاۤ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]. لكن ما هو الإلحاد؟ ومن هم الملاحدة؟
الإلحاد وأنواعه:
الإلحاد في اللغة يعني: العدول والانحراف عن الطريق المستقيم، واصطلح على تعريفه بأنه إنكار وجود الله تعالى، فالملحدين هم المنكرون لوجود الله، إلا أنه من الظاهر أن الملحدين المتقدمين والمعاصرين ليسوا في درجة واحدة من الإنكار، فمنهم الملحد، واللاأدري، فالملحد Atheist: هو المنكر لوجود الله تعالى، سواء لاعتقاده الجازم باستحالة وجود خالق أو أن وجوده أمر ضعیف الاحتمال جدا، واللاأدري Agonistic: هو المتوقف في مسألة وجود الله، ويرى أن أدلة إثبات وجوده تتكافأ مع أدلة نفي وجوده، وبالتالي لا يمكن بلوغ حكم عقلي في هذه القضية، والربوبي Diest: هو المعتقد في وجود إله خالق، لكنه يرى أن هذا الإلة خلق الكون ثم تركه يعمل كالساعة الزنبركية التي أدير مفتاحها ثم تركت لتعمل وحدها دون توجيه ولا تدبیر، واللاديني Irreligious: هو المنكر للأديان عامة، وهو قد يكون ملحدا أو لاأدريا أو ربوبيا، وعلى النقيض منه الديني الذي يؤمن بدین منظم له كتاب موحی به وأركان للعقيدة وشعائر وعبادات ودور عبادة1.
وحينما ننظر إلى عموم الأحاديث النبوية الشريفة وما دلت عليه؛ نستطيع أن نستمد منها بعض المناهج والوسائل لوقايتنا وشبابنا من هذه الأفكار الإلحادية، فمن هذه الوسائل النبوية:
طلب الهداية والثبات عليها من الله:
فمن أعظم وسائل الوقاية من الإلحاد أن نعلم أن الهداية من الله تعالى، كما أخبرنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم}2، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه بطلب الهداية من الله، بل ويعلم صحابته أن يكثروا من قولهم: “اللهم اهدني في مَن هديت”3، وينشد مع أصحابه: “اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا”4، ويكثر في دعائه: “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”5. وهذا كله يدعونا لأمرين؛ الأول: أن لا نغتر بأنفسنا فنعرضها لشبهات الملحدين، مع الإكثار من الدعاء بالثبات على الإيمان، والثاني: أن نشفق على هؤلاء الملحدين، وندعو لهم بالتوبة والهداية، عسى الله أن يهديهم إليه فتكتب لهم النجاة.
البعد عن الشبهات والوقاية منها:
ومن وسائل الوقاية من الإلحاد البعد عن الشبهات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقرر أن: “كـل مولود يولد على الفطرة”6، وهذه الفطرة هي الإيمان بالله، وينبغي المحافظة على هذه الفطرة النقية من الشبهات والملوثات وبالأخص الفكرية منها، ولذلك كانت توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم الدائمة بالابتعاد عن الشبهات بشتى أنواعها، فيقرر أن: «من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»7.
فالخوض في هذه الشبهات الفكرية والاسترسال فيها قد يوقع الإنسان في المحذور، فلذلك أرشدنا النبي بالابتعاد عن ذلك، وإذا جالت هذه الأفكار بخاطر الإنسان؛ فما عليه إلا أن يقول آمنت بالله ورسوله، ويبتعد قدر الإمكان عن مجاراة هذه الأفكار الإلحادية، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يأتي فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، فيقول من خلق الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ ! فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله”8.، فإذا دخلت بعض هذه الأفكار والتساؤلات إلى ذهن الإنسان، ولم يستطع أن يصرفها، فهذا ينقلنا إلى وسيلة جديدة من الوسائل النبوية في مواجهة الأفكار الإلحادية.
الحث على السؤال:
أي تساؤلات عقدية أو فكرية لا يستطيع الإنسان أن يصرف فكره عنها ويتخلص منها؛ لا بد له أن يبحث عن إجابتها، ووجود مثل هذه الأسئلة في ذهن الإنسان ليس شيئا معيبا أو محرما، وقد وقع بعض الصحابة رضوان الله عليهم جميعا في ذلك، فعن أبي هريرة قال: «جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان”9، فلم يعنفهم صلى الله عليه وسلم، ولم يعتب عليهم، ولكن دلهم أن وجود بعض هذه الأفكار علامة من علامات الإيمان، لكن من الخطأ أن يترك الإنسان الشكوك والتساؤلات الفكرية دون البحث عن الإجابة عنها، لأنها من الممكن أن تكثر وتتحول إلى حقائق لدى الشخص فيصدقها ويسير في تيارها، وكان من الممكن تلافي ذلك لو أنه سأل المتخصصين عن هذه الأسئلة.
الحوار والإقناع:
المتخصصون والعلماء الذين يقومون بالإجابة عن هذه الأسئلة الموجودة في أذهان البعض؛ عليهم أن يستخدموا أساليب الحوار والإقناع. وللحوار أهمية بالغة في السنة النبوية، فهو أسلوب أصيل من أساليب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلم بارز في منهجه الرشيد، وله دوره الكبير في رد الأفكار الشاذة، وقد حفلت السنة النبوية بكثير من الحوارات التي ينبغي أن يسلكها الدعاة إلى الله مع مختلف أصناف المدعوين،كالملاحدة، أو من يحمل بعض أفكارهم.
ومن هذه الحوارات التي يتبين من خلالها أنه صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على الحوار حتى في أحلك الظروف: ما كان يوم الحديبية لما كتب الصلح ورأى بعض المسلمين فيه إجحافا، وقع حوار بين بعضهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، قال عمر بن الخطاب: «فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ…»10.
والناظر في هذا الحوار وغيره من حوارات النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه استخدم أساليب الإقناع المتعددة من حسن البيان، وضرب الأمثال وبتجييش العاطفة وكذلك بتقديم الدليل والبرهان، كحديث أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»11.
وهذا كله توجيه للعلماء والمتخصصين بمحاورة من يحمل بعض الأسئلة والشبهات الفكرية، واستخدام الأسلوب الأمثل في التعامل مع هؤلاء، حتى نحصل على النتيجة المرجوة، ونزيل من أذهانهم هذه الشبهات والأفكار الضالة.
تعزيز اليقين الإيماني:
من أهم الوسائل في صد الأفكار الإلحادية ومقاومتها هو تعزيز اليقين بالله تعالى في قلوب الناس وعقولهم، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم كان حريصا على غرس القيم الإيمانية في قلوب صحابته الكرام، واستخدم أساليب كثيرة من أجل تحقيق ذلك في قلوب المسلمين، فكان صلى الله عليه وسلم يحث صحابته على أن يسألوا الله -تعالى- اليقين؛ كما روى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “سلوا الله اليقين والمعافاة”12، ولما أرسل معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم: أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم…»13، فالإيمان بالله وتعزيزه في النفوس أولا، ثم تأتي العبادات الأخرى عقب ذلك.
ومما سبق يتبين لنا أن السنة النبوية قدمت لنا الوسائل الوقائية التي لو اتبعناها؛ لتكون لدينا سدا عاليا، وحصنا منيعا، يقينا وشبابنا من داء العصر الحديث، ألا وهو داء الإلحاد وإنكار وجود الرب -سبحانه وتعالى-.
Footnotes
- الإلحاد للمبتدئين، د هشام عزمي، ص14
- صحيح مسلم (8/ 17 ط التركية)
- سنن أبي داود (1/ 536 ط مع عون المعبود)
- صحيح البخاري (4/ 65 ط السلطانية)
- سنن الترمذي (4/ 448 ت شاكر)
- صحيح البخاري (2/ 100 ط السلطانية)
- صحيح مسلم (5/ 50 ط التركية)
- مسند أحمد (14/ 110 ط الرسالة)
- صحيح مسلم (1/ 83 ط التركية)
- صحيح البخاري (3/ 196 ط السلطانية)
- صحيح البخاري (6/ 109 ط السلطانية)
- مصنف ابن أبي شيبة (16/ 116 ت الشثري)
- صحيح البخاري (2/ 119 ط السلطانية)