مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحزانه

إن سبر أعماق أي إنسان صعب جدًّا، فالجوانب الأعماقية ليست سواء عند كل الناس، فالكلامُ عن الحالة النفسية لشخص ما -حتى ولو كان إنسانا عاديًّا- ليس بالأمر اليسير؛ لأن هذا الجانب موضوع ذاتي يختلف من شخص لآخر. فما بالك إذا كان الحديث عن العوالم الداخلية للنبي المصطفى (عليه أكمل التحايا) الذي هو معلّم جميع البشر ومرشدهم؛ لأن عالمه الداخلي صلى الله عله وسلم يتضمن أمثلة عالمية مثالية. فالذين حاولوا أن يقصّوه صلى الله عله وسلم علينا من الناحية الخَلقية والخلُقية يَلفتون أنظارنا إلى كونه ذا وجه طليق دائم الابتسام، وذا مسحة حزن خفيفة تغشى وجهه الكريم، ويركّزون على هذا الوصف. فكون المرء في آن واحد محزونا من ناحية ومتبسما من ناحية أخرى نعتقد أنه خاصّ بالرسول صلى الله عله وسلم. فحزنه عليه السلام حزن محبَّب، كما أنّ ابتسامه ابتسام وقور، وهذا يدل على صعوبة الكلام عن حياته صلى الله عليه وسلم الروحية والمعنوية.
ومن هنا عندما نلقي نظرة على ما أُلّف عن رسول الله صلى الله عله وسلم نجد الكتب التي تتحدث عن عالمه الداخلي هي قلة قليلة جدًّا. ويؤيد قولنا هذا -ولو من جهة أسماء الكتب- كتاب صلاح الدين المنجِّد المسمى بـ”معجم ما أُلّف عن رسول الله صلى الله عله وسلم”.(1)[nota]صلاح الدين المنجِّد في كتابه “معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عله وسلم ” يذكر اسم كتابَين في هذا المجال وهما: “روحانية الرسول صلى الله عله وسلم ” لمحمد الغزالي، بيروت؛ و”حياة محمد” لعليّ عبد الجليل، القاهرة 1964م.[/nota]
نريد أن نتحدث في مقالنا هذا عن موضوع لم نر في الكتاب المذكور آنفا اسم أي بحث عنه، وهو “حزن النبي صلى الله عله وسلم “. ففي الكتب المشهورة حول سيرته صلى الله عله وسلم من أمثال “الشّفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض، و”زاد المعاد” لابن القيم، و”المواهب اللدنية” للباجوري، لم نعثر على موضوع تحت عنوان “حزن النبي صلى الله عله وسلم”. ولكن من البديهي أن المواضيع والأحداث التي تسبّبت في حزنه صلى الله عله وسلم، هي في غاية الأهمية من حيث كونها تنمّ عن حياته الوجدانية والروحية.
العبد الأسوة والنبي الخاتم محمد صلى الله عله وسلم في حزنه وألَمه أيضا هو أسوة لأمته والإنسانية جمعاء. فهو الأنموذج المثالي الذي يمثل القمة العليا في كافة الأعمال الفاضلة التي تناسب طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها. ومن ثم فهو قدوة في عواطف الحزن والألم كذلك، وهي من الجوانب الفطرية للإنسان. وهل التربية سوى تهذيب العواطف والسلوكيات!..
فحزنه صلى الله عله وسلم من حيث كونه قُدوة للأمّة، ورسولاً للهداية، ومرشداً، ومعلمًا، ومُصلحًا، ورئيسًا للدولة، يختلف تمامًا من حيث العمق والمستوى عن حزنه وتألمه كإنسان، كأب،كصديق،كزوج..إلخ. ولكن من الصعب جدّا تمييز هذه الحالات عن بعضها أثناء كل حادثة؛ ولذلك حاولنا تقديم الموضوع ككلّ ولم ننهج طريقة تقسيم حالاته المذكورة من حيث “كونه بشرا” و”كونه رسولا”، وإن بدا التقسيم الموضوعي أكثر منطقيا. فعلى هذا سنقدم باقة من حياته صلى الله عله وسلم التي تشكّل مثالا ومقياسا في حزن المؤمن وألمه.
بادئ ذي بدء نريد أن نلفت الأنظار إلى قاعدة وهي أن الأنبياء عليهم السلام لا يرفعون آلامهم وأحزانهم إلا إلى الله تعالى. وقد سجل هذا وأعلن على لسان يعقوب صلى الله عله وسلم في القرآن الكريم: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ (يوسف:86). أما نبيّ الحزن صلى الله عله وسلم فقد شكا حزنه أثناء عودته من الطائف إلى ربه قائلا: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضَب فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنـزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.”(2) ورفعُ النبي صلى الله عله وسلم أحزانَه إلى الله تعالى ليست خاصة بحادثة، بل هي عادة جارية في كل أموره.
ونلاحظ الصّادق المَصدوق صلى الله عله وسلم يعبر عن مدى اطمئنان قلبه أثناء الهجرة في غار ثور عندما يهدّئ رَوع صاحبه أبي بكر ويخفف من وطأة حزنه قائلا: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التوبة:40). فكونه في منتهى الثقة والاطمئنان في تلك اللحظة المرعبة وطمأنته لصديقه الصدّيق ما هي إلا ترجمة فعلية منه صلى الله عله وسلم بلسان القال والحال لقول الله تعالى ﴿وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة:67). إن حزنه وقلقه في ذلك الموقف العصيب لم يكن بسبب ما يمكن أن يتعرض له من أذى أبدا، إن حزنه كان أوسع وأضخم من ذلك بكثير، إنه حزن عظيم يحتضن أمته والناس أجمعين. وقول الله صلى الله عله وسلم ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ (التوبة:128) يدل على صحة هذا المعنى.
أما شفقته وحنانه ورأفته، ورغبته وحرصه على اهتداء الناس إلى الطريق القويم كان يقض مضجعه ولا يدعه يتذوق حلاوة النوم، وقَول الله تعالى ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:3) أفضل ما يعبر عن هذا المعنى. فذات مرة جاء المشركون إلى سيد الأنام صلى الله عله وسلم وسألوه عن بعض الأمور، فقال لهم رسول الله صلى الله عله وسلم: “أُخبرُكم بما سألتم عنه غدا”، ولم يستثن، فانصرفوا عنه. فمكث صلى الله عله وسلم -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة لا ينـزل الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل. فحزن سيد الأوّابين صلى الله عله وسلم لانقطاع الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله صلى الله عله وسلم بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطوّاف، والروح.(3) وقوله تعالى ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (الكهف:6) يدل على حالته صلى الله عله وسلم الروحية أثناء هذه الأحداث. فهذه الآيات تدل على مدى استشعاره -كرسول الهداية- بالآلام، وضخامة حزنه من أجل إنقاذ البشرية. ونعتقد أن “حزن النبي صلى الله عله وسلم ” هو متمركز في هذه النقطة؛ وأن محور حزنه صلى الله عله وسلم هو الإيمان، ومركزه الهداية: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (لقمان:23)… فهذه الآية دليل قرآني على هذه الحقيقة، فحزنه صلى الله عله وسلم كان ساميا وفريدا من نوعه.
ومن ناحية أخرى لم يكن سيد الأنام صلى الله عله وسلم ملاكًا، فمِن الطبيعي أن تَظهر عليه بعضُ الحالات المتوقّعة من البشر. ولكنه عاش حياة نموذجية ومثالية للغاية على مستوى عالميٍّ بدَت معالمها وانعكاساتها على عواطفه وأحاسيسه بنفس المستوى وبمنتهى الاتزان.
إن دعوة لم تتغذ بالأحزان ولم تتقلب بالهم والآلام لن تثمر أبدا. إن الدعوة إذا فشلت في مخاطبة عواطف الإنسان السامية وإثارة مكامن الحزن المقدس، فلن تكون دعوة الإنسانية جمعاء، ولن يكون أصحابها دعاة حقيقيين.
يروي لنا القاضي عياض (544هـ/1149م) رحمه الله في كتابه “الشفا” عن علي صلى الله عله وسلم، أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عله وسلم عن سنّته، فقال: “المعرفة رأسمالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنـزي، والحزن رفيقي”.(4)
والذين يصفونه صلى الله عله وسلم يركّزون على حزنه المتواصل وديمومة فكرته، قال ابن أبي هالة: كان رسول الله صلى الله عله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة…(5) ذكر هؤلاء “الحزنَ” و”الفكرة” معًا يعني أنه صلى الله عله وسلم قد جمع بين المشاعر السامية والتفكر. فسَيّد البشَر صلى الله عله وسلم كان يُظهر فرحه بابتسامة؛ أما إظهار حُزنه أحيانا فكان بإهراقه الدموع الساخنة، وأحيانا بتكراره عبارة أكثر من مرة، وأحيانًا -ولو بنَدرة- بالدعاء على مَن أحزنوه؛ لأن الدموع إن كانت نوعا من إظهار الحزن، فالدعاء على المتسبّبين للحزن هو طريق آخر لإظهار الحزن.

1 –كونه صلى الله عله وسلم صَديقا وقريبا

من ناحية أخرى ما حزن رسول الله صلى الله عله وسلم حزنا يسئمه من الحياة، ولكن فقدان أحبائه قد أحزنه مثلما يحزن أي إنسان. فالعام الذي توفيت فيه زوجته خديجة رضي الله عنها، وعمه وحاميه أبو طالب كان “عام الحزن” لجميع المسلمين وعلى رأسهم النبي صلى الله عله وسلم.
ويوم استشهد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ذهب النبي صلى الله عله وسلم إلى بيت جعفر وضمّ أولاده إلى صدره، ومسح رأسهم بشفقة وبكي. فعَن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عله وسلم، أنها قالت: “لمّا أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عله وسلم الحزن.”(6)
ولما أصيب زيد بن حارثة في معركة “مؤتة”، أتاهم النبي صلى الله عله وسلم، فجهشت بنت زيد، أي تحركت وهمّت بالبكاء في وجه رسول الله صلى الله عله وسلم فبكى رسول الله صلى الله عله وسلم حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا! قال: “هذا شوق الحبيب إلى حبيبه”(7).

2 –كونه صلى الله عله وسلم مهاجرًا

فقد اضطر مَفخرة الإنسانية صلى الله عله وسلم إلى الهجرة من مكة تحت ضغط المشركين. وفي أثناء الهجرة اتجه نحو مكة واقفا على الحزورة، فقال: “ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”.(8)
إذا كانت مشاعر الحزن المؤلمة تغمر جوانح الإنسان –لا محالة- لدى فراقه لمنزله أو قريته أو مدينته بإرادته، فما بالك إذا كان هذا الفراق بسبب الاضطهاد والإبعاد، وإذا كان هذا الشخص رسول الله صلى الله عله وسلم. فهو بكلماته المؤثرة عبر عن أحاسيسه نحو كعبة التوحيد في إطار بشري طبيعي مشيرا إلى مصدر حزنه صلى الله عله وسلم الحقيقي.

3 –كونه صلى الله عله وسلم أبًا

النبي صلى الله عله وسلم قد حزن على ولده إبراهيم وحفيده من زَينب أثناء وفاتهما، وعبّر عن مدى حزنه بسكب عبراته الشريفة. فلنتابع معًا الرواية في هذا الصدد:
عن أنس بن مالك صلى الله عله وسلم قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عله وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرا لإبراهيم صلى الله عله وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عله وسلم إبراهيم فقبّله وشمّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفَسه، فجَعلت عينا رسول الله صلى الله عله وسلم تَذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: “يا ابن عوف، إنها رحمة”. ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عله وسلم: “إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون”(9) وبقوله الشريف هذا عبّر عن عمق تأثر مشاعره بموت ولده.
فشَرَف نوع الإنسان صلى الله عله وسلم -بلا شك- كان يفصح عن أسمى وأمجد أحاسيس حزنه نحو ابنه. وقد أظهر لنا كيفية تصرف المسلم المثالي حيال تلك الظروف، وأثبت صلى الله عله وسلم أن البكاء ودمع العين وحزن القلب لا يخالف شأن الرجولة، وأن الصراخ وتمزيق الملابس وشق الجيب وراء الميت ليس من شأن المسلم ولا يليق به.

4 –كونه صلى الله عله وسلم زوجًا أو ربَّ أسرة

النبي صلى الله عله وسلم كزوج عاش أحزانا كثيرة… عاش حزنا بفقدان أُمّنا خديجة رضي الله عنها وذكرياتها حيّة في ذهنه دائما.. وعانق الحزن بافتراء المنافقين على أُمّنا عائشة الطاهرة رضي الله عنها في حادثة “الإفك”.. وتجرّع الحزن بالابتعاد عن أزواجه تسعة وعشرين يوما في حادثة “الإيلاء”. وفي جميع هذه الحالات عانى الرسول كزوج وربّ أسرة من أحزان عميقة بأبعادها المختلفة، حتى إن الحزن الذي كابده أدّى به أحيانا إلى المقاطعة والتَّرك.
5 -كونه صلى الله عله وسلم قائدًا وإمامًا
لمّا جاء رسولَ الله صلى الله عله وسلم خبَرُ بئر معونة وقتل سبعون من صحابته الكرام ظهر حزنه صلى الله عله وسلم بالدّعاء عَلَى قَتَلَتِهم قائلاً: “اللهم اشْدُد وَطْأتَك على مُضَر، وَاجعَلها عَليهم سِنِينَ كَسِنِى يُوسُف، اللهم عليك ببني لِحيَان وعضل والقارة وزغب ورعل وذكوان وعصية فإنهم عصوا الله ورسوله”(10) فعندما يصف لنا أنَس بن مالك صلى الله عله وسلم حالة النبي صلى الله عله وسلم آنذاك يقول: “ما رأيت رسول الله صلى الله عله وسلم وجد على شيء قط ما وجد على أصحاب بئر معونة”.(11)
فدُعاء النبيّ المرسل رحمةً للعالمين صلى الله عله وسلم على مضر من أجل شدة حزنه، له معان خاصة جدّا؛ لأن منع تبليغ الإسلام وقتل العلماء بنصب كمين لرجال الإرشاد والعلم الساعين في نشر الدين الإسلامي قد دفع الرسول صلى الله عله وسلم إلى حزن بالغ. وبدعائه صلى الله عله وسلم على المجرمين طوال شهر بالهلاك، كان يعلن هذه الجريمة الشنيعة إلى كل العالم بأسلوب بليغ. ونعتقد أن هذا الدعاء النبوي بالهلاك، في الآن نفسه موجَّه إلى من يقف ضد تبليغ الإسلام ودعاته وفي جميع الأزمنة.

6 –أسباب أخرى لحزن النبي صلى الله عله وسلم

نرى نبي الحزن صلى الله عله وسلم قد حزن من تصرفات بعض أصحابه خاصة وأمته عامة، وقام بالإفصاح عن حزنه لمن حوله. وفيما يلي سرد لبعض الأمثلة.
أ-التباطؤ في الامتثال لأوامره صلى الله عله وسلم
لما واثق رسول الله صلى الله عله وسلم المشركين في الحديبية عام الحديبية وحال كفار قريش دون البيت، أمَر رسول الله صلى الله عله وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ولكن ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد -لأن بعضهم كان قد استثقل بعض موادّ الصلح، وبعضهم لا يزال يأمل في العمرة- قام فدخل على أمّ سلمة رضي الله عنها فذكر ذلك لها. فقالت أمّ سلمة: “يا نبي الله! اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حلاقك فتحلق”. فقام فخرج فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، ففعلوا ولكن بعد توقف منهم كان قد أغضب رسول الله صلى الله عله وسلم. وفي رواية عندما أمرهم، حلَق رجالٌ وقصر آخرون؛ فقال رسول الله صلى الله عله وسلم: “يرحم الله المحلقين”، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: “يرحم الله المحلقين”، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: “يرحم الله المحلقين”، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: “والمقصرين”، فقالوا: يا رسول الله فلِمَ ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: “لم يشكُّوا”.(12)
بـ-الجهالة
ففي مقدمة الأمور التي دفعت الرسول إلى الحزن وجعلته يغضب ويتأذّى، هو مسارعة بعض المسلمين بإبداء آرائهم من دون روية -كما ينبغي- في بعض الأمور وتسبُّبهم في أخطاء. والحادثة التالية موضّحة لهذا الأمر بأحسن صورة. عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ فشجَّه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابَه فقال: “هل تجدون لي رخصةً في التيمم؟” فقالوا: “ما نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء”. فاغتسل فمات. فلما قدِمنا على النبي صلى الله عله وسلم أُخبر بذلك فقال: “قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإِنما شفاء العِيِّ السُّؤالُ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر على جرحه خرقةً، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده”.(13)
فإظهار الرسول صلى الله عله وسلم مدى حزنه بهذه الطريقة، وتفسيره للحادثة بهذا الشكل، والدعاء على من أفتى بقوله “قتلوه قتلهم الله”، هو تهديد وتأنيب لمن يُفتي في أمور الدين دون الاطلاع على حقيقة الأمر. فقول الرسول صلى الله عله وسلم المذكور يدل من ناحية على عمق حزنه وتأثّره بالحادثة، ومن ناحية أخرى هو تنبيه وتحذير لمن سيكون في وضع من يُفتي بغَير عِلم. فليتنبه الذين يُبدون آراءهم ويقولون في أيامنا هذه في الأمور الدينية بغير علم، دون أن يكون لهم نصيب من العلم في أمور الدين، ودون الخوف من الإفتاء فيما يجهلون حكمه.
جـ-الغِلظة
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثَنا رسول الله صلى الله عله وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم: فلما غشيناه قال: “لا إله إلا الله”، فكفّ الأنصاريُّ عنه، فطعَنتُه برمْحي حتى قتلتُه، فلما قدمنا بلغ النبيَّ صلى الله عله وسلم فقال: “يا أسامة! أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلا الله”. قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها، حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم”.(14)
فهذه الحادثة مختلفة عن السابقة من ناحية. فالتصرُّف في تطبيق الموضوعات الدينية ثم القضاء على حياة مسلم كما دفع الرسول صلى الله عله وسلم إلى الحزن، كذلك محاولة تفسير الدين من وجهة قناعات شخصية وصبّها في هذا القالب أحزنه صلى الله عله وسلم أيضا. أما سلوك الرسول صلى الله عله وسلم بهذه الطريقة نحو الحادثة المذكورة للتركيز على أن أحوج ما تحتاجه المسائل والأوضاع من اعتدال وتبجيل وتطبيق على بصيرة هو أثناء القيام بأداء الوظيفة الدينية، وأن العلاقات بين المسلمين لا بد أن تجري وفق الروح الإسلامي، وعكس هذا هو سببٌ في “الحزن”.
د-الإفراط والتفريط
ومن الأسباب التي أحزنته صلى الله عله وسلم وأغضبته هي الابتعاد عن خط الاعتدال في اتباع السنة النبوية من خلال ابتداع مبررات لا أساس لها. فتنبيه الرسول المجتبى صلى الله عله وسلم في هذا الموضوع كان جادّا وذا أبعاد مهدِّدة. عن مَسرُوقٍ أن أُمنا عائشة رضي الله عنها قالتْ: صَنعَ النبيُّ صلى الله عله وسلم شيئاً فرَخَّص فيه فتَنَزَّه عنه قَومٌ فبَلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عله وسلم فخَطَب فحَمِدَ اللهَ ثم قال: “ما بَالُ أَقوامٍ يَتنَزَّهون عن الشيء أَصنَعُه، فوَاللهِ إنّي لأَعلَمهُم بالله وأَشَدُّهم له خَشيةً”(15) وهناك مثال آخر في هذا الموضوع يمكن ذكره في هذا الصدد: عن أنَسَ بن مالك صلى الله عله وسلم يقول: جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بُيوت أزواج النبيِّ صلى الله عله وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عله وسلم، فلمّا أُخبِرُوا، كأنّهم تَقَالُّوهَا، فقالوا “وأين نحن من النبي صلى الله عله وسلم قد غُفر له ما تَقدّم مِن ذَنبه وما تأَخّر.” قال أحدُهم “أمّا أنا فإنّي أُصَلِّي الليلَ أبداً”، وقال آخَرُ “أنا أصُومُ الدّهرَ ولا أُفطِرُ”، وقال آخَرُ “أنا أَعْتَزِلُ النساءَ فلا أَتَزوَّجُ أبداً”. فجاء رسولُ الله صلى الله عله وسلم فقال: “أنتم الذِين قلتم كذا وكذا، أَمَا والله إنّي لأَخشاكم للهِ وأَتقاكم له، لكنّي أَصُومُ وأُفطِرُ، وأُصلّي وأَرقُدُ وأَتَزوَّجُ النّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنّتِي فلَيس مِنِّي”.(16) فمثل هذا التهديد والتنبيه هو عبارة عن حزن ذي أبعاد غاضبة.
هـ- الحزن بسبب التفرقة والاختلاف
فكل تصرف يؤدي إلى تفرقة الأمة وفِقدان وحدتها كان يغمر الرسول صلى الله عله وسلم في حزن عميق. وأكبر دليل على هذا هو ما قاله لمسلمَين يشتجران ويدعو كل منهما عشيرته ليعينه. ونعتقد أن الأمة الإسلامية الممزَّقة اليوم إلى آلاف قطع سبب حزن له صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى.
حزن عظماء الرجال يتناسب مع قدرهم فيكون كبيرًا وعميقًا. أما حزن سيد السادات صلى الله عله وسلم فهو أعظم حزن وأسماه دون شكّ. فسيّد الأنبياء صلى الله عله وسلم كما هو فريد في شمولية نبوته، كذلك هو متفرد في عمومية حزنه، بحيث يغمر جميع الكائنات ويشمل الناس أجمعين. فالرسول صلى الله عله وسلم أسوة حسنة في ضبط وموازنة جميع تصرفات المسلمين وسلوكهم ومعاملاتهم. كذلك هو قدوة في عمق الحزن ومصدره وغايته.


كاتب المقال: إسماعيل لطفي جقان/ الترجمة عن التركية: أشرف أونن

منقول من مجلة حراء

———————–
الهوامش
(1) صلاح الدين المنجِّد في كتابه “معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عله وسلم ” يذكر اسم كتابَين في هذا المجال وهما: “روحانية الرسول صلى الله عله وسلم ” لمحمد الغزالي، بيروت؛ و”حياة محمد” لعليّ عبد الجليل، القاهرة 1964م.
(2) السيرة النبوية لابن هشام، 2/61-62.
(3) السيرة النبوية لابن هشام، 1/322-323.
(4) الشفا للقاضي عياض، 1/288-289.
(5) الشفا للقاضي عياض، 1/288-289.
(6) السيرة النبوية لابن هشام، 4/22-23.
(7) الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/47.
(8) الترمذي، المناقب 69.
(9) البخاري، الجنائز 43؛ مسلم، الفضائل 63.
(10) البخاري، الأذان 128؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/53.
(11) المسند للإمام أحمد، 3/137؛ الطبقات الكبرى لابن سعد، 2/54.
(12) السيرة النبوية لابن هشام، 3/334.
(13) أبو داود، الطهارة 125؛ ابن ماجه، الطهارة 93.
(14) البخاري، المغازي 45، الديات 2.
(15) البخاري، الأدب 72.
(16) انظر إلى: البخاري، النكاح 1؛ مسلم، النكاح 5.

قد يعجبك ايضا