محاولات التلاعب بالأذهان وتشويه الحقائق في عصر السعادة النبوي
بقلم: يوجَل مان
عندما ابتعدت المجتمعات عن التوحيد، وانغمست في الشرك والإنكار، وتجاوزت الحد في الفسق والظلم، ونَسيت الحلال، وسقطت بين براثن الحرام، أُرسل الأنبياء لإنذارهم وإصلاح أمرهم. إلا أن أولئك الذين أنشؤوا هذا النظام الفاسد وأداروه، واستغلوا هذا الوضع المجتمعي فجنوا من ورائه المصالح الشخصية والمناصب؛ انزعجوا من مفاهيم التوحيد والنبوة والأخلاق والعدالة والآخرة التي جاء بها الأنبياء الكرام، حتى إنهم اعتبروا النبوة منذ اليوم الأول تهديدًا كبيرًا وخطرًا جليًّا على مصالحهم السياسية ومستقبلهم.
كانت مكة على سبيل المثال قلب الجاهلية وعبادة الأصنام بين القبائل العربية، وكان رؤساء الشرك فيها عازمين على منع نور الله من الانتشار بل حتى إخماده بسبب القيم الدينية ومفهوم الحياة والعدالة الاجتماعية التي أتى بها الإسلام. وتدريجيًّا وبنبرة تزداد شدةً بمرور الوقت مارسوا ضغوطات قاسيةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلة القليلة ممن حوله من المسلمين، ولجؤوا إلى شتى ألوان الظلم والأذى حتى يردوهم عن دينهم. وفي الوقت ذاته حاولوا تهيئة جو من الخوف والرعب لمنع الناس من مجرد الميل للإسلام.
لقد جربوا شتى السبل للتحكم في تصورات الناس وأفكارهم، وتوجيههم إلى الاتجاه الذي يريدونه، وإبعادهم عن دائرة الإسلام وتحريضهم ضده. ومن بين هذه السبل خداع الناس، وتزييف الحقائق، وتصدير صورة سلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ ثم التلاعب بالعقول من خلال التدخل في مجريات الأحداث بالمعلومات والتفسيرات الخاطئة، والتزييف والخداع، والتصريحات الكاذبة. وقد لجأ كثيرًا إلى نفس هذا المنهج بعد الهجرة المنافقون وبعض الأفراد من قبائل أهل الكتاب.
الإيقاع بين الناس
على الرغم من الظروف القاسية في مكة، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصل الإسلام إلى كل فرد من الناس، وأصبح عدد من استجابوا لدعوته يزداد يومًا بعد يوم. ومن ثم صارت ردة فعل رؤوس الشرك وصناديد قريش أشد قسوة على المسلمين؛ فقاموا لإعادتهم إلى الشرك باعتقالهم وتعذيبهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم وحرياتهم، وعزلهم من الحياة الاجتماعية. ولقد فعلوا هذا بشكل واعٍ، فنفذوا ما يريدون على يد أهل وأقارب الشخص المعني1. فمثلًا تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم للضغط والأذى من عمه وزوج عمه وأبناء عمومته، كما تعرض كل من الزبير وعثمان لأذى عمَّيهما، كما تعرض مصعب للضغط من والدته وتعذيبه وسجنه…
فلما كان الوضع هكذا صار إسلام المرء سببًا في ظهور التوترات والشقاق داخل الأسرة. كانت الروابط الأسرية والقبلية قوية للغاية في مكة فاستغل المشركون هذا الوضع لإثارة الكراهية ضد الإسلام، ولترهيب الناس والتلاعب بهم. فقاموا بحملة تشويهية على جميع الأصعدة يروِّجون فيها “إنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته”2.
بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمح بقطع سبل التواصل والحوار مع الأقرباء، ولم يقابل أفعالهم بمثلها، حتى إنه قد أذن لمن أسلموا أن يخفوا إسلامهم تجنبًا للتوتر. وقد أوصى أصحابه أن يعاملوا أهلهم وأقرباءهم بالحسنى، وأن يحسنوا إليهم رغم كل شرورهم. ولقد آتت محاولات التلاعب هذه التي اضطلع بها أهل مكة بين القبائل العربية وفي الحبشة أكلها فأصبح أول من يتصدى لمن يفكر في الإسلام هم أهلهم وأقرباؤهم. وعلى الرغم من كل هذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمحافظة على صلة الرحم، إلى جانب الصبر والعفو والصفح، ولم يسمح بالمعاملات والعلاقات السيئة التي تبرر وتؤكد صحة ما يشيعه المشركون.
قالوا: ساحر!
بعث الحق تعالى الأنبياء بمفردهم إلى أكثر الحكام استبدادًا وأكثر القبائل شراسةً وطغيانًا، ومكّنهم من إظهار المعجزات عند اللزوم. وقد أظهر الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم العديد من المعجزات من وقت لآخر لأسباب مختلفة. فكان صناديد الشرك إذا ما رأوا معجزةً أو سمعوا بها عملوا على التلاعب بالأذهان عن طريق الخطابات المنافية للحقيقة، وتشويه الواقعة بالأكاذيب من أجل تخليص أنفسهم والناس من تأثير المعجزة النبوية3.
بدايةً كان القرآن الكريم الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة قائمة بذاتها في العلم والحكمة والبلاغة والبيان. فمن سمعه كان يتأثر به حتى رؤوس الشرك أنفسهم. فلقبوه صلى الله عليه وسلم بالساحر، ووصفوا آيات القرآن بأنها كلمات سحرية ليحولوا دون جذب التأثير القرآني الناسَ إلى الإسلام، وهكذا أرادوا التلاعب بعقول الناس، وقلب تصوراتهم ضد الإسلام. فإذا ما رأوا معجزةً قالوا: “الحق أننا لم نر سحرًا مثل هذا من قبل”. محاولين بذلك تشويه الحقيقة، وإحباط مساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
ولقد أبلغ القرآن الكريم بداية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء الآخرين تعرضوا أيضًا لهجمات مماثلة، مسريّا بذلك عنه. فعمل صلى الله عليه وسلم بحكمته وأفعاله وأطواره وعلاقاته الطيبة الصادقة وحياته المتوازنة ومواقفه الراسخة السليمة على محو هذه الانحرافات والتخلص منها بمرور الوقت، وركز على مهمته، واستمر في طريقه.
قالوا: إنه يستحل القتال في الأشهر الحرم!
لقد استمرت ألاعيب أهل مكَّة حتى بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة. فلم يفكروا قط في أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جيرانه في استقرار وهدوء؛ وأرادوا استغلال جميع الوقائع للسيطرة من خلالها على عقول العرب. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل عبد الله بن جحش إلى نخلة وهي بين مكة والطائف في السنة الثانية من الهجرة. وكانت مهمة الخارجين في هذه السرية هي مراقبة التحركات في المنطقة وجمع المعلومات الاستخبارية5. فلما وصلوا نخلة مرَّت بهم عير لقريش؛ فترددوا في الاشتباك معهم أم لا. فإنهم غير متأكدين أنه اليوم الأخير من شهر رجب أو اليوم الأول من شعبان؛ لأن رجب كان من الأشهر التي يحرم فيها إراقة الدماء.
وفي النهاية قرروا الاشتباك مع عير قريش؛ فقتلوا مشركًا، وأسروا اثنين منهم، وأخذوا ما في العير من متاع وعادوا إلى المدينة. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيعهم قال لهم: “ما أَمرتُكم بقتالٍ في الشهرِ الحرامِ” 6، ولم يمس شيئًا مما جاؤوا به، فلقد أرسلهم للاستطلاع وجمع المعلومات فحسب، وقد عاتبهم إخوانهم أيضًا على ذلك؛ حتى أدركت السرية الخطأ الجسيم الذي وقعوا فيه عندما اجتهدوا وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن الأوان قد فات.
كان هذا الموقف بمثابة لطف كبير للمكيين الذين يحاولون أن يخسفوا باعتبار المسلمين الأرض أمام القبائل العربية! وعلى الفور ودون أن يتحققوا من أصل المسألة بدؤوا في التلاعب بأذهان الناس قائلين: “قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال” محاولين بذلك إدانة الموقف، وبث شعور الكره والنفور في شبه الجزيرة ضد المسلمين. كما قام بعض يهود المدينة بتكهنات وتفسيرات حول الحادث لزيادة تشويش أذهان الناس وإرباكهم. فلما أكثر الناس في لغوهم حول هذا العمل الذي وقع مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاض الجميع فيه؛ تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا لدرجة أن الله تعالى أنزل حُكمًا إلهيًّا يخص هذه المسألة 7: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/217).
قالوا: من آمن به مات!
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعاد إليها الأمن والأمان في وقت قصير، وبدأ تدريجيًّا في وضع أسس حضارته. فانتهى في شوال الشهر الثامن من الهجرة من بناء المسجد النبوي، وحجرات زوجاته الطاهرات. خلال هذه الفترة وقع حدثان يفيضان بالحزن والأسى؛ أولهما: وفاة كلثوم بن الهدم الذي استضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعددًا من الصحابة في داره أيامًا عديدة بعد الهجرة، وثانيهما وفاة أسعد بن زرارة في سن صغيرة وهو نقيب بني النجار وهو من فتح باب المدينة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ولقد أحزن كلا الحدثين المسلمين بشدة.
إن الموت غير مقيد بسن محددة، وإنما هو قدر كل الأحياء، إلا أن المنافقين وبعض طوائف اليهود، الذين أزعجتهم التطورات في المدينة المنورة، قرروا استغلال هذه الحادثة لاستنزاف مساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: “لو كان نبيًّا حقًّا لم يمت صاحبه” 8، محاولين تشويه هذا الوضع الطبيعي بالتلاعب بالناس الذين لا يعرفون الكثير عن النبوة وتشويش عقولهم.
قالوا: من يؤمن به يصبح عقيمًا!
لم تُرزق أي عائلة من عائلات المهاجرين بمولود بعد الهجرة بمدة، ومع أن هذا أمر طبيعي إلا أن المجموعات التي لم تستطع قبول الإسلام بحال من الأحوال استخدمت حتى أكثر الحالات الطبيعية لإضعاف الروح المعنوية للمسلمين وتثبيط هممهم، فأخذوا يلوكونها بألسنتهم ويستغلونها في إقصاء الناس وتنفيرهم من الإسلام. فكان المنافقون يسخرون من المهاجرين، واليهود يزعمون أنهم قد سحروا المسلمين ولن ينجبوا أبدًا. وأخذوا يتداولون هذه الأقاويل يمنة ويسرة، مما أحزن الصحابة رضوان الله عليهم كثيرًا. إلى أن رزق الزبير بن العوام والسيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بمولود ذكر. فبعث هذا الميلادُ الفرحةَ في نفوس المسلمين الذين تأثروا بهذه الشائعات. وحبطت حيل أولئك الذين أرادوا التلاعب بالناس بهذا الزعم التافه الوضيع9.
قالوا: إنه يهزم في الحروب!
تحرك مشركو مكة إلى أحُد يحملهم البغض والحقد الدفين على المسلمين للثأر لقتلاهم في بدر؛ وقد حقق المسلمون انتصارًا بينًا في المرحلة الأولى من القتال، ولكن ما إن تخلى الرماة عن مواقعهم على جبل عينين دون إذن حتى أصبح المسلمون بين نارين، ووقعت بينهم إصابات بالغة. وكالعادة لم يضيِّع المنافقون واليهود الذين يتحينون كل فرصة دائمًا للإيقاع بالمسلمين ما حدث في أحُد. فقال أشراف اليهود: “لو كان نبيًّا ما ظهروا عليه، ولا أصيب منه ما أصيب، ولكنه طالب مُلك”10. مستغلين هذا الحادث للتلاعب بالعقول.
إن أقوالهم بداية لا تنسجم مع الواقع التاريخي والبشري، فقد قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/140) مخبرًا بأن المؤمنين سيخضعون أيضًا لمثل هذه الاختبارات. كذلك لم يعط رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه ضمانًا بالنصر قائلًا: “اطمئنوا! إني نبي وإنَّا منتصرون لا محالة”، بل على العكس، قد اتخذ قرابة ثلاثين إجراءً احترازيًّا لتحقيق النصر، ولكن عندما خُولفَت أحد هذه الإجراءات، انقلب الأمر على المسلمين. إنهم يعلمون هذا، غير أنها بالنسبة لهم فرصة ثمينة لتشويه الحقائق واستغلالها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لم يرتدع المنافقون عن قول هذا أيضا، واضطلعوا بمحاولات خبيثة لهدم معنويات المسلمين قائلين لهم: “لو أطعتمونا ما نزلت بكم هذه المصيبة!”10. وقاموا بداية بمخالفة القرار الذي اتُّفِق عليه بالإجماع، وردّوا ثلث الجيش في منتصف الطريق لهدم معنويات المسلمين. علاوة على أن المسلمين قد خسروا هذه المعركة التي تحقق النصر لهم في بدايتها بسبب عدم التزام الجنود الموجودين بالأعلى على جبل الرماة، وعدم استيعابهم حساسية إطاعة الأمر الذي وُجِّه إليهم.
ولقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلا الفريقين بحشد جنوده وخروجه في إثر المشركين ولمّا يمرّ يومٌ واحدٌ على ما حدث، مما أوقعهم مرة ثانية في خيبة أمل كبيرة. وبذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغل باله بما وقع بالأمس برسالة تعبر عن ثقته الكبيرة بجيشه وثقة جيشه الكبيرة به حتى النهاية، وأن الأمر قد انتهى في أحد، ولا داعي للانشغال به فيما بعد.
قالوا: يفعل ذلك رياءً!
في السنة التاسعة للهجرة، ظهر خطر جديد يهدد الحقوق والحريات الأولية للمسلمين؛ فقد بلغ المسلمين أن الروم تستعد لمهاجمة المدينة المنورة بتحريض من الغساسنة. فأصبح من الضروري التحرك السريع للقضاء على هذا الخطر قبل أن يتفاقم أمره. بيد أن المسلمين كانوا يعانون وقتئذ من أزمة مالية كبيرة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل تعبئة للمساعدة في النفقات الضرورية من أجل تجهيز الجيش بالمعدات واستكمال احتياجات الجنود، فكان كل شخص يتبرع بما يملك كل حسب قدرته. فأنفق بعضهم كل ماله، وبعضهم نصفه، والبعض الآخر ثلثه… في سبيل الله، وابتغاء لمرضاة الله.
فأزعجت هذه التضحية وهذا التضامن المنافقين كثيرًا، فبدؤوا في تشويه الحقائق من أجل كسر حماس المسلمين والحيلولة دون تماسكهم. على سبيل المثال، قالوا عن الجهود المخلصة لعبد الرحمن بن عوف الذي تبرع بنصف ثروته، وعاصم بن عدي الذي تصدق بمائة وسقٍ من تمر وغيرهم: “أنهم ينفقون رياءً!”، محاولين تثبيط همة المسلمين عن الإنفاق والمشاركة في هذه التعبئة المالية. وكان الصحابي الجليل أبو عقيل يعمل طوال الليل ليساهم بشيء في سبيل الله، فكان يكسب صاعين من تمر، يتبرع بنصفهما في الصباح. لكن المنافقين لم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء هذه التضحيات، وقالوا: “إنه يفعل ذلك رياءً” محاولين بذلك التقليل من شأن هذه الجهود الصادقة في عيون الناس. غير أن الله تعالى قد أحبط محاولاتهم الخبيثة هذه، مبينًا إخلاص الصحابة وصدقهم، ودعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيةً بالخير والبركة.
قالوا: نبيّ لا يعرف مكان ناقته!
بعد أن اكتملت جميع الاستعدادات، تحرك جيش المسلمين إلى تبوك. حتى إذا كانوا ببعض الطريق ضلت ناقته صلى الله عليه وسلم، فخرج أصحابه في طلبها. وكان معهم رجل من المنافقين يدعى زيد بن اللصيت أراد أن يستغل الموقف، فتدخل على الفور قائلًا: “أليس محمَّد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟”. بدهي أنه يفعل الآن مثل أقرانه من المنافقين الذين يستغلون أبسط المسائل للتشويه والهجوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته.
فلما بلغت مقولته هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بهدوء شديد: “إنَّ قَائِلًا قَالَ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ، وَلَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، فَهِيَ فِي هَذَا الشِّعْبِ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا” 11، فذهب رجال من المسلمين، فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وصف. لم يدَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب دون قيد أو شرط! ولكن لم يكن لهذا أهمية بالنسبة للمنافقين الذين يريدون تشويش ذهن المؤمنين.
خلاصة القول
في الحقيقة ليست محاولات التلاعب التي قام بها مخاطَبو رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة عن هذه الأمثلة فحسب، فهناك العديد من الأمثلة على ذلك مثل مسألة تحويل القبلة وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالدتنا السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، وغير ذلك من الوقائع التي يمكن الاستدلال بها هنا. ومع ذلك، فكما يتبين من هذه الأمثلة القليلة المذكورة؛ فإن المجموعات التي لجأت إلى جميع الوسائل لإطفاء نور الله قد استخدمت أيضًا التلاعب كسلاح قذر وقبيح لتنفير الناس من الإسلام، واستعدائهم عليه، وبث الكراهية في نفوسهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
لقد كانوا يحمّلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته تبعات الحوادث التي تسببوا فيها أنفسهم، فشوهوا الحقيقة، واستغلوا حتى أكثر الحوادث الطبيعية، وفسروا الجروح التي أصابت المسلمين بتفسيرات وتحليلات مختلفة، كذلك عمدوا إلى تقويض أكثر جهود المسلمين إخلاصًا بغية إثارة أعصابهم والقضاء على روح العمل والتضحية لديهم.
وأمام كل ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت على موقفه ويفي بما تستوجبه شخصيته العالية، ويحافظ على نهجه المستقيم والمعتدل، ويتجنب ردود الأفعال التي تبرر أفعالهم وخطاباتهم، لم يكن يتسرع، بل يرجئ حل المسألة إلى وقت لاحق، وينشغل بمهمته ورسالته، ويوصي أصحابه بنفس الشيء ويُلزمهم به.
Footnotes
- لمزيد من التفاصيل انظر: ابن هشام: السيرة النبوية، 146، 147.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 124، 155، 176.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 134.
- بن هشام: السيرة النبوية، 176، 180.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 186.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 287.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 287؛ تاريخ الطبري، 2/414، البيهقي: دلائل النبوة، 3/17.
- الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/214؛ ابن هشام: السيرة النبوية، 235؛ تاريخ الطبري، 2/397.
- الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 3/548؛ تاريخ الطبري، 2/401.
- البيهقي: دلائل النبوة، 3/216.
- ابن هشام: السيرة النبوية، 600، 601.