عبد المطلب وحفر زمزم

اسمه شيبة، وهو أحد أبناء هاشم الأربعة.. وكان هاشم الجدُّ الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم من أبرز شخصيات بلاد الحجاز.. وهو أول من أطعم الحجاج الثريد بمكة، وأول من سنَّ رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، وكان موسرا غنيا يعمل بالتجارة.

وفي أحد رحلاته التجارية تلك مر في طريقه إلى الشام بالمدينة المنورة، ونزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار، فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها،[1] وأقام عندها ثم خرج إلى الشام تاجرا -وهي عند أهلها حامل بعبد المطلب- فوافته المنية بغزة من أرض فلسطين، فوَلدت له عبدَ المطلب، وسمَّته شيبة لشيبة في رأسه، فتربي عند أمه في بيت أخواله.. وبما أن عبد المطلب وُلد بالمدينة بعد وفاة أبيه لم يشعر به أحد من أسرته في مكة، ولما صار شيبة وصيفا (الغلام الوصيف هو من دون سن المراهقة أو فوق ذلك) سمع به المطلب فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه وأردفه على راحلته ليأخذه إلى مكة، فامتنع شيبة حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت، فقال: إنما يمضي إلى ملك أبيه وإلى حرم الله فأذنت له، فقدم به مكة مُردفَه على بعيره، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي هاشم،[2] فأقام عنده حتى ترعرع.[3]

وكان المطلب هو الوارث لمناصب هاشم، ولما هلك وَلِيَ بعده عبدُ المطلب السقاية والرفادة، فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم، وشرُف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم [4].وهكذا كبرت مسؤولياته وخاض طريقا خطها له القدر، ليتحمل مهمة التوطئة للمرحلة التي سيظهر فيها النبي الذي بشر به الكتب.. فكان محط أنظار أهل مكة يرجعون إليه في خلافاتهم وحل مشكلاتهم..

زمزم

ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ رأى رؤيا أصبحت محطة مهمة في حياته، يقول عبد المطلب فيما رواه علي كرم الله وجهه:

إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال: احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال: وما برة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة [أي الغالية النفيسة]. قال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف [لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها] أبدا ولا تذم [أي لا توجد قليلةَ الماء]، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم،[5] عند نقرة الغراب الأعصم [الأعصم من الغربان: الذي في جناحيه بياض] ، عند قرية  النمل[6]https://al-maktaba.org/book/7450/129 – p1

فكل هذه الأمور دفعت بعبد المطلب إلى أن يفكر مليا في القضية، وقد كان له سابق علم بوجود زمزم، حيث إن جرهم لما هاجرت من مكة ألقت جميع ما لديها من الجواهر والأموال الثمينة في بثر زمزم، ثم غطتها ووارتها، ولكن بعد مدة لم يبق في الناس من يعلم بمكان البئر على وجه التحديد، فأصبح الحديث عن بئر زمزم بمثابة أسطورة يتناقلها الناس.. فالآن بدت له العلامات التي تدل على مكان هذه البئر الضخم التي لا تنضب معينها، ويؤمر هو بفتحها.

فجاء عبد المطلب إلى ذلك المكان الذي تعرَّف على إحداثياته، فوجد غرابا أعصم ينزل بذلك المكان وينقره، وكأنه يشير إلى مكان البئر، ولما زاد اقترابا رأى أيضا قرية النمل، فلم يبق لديه تردد في صدق ما رآه، وفي اليوم التالي أخذ معوله واصطحب ابنه الحارث ليس له يومئذ ولد غيره، فجعل يحفر ثلاثة أيام.. حتى وصلا إلى البئر المطوية. وإذا بهما أمام الحلي التي وضعها فيها الجراهمة، وبينما هما يُخرجان الحلي والجواهر ظهر لهما الماء. وهكذا ظهرت زمزم مرة أخرى

.. وكانت هذه نعمة وحظوة قلَّ من ينالها، مما أدى بعبد المطلب إلى أن يلهج بالشكر أمام من حباه بها، فكبَّر وقال: “هذا طَوِيُّ[7] إسماعيل”، وقد لفت هذا أنظار قريش فاجتمعوا حوله ينظرون فيما يجري هناك، فقاموا إليه فقالوا:

إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا، فأَشرِكْنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصِّصْتُ به دونكم وأُعطيتُه مِن بينكم، قالوا له: فأنصِفْنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها،[8] قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: قالوا: كاهنة بني سعد، هذيم، قال. نعم قال: وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركِبَ مِن كل قبيلة من قريش نفرٌ. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابِه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا مَن معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ما ترون؟ قالوا: ما رأْيُنا إلا تبعٌ لرأيك فمُرْنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم وارَوه، حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعةُ رجل واحد أيسرُ من ضيعة ركبٍ جميعا قالوا: نِعم ما أمرتَ به فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: “والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا، لَعَجْزٌ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحِلوا”، فارتحَلوا حتى إذا فرغوا، ومَن معهم مِن قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عينُ ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب، وشرب أصحابه، واستقَوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشْربوا واستقُوا. ثم قالوا: “قد – والله– قُضي لك علينا يا عبد المطلب والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا”. فرجع ورجعوا معه، ولم يَصِلوا إلى الكاهنة وخلَّوا بينه وبينها.[9]


[1]  وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش ‏‏‏.‏‏ فولدت له عمرو بن أحيحة، وكانت لا تَنكح الرجالَ لشرفها في قومها حتى يتشرطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته‏، وأن تضع أولادها بين قومها. وكانت في زمانها كخديجة في زمانها؛ لها عقل وحلم.  (انظر الدياربكري، تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس ١/١٥٨)

[2]  ومنذ ذلك اليوم عرف شيبة باسم: “عبد المطلب”.

[3] المباركفوري، الرحيق المختوم ٣٢.

[4]  ابن هشام، السيرة النبوية /١٠٦

[5] ومعنى بين الفرث والدم، أي عند المذبح الذي كانت قريش تذبح ذبائحها فيه.

[6] إنما خصت بهذه العلامات الثلاث لمعنى زمزم ومائها. فأما الفرث والدم، فان ماءها طعام طعم، وشفاء سقم، وأما عن الغراب الأعصم، ففيه إشارة إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة». وأما قرية النمل، ففيها من المشاكلة أيضا. والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يرِدها الحجيج والعُمَّار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك، وهي لا تحرث ولا تزرع، وقرية النمل كذلك لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب. (من هامش سيرة ابن هشام ت السقا ٢/١٤٣)

[7] الطوىُّ: البئر إذا بنيت بالحجارة.

[8] بل أن عدي بن نوفل قال له: يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذ لا ولد لك؟ فقال عبد المطلب: أبِالقلة تعيرني؟! فو الله لئن آتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرنَّ أحدهم عند الكعبة. (انظر: الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، وذكر فضائله وأعلام نبوته وأفعاله وأحواله في المبدأ والمعاد، تأليف: محمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ) تحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض. الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، لبنان الطبعة: الأولى، 1414هـ – 1993م، ٢/ ٢٤٤).

[9] السيرة النبوية، لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ) المحقق: طه عبد الرءوف سعد، شركة الطباعة الفنية المتحدة، ١/ 134.

قد يعجبك ايضا