صلاة الجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقلم: يوجَل مان
بعد أن بلَّغ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته وحان الأجل؛ خيَّره الله تعالى بين الدنيا وما عند الله، فاختار الرفيق الأعلى. وتوفي صلى الله عليه وسلم في ضحى يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة[1].
موعد تغسيل الجثمان الشريف
وقد أحدث خبر وفاة رسول صلى الله عليه وسلم الله هزَّة وصدمة كبيرة في نفوس المسلمين الذين يحبونه أكثر من أرواحهم، فعاشوا أكبر صدمة لهم في حياتهم، فما إن سمعوا خبر وفاته صلى الله عليه وسلم حتى هرعت الأغلبية العظمى منهم إلى المسجد النبوي، فقال لهم سيدنا عمر رضي الله عنه انطلاقًا من الحزن العميق الذي يتملكه: “إن رسول الله ما مات…”[2] وأقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر على فرسٍ من مسكنه بـ”السنح” حتى نزل على باب المسجد وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها.
فلما دخل وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجًّى في ناحية من الحجرة، عليه برد حبرة، فأقبل حتى كشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم. ثم قبَّل جبهته الشريفة، وقال: “بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدًا”، ثم تلا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ (سورة الزُّمَرِ: 39/30)، ثم قال: “بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا”، ثم ردّ البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج[3].
خرج أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه من حجرة رسول الله في سكينة وهدوء؛ إذ كان يجب إخبار هذا الجمع الغفير المنتظِر في الخارج بصحة خبر وفاة رسول الله، وتهدئتهم جميعًا. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يزال يكلم الناس، فقال أبو بكر: “على رسلك يا عمر، أنصت”، فلما سمع الناس كلام أبي بكر أقبلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/144)[4].
وما إن انتهى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من كلامه، حتى هدأ الجميع بما فيهم سيدنا عمر؛ فقد تقبَّلوا الحقيقة رغم مرارتها، وبدأ الحزن الذي ملأ قلوبهم ينساب إلى الخارج مع عبراتهم وأنَّاتهم. وفي تلك الأثناء أتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: “إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله”. قال عمر: “فقلت لأبي بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، حتى ننظر ما هم عليه”، فانطلق سيدنا عمر وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بني ساعدة، وبعد مشاورات ومباحثات استمرت بعض الوقت حتى استقر الأمر في النهاية على بيعة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه[5].
فما هي إلا ساعات مرت على وفاة رسول الله حتى تم مبايعة سيدنا أبي بكر الصدِّيق خليفة له قبيل الظهر. فلما رجع أبو بكر إلى المسجد النبوي مرة أخرى وحان موعد الظهر صلى بالناس إمامًا. كان أول عمل يجب إنجازه بعد الصلاة هو تغسيل جسد رسول الله، فأمر أبو بكر أن يغسله رجال من أهل بيته[6]. فقام علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وشُقران مولى رسول الله، وتولوا أمر غسله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس في تلك الأثناء يواصلون بيعة أبي بكر الصديق، فغسَّلوا رسول الله دون أن ينزعوا عنه قميصه، ثم أعطتهم السيدة عائشة ثلاث أثواب فكُفن فيها[7].
موعد وموضع أداء صلاة الجنازة
تم تغسيل جسده الشريف صلى الله عليه وسلم وتكفينه. وبدأ الاستعداد لأداء صلاة الجنازة، فاجتمع من في المدينة من رجال ونساء وموالٍ وجوارٍ حتى الصِبية ينتظرون الصلاة على رسول الله. فقد كانت هذه الصلاة هي الوسيلة الأخيرة للقائه ووداعه. من أجل ذلك اجتمع الجميع، لكنهم كيف سيصلُّون عليه؟! فما زال جثمانه الشريف مسجًّى في فراشه الذي توفي فيه في غرفة السيدة عائشة رضي الله عنها. فسألوا أبا بكر: “يا صاحب رسول الله: هل نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟” قال: “نعم”، قالوا: “وكيف يُصلى عليه؟” قال: “ادْخُلُوا أَرْسَالًا أَرْسَالًا، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ”[8].
وبناءً عليه دخل الصحابة رضوان الله عليهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعات من أربعة أو خمسة أفراد إلى حجرة السعادة الشريفة المباركة وشرعوا في الصلاة عليه فُرادى. فكان أول من دخل للصلاة عليه أهل بيته، الرجال أولًا، ثم النساء، ثم الصبية، ثم الموالي والجواري[9]. ولقد كانت المدينة آنذاك تشهد أكثر أيامها حشدًا وازدحامًا؛ إذ أمر رسول الله وهو على فراش مرضه بتعبئة الجيش، وعيّن أسامة بن زيد رضي الله عنه قائدًا لجيش المسلمين لمواجهة خطر الروم.. وبالفعل تحرك سيدنا أسامة وفي طريقه وصل إليه خبر اشتداد مرض رسول الله، فنزل بالجُرْف، لينظر ما يقضي الله في رسوله صلى الله عليه وسلم[10]. فلما بلغه نعي رسول الله عاد بجيشه إلى المدينة[11]. فكان الجمع الذي شهد جنازة رسول الله كبيرًا جدًّا، يتألف من جنود أسامة ومن في المدينة من الرجال والنساء والموالي والجواري والصبية.
ولما كان كل هذا الحشد الكبير يرغب في الصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صغر حجرة السيدة عائشة فقد استغرقت صلاة الجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثلاثاء إلى منتصف ليل الأربعاء. وما إن انتهت الصلاة حتى دُفن رسول الله[12]. فكان جملة الوقت ما بين وفاته ودفنه حوالي 36-37 ساعة تقريبًا. (من ضحى يوم الإثنين إلى صلاة العشاء 8 ساعات تقريبًا، والثلاثاء يوم كامل 24 ساعة، وحوالي 4 ساعات من ليل يوم الأربعاء، فقد دُفن رسول الله في منتصف ليل يوم الأربعاء).
هيئة صلاة الجنازة على رسول الله
ومع أن المسلمين قد دخلوا حجرة السيدة عائشة على هيئة مجموعات صغيرة، إلا أنهم قد صلوا الجنازة فرادى، وبالتالي نال الصحابة شرف اللقاء برسول الله للمرة الأخيرة، وحظي كل منهم بثواب أداء صلاة الجنازة دون وسيط أو إمام[13].
فبعد أن دخل الرجال من أهل بيته صلى الله عليه وسلم دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع الحجرة المباركة. فقالا: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر ثم صفوا صفوفًا لا يؤمهم أحد. فقال أبو بكر وعمر -وهما في الصف الأول حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: “اللهم إنا نشهد أنه قد بلَّغ ما أُنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تُعَرِّفَه بنا وتُعَرِّفَنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، لا نبتغي بالإيمان به بديلًا ولا نشتري به ثمنًا أبدًا”، فيقول الناس: “آمين.. آمين..” ويخرجون ويدخل آخرون[14].
أقيمت صلاة الجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم آلاف المرات. وفي تلك الأثناء كان أبو بكر يؤمّ الناس في الصلاة بالمسجد النبوي، وفي الوقت نفسه ينظم دخول الناس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ البيعة. وقد ألقى أول خطبة له يوم الثلاثاء[15].
لماذا صُليت الجنازة في الحجرة الشريفة؟
ما إن علم أبو بكر رضي الله عنه بخبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل الحجرة الشريفة، ثم خرج وأخبر الصحابة رضوان الله عليهم أنه بلَغَه عن رسول الله أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون. لذا لم يتم إخراج جسد رسول الله من الغرفة التي توفي فيها، وغُسِّل وكُفِّن، وصُلي عليه فيها، حتى عند حفر قبره صلى الله عليه وسلم لم يُخرج منها، حيث رفع الصحابة فراشه وحفروا مكانه قبرًا ودفنوه فيه[16].
النتيجة
إنه على الرغم من الصدمة الكبيرة التي تعرض لها الصحابة الكرام عندما علموا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن هدوء أبي بكر وتدخله بشكل سليم وفي الوقت المناسب اجتاز الصحابة رضوان الله عليهم بنجاح هذا الامتحان الكبير. وفي خلال 36-37 ساعة تقريبًا قام الصحابة بتوجيه من أبي بكر الصدِّيق بتغسيل رسول الله وتكفينه والصلاة عليه واختيار خليفة رسول الله، وحافظوا على وحدتهم وترابطهم. وهذا خير دليل على ما وصلوا إليه من كمال في الإيمان وسمو في الأخلاق ورقي في المعاملة.
[1] ابن كثير: البداية والنهاية، 5/282، 294، 295، 296، 313.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/215.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/216.
[4] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/216؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/280.
[5] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/217-220.
[6] البيهقي: السنن الكبرى، 6735، 6987، 16627.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/221-222؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/301-303.
[8] البيهقي: السنن الكبرى، 6735، 6987، 16627؛ النسائي: السنن الكبرى، 7081؛ أحمد بن حنبل: المسند، 20766.
[9] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/223؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/306.
[10] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/210.
[11] الواقدي: المغازي، 2/475.
[12] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/223؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/294، 296، 308.
[13] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/223؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/306.
[14] ابن كثير: البداية والنهاية، 5/306.
[15] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/220.
[16] ابن هشام: السيرة النبوية، 2/222، 223؛ ابن كثير: البداية والنهاية، 5/308.