حادثة الفيل

سبق لنا أن تحدثنا عن محنة عند المطلب الذي كان قد نذر ربه أن يذبح واحدا من أولاده العشرة، وكيف أنه عانى من ذلك بسبب وقوع القرعة على ابنه عبد الله، الأثير عنده من بين سائر أبنائه إلى أن فرج الله عنه ذلك.

ولكن يبدو أن الله أراد له أن يمر بمحنة أخرى تتجلى عندها مكانته، وتكون في الوقت نفسه مقدمة وإرهاصا لقدوم خير البشر إلى خير الأمكنة عند الله.

وذلك أن أبرهة والي اليمن التابعَ لملك الحبشة كان قد بنى معبدا كبيرا فخما بصنعاء حتى يحج إليه الناس بدلا من الكعبة، وسخر لبناء هذا المعبد أقصى ما يملكه من الإمكانيات، ورصعه بأحسن ما لديه من الحلي والجواهر، وكان يلقَى الدعم في ذلك من الإمبراطورية البيزنطية، وكان يهدف من وراء ذلك أن يحوِّل الناس من الكعبة إلى هذه الكنيسة، وقد صرح بهذا في رسالته التي بَعث بها إلى النجاشي ملك الحبشة حيث يقول فيها:

“إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أصرفَ حج العرب إليها”[1]

ولكن أنَّى له أن يستطيع صرف الناس من مكان أُسس من أول يوم على تقوى وإخلاص لله.. فلم يستجب له الناس فيما أراد، بل غضب رجل من بني كنانة فذهب إليها سرا، فجاء بعذرة فلطخ بها قبلتها، وجمع جيفا فألقاها فيها.. فلما سمع بذلك أبرهة غضب غضبا شديدا وقال: “إنما فعلتْ هذا العربُ غضبا لبيتهم، لَأنقضنَّه حجرا حجرا!” وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود، وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عِظما وجسما وقوة.[2]

فأَمر الحبشة فتجهزت في ستين ألف جندي، ثم سار نحو أرض مكة، ليهدم الكعبة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، فاختار لنفسه أ(محمود) الذي هو أكبر الفيَلة،[3] فلما بلغ المغمس بمقربة من مكة عسكرَ أبرهةُ بها، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نَعم الناس. فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمَّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.

وبعث أبرهة حباطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يُرِدْ حربي فأتني به؛ فلما دخل حباطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه. فقال له ما أمَره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام -أو كما قال–، فإن يمنعه منه، فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفع عنه. فقال له حباطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.

فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر، فسأل عن ذي نفر، وكان له صَديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدَيْ ملِك ينتظر أن يقتله غُدُوًّا أو عشيا؟! ما عندنا غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، وسأرسل إليه فأوصيه بك، وأعظمُ عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتُكلمُه بما بدا لك، ويشبع لك عنده بخير إن قَدَر على ذلك. فقال: حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوشَ في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذِنْ عليه، وانفعْه عنده بما استطعت، فقال: أفعلُ.

فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك: هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو يطعم الناس في السهل، والوحوشَ في رؤوس الجبال، فأْذَنْ له عليك فيكلمَك في حاجته، قال: فأذن له أبرهة.

وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يُجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال به ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه، لا تكلمُني فيه؟! قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنعَ مني، قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب الإبلَ التي أصاب له.

قريش تستنصر الله على أبرهة

 فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحصن في رؤوس الجبال والشعاب، تخوفا عليهم من بطش الجيش، ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده. ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى رؤوس الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهةُ فاعلٌ بمكة إذا دخلها.

أبرهة يهاجم الكعبة

فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبَّى جيشه -وكان اسم الفيل محمودا- وأبرهة مُجْمِع لهدم البيت ثم الانصرافِ إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذه بأُذُنه، فقال: ابركْ محمودُ، أو ارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه. فبرك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وهذا الموقف من نفيل بن حبيب يشبه موقف مؤمن آل فرعون، الذي برز في حالةٍ تَخاذَل فيه كلُّ الناس.. فالله مسبب الأسباب، لا ندري كيف ومتى يستخدمها من حيث لا يحتسب لها الإنسان.

وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه وبطنه ضربا شديدا حتى أدْمَوْه ليقوم فأبى، فوجَّهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.

فبينا هم كذلك إذ أرسل الله عليهم من البحر طيرا أبابيل (أي جماعات)، ترميهم بحجارة من سجيل (أي شديد صلب) فجعلهم كعصف مأكول، وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان،[4] مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجرٌ في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدا إلا صار تتقطع أعضاؤه، وهلك، -وليس كلهم أصابت-، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض فتساقطوا بكل طريق، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء، إلا وهو مثل الفرخ، وانشقَّ صدره عن قلبه ثم هلك.[5]

فلما رد الله الحبشة من مكة، وأصابهم ما أصاب، أعظمت العرب قريشا، وقالوا: “هم أهل الله، قاتَل الله عنهم وكفاهم العدو”، وازدادوا تعظيما للبيت، وإيمانا بمكانته عند الله.

وكان ذلك آية من الله، ومُقدِّمة لبعثة نبي يُبعث في مكة، ويطهِّر الكعبة من الأوثان، ويعيد إليها ما كان لها من رفعة وشأن، وتكون لدينه صلة عميقة دائمة بهذا البيت، ودل هذا الحادثُ على قرب ظهور هذا النبي وبعثته.

واستعظم العرب هذا الحادث، وكان جديرا بذلك، فأرَّخوا به، وقالوا وقع هذا في عام الفيل، وولد فلان في عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل، وهكذا…[6]


 [1]  ابن هشام، السيرة ١/٣٧.

[2]  ابن سعد، الطبقات ٢/٧٤.

[3] وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلا هلكت كلها إلا “محمود” فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.

[4]  نوعان من الطيور.

[5] السيرة، ابن هشام ١/٤٧؛ المواهب اللدنية، القسطلاني، المباركفوري، الرحيق المختوم ٤٢؛

[6]  أبو الحسن الندوي، السيرة النبوية 130 .

قد يعجبك ايضا