المراكز التعليمية التي ربّى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الشباب (2)
بقلم: يوجَل مان
كانت الغالبية العظمى من السابقين الأولين في الإسلام سواء في مكَّة المكرمة أو في المدينة المنورة من فئة الشباب والفتيان1. وجميعهم ينحدرون من عائلات وبيئات شكّلتها عادات الجاهلية وتقاليدُها. فبنوا أفكارهم ومشاعرهم وطوروا سلوكياتهم وتصرفاتهم وفق ما شاهدوه في منازلهم التي نشؤوا وترعرعوا فيها، وفي شوارع مكة، وفي أماكن لهوهم ولعبهم، فضلًا عما كان يقع في الكعبة وما حولها؛ من أمور تتنافى مع التوحيد والأخلاق والعدالة.
ولقد صوَّر سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة هذه البيئة المكيَّة التي نشؤوا فيها على هذا النحو: “أيها الملك! كنّا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف…”2. علاوة على أن الإسلام الذي اعتنقوه كانت تعاليمه وأوامره تتنزل بشكل تدريجي، وهذا يعني أن الشباب في حاجة ماسة إلى الإصلاح والإرشاد. من أجل ذلك عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استخدام بعض الأماكن والوسائل المختلفة كمراكز تعليمية من أجل تعليم وتنشئة هؤلاء الشباب، متخذًا في الاعتبار الظروف والتطورات المحيطة بهم.
الأماكن التي أتاحتها الطبيعة الجغرافية: الجبال والوديان والمغارات
كانت الفترة المكيَّة بشكل خاص فترة حرجة للغاية من حيث تربية الشباب وتنشئتهم؛ فالمشركون كانوا يضيقون الخناق دائمًا على المسلمين، فإذا ما علموا بإسلام أحد الشباب قاموا على الفور بالقبض عليه وحبسه وسومه أشد العذاب ليثنوه عن الإيمان وإعادته إلى الشرك، حتى أنهم كانوا يقتلون آباءهم وأمهاتهم أمام أعينهم. فأصبح لزامًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أيضًا توخي الحيطة والحذر في تحركاته، فكان هذا يتطلب القيام بتربية هؤلاء الفتيان وتعليمهم سرًّا دون إشعار أهل مكَّة من أجل حمايتهم وسلامة أرواحهم.
كانت حالة الطوارئ تسود مكَّة كلها؛ لذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستفادة من الإمكانات التي أتاحتها له الطبيعة الجغرافية. فكان يقوم بتعليم القرآن الكريم والحديث الشريف في الوديان والجبال والمغارات بعيدًا عن عيون المشركين، وكان يأمر أصحابه بفعل ذلك أيضًا. ومن الأمثلة على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع يومًا بزمرة من أصحابه في غارٍ بمنى يعلمهم سورة المرسلات وكانت قد نزلت حديثًا. فخرجت عليهم حيَّة، فابتدروها، فسبقتهم فدخلت إلى جحرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كما وُقِيتُمْ شَرَّهَا“3. وأيضًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت صخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجبل: “اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ“4.
البيوت (دار الأرقم وبيت العُزَّاب…)
انتبه أهل مكَّة إلى خروج شباب المسلمين إلى شِعاب وجبال مكَّة، فأخذوا في تتبع أثرهم والتضييق والاعتداء عليهم أينما حلوا أو ارتحلوا. بناءً على ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه في الأمر، وقرر في النهاية استخدام دار الأرقم بن أبي الأرقم وكانت على سفح جبل الصفا في الدعوة وتعليم الدين. فكان يقابل في هذا المكان الذين يميلون إلى اعتناق الإسلام، والسابقين الأولين ممن أسلموا من الشباب لتعليمهم وتنشئتهم. وقد استمرت فعاليات دار الأرقم هذه قرابة ست سنوات5. فضلًا عن أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل الشباب الذين يتم تنشئتهم في هذا المكان إلى بيوت المسلمين الذين تم تضمينهم في ذمتهم لتعليمهم ما نزل من آيات القرآن الكريم. وهكذا وظف رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة في الميدان، وقام في الوقت نفسه بتحويل كل بيت إلى مدرسة. ومن النماذج المشهورة في هذا الأمر، سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه كان أحد المترددين على دار الأرقم. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذمته سيدنا سعيد بن زيد وزوجته السيدة فاطمة أخت سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين. فكان يأتي إلى دارهم، ويعلمهم ما نزل من سور القرآن، ويبلغهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم6.
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزل بقباء، كان العزّاب من المهاجرين يقيمون في دار سعد بن خيثمة. وفي الأربعة عشر يومًا التي مكثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء كان صلى الله عليه وسلم يجالسهم هناك ويعلمهم ما نزل من القرآن الكريم7.
هاجر معظم مسلمي مكَّة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومكثوا في بيوت الأنصار ضيوفًا عليهم. فلما هاجر إليهم، وبعد مرور خمسة أشهر، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واختار بنفسه الأشخاص والعائلات الملائمة لكل فرد من حيث الطباع والإمكانات. وكان لدى المهاجرين خبرة ثلاثة عشر عامًا في علوم الدين التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكَّة، فكان من اللازم نقل هذا العلم إلى الأنصار في مدة زمنية قصيرة، لسد الهوة الواقعة بين الطرفين. علاوة على أن عدد الداخلين في الإسلام بالمدينة كان يزداد يومًا بعد يوم، وبهذا الإجراء استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم سد الفجوة والاختلاف بين المجتمعين في وقت قصير، حيث صار في كل دار “معلمٌ” من المهاجرين، وحلت مشكلة سكن المهاجرين ومؤونتهم أيضًا.
واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إستراتيجية تشبه تلك التي كانت في مكة. فقد قام بتوزيع سبعين فردًا من الشباب الذين يُعرفون بأهل الصفة ويُطلق عليهم أيضًا القرَّاء على بيوت الأنصار، وبذلك شكّل سبعين حلقة علم ومذاكرة في المدينة، وحوّل البيوت إلى مدارس ومراكز تعليمية8.
ولقد صار تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيوت إلى مراكز تعليمية أمرًا مألوفًا بالنسبة لهم. على سبيل المثال عندما بُعث سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة لتعليم أهلها القرآن الكريم وتعاليم الإسلام استخدم دار سيدنا أسعد بن زرارة رضي الله عنه كمدرسة للتعليم والإرشاد والتبليغ؛ وقد نجح خلال سنة في هداية قرابة مائة شخص في هذا المكان وأحسن تعليمهم9. ولقد حرَّكهم هذا التعليم وهذا الشعور الذي انتقل إليهم منه إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة، ودعوته إلى الهجرة إلى المدينة. علمًا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يدعو القبائل الكبرى لسنوات عديدة في الأسواق، بيد أنهم لم يستجيبوا له بسبب تخوفهم من مشركي مكَّة.
المساجد
لم تسنح الفرصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكَّة أن يجتمع بأصحابه -وأغلبهم من الشباب- عند الكعبة أو ينشئ مسجدًا للقائهم، والتعبد معهم، وتعليمهم أركان الدين. فلما هاجر ونزل قباء قام من فوره ببناء المسجد، وفي غضون خمسة أيام انتهى من بناء مسجد قباء المشهور10. وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في أعمال البناء من الحفر حتى الافتتاح11. ولقد كان فعله هذا يعبر عن مدى حرصه ورغبته في الاجتماع بأصحابه الذين لم يقدر على جمعهم بأكملهم ولو مرة واحدة طيلة ثلاثة عشر سنة في مكَّة، كما يشير هذا الموقف إلى أول ما يجب فعله والتركيز عليه في المكان الذي يُنزل إليه. لقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الخامس في وادي رانوناء وصلى بهم أول صلاة جمعة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يخطب فيها في أصحابه مجتمعين، لقّنهم فيها رسائل بالغة الأهمية12. وبذلك صارت المساجد أهم مراكز تعليم وتنشئة للصحابة رضوان الله عليهم في المرحلة المدنيَّة.
وما أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء إلى المدينة المنورة، حتى خصص على الفور مكانًا للمسجد النبوي وقام بشراء الأرض، وشرع في بنائه. وعند بنائه المسجد وضع في الاعتبار مهمة تعليم الشباب وتربيتهم، فقام بتخصيص مكان في مؤخرة المسجد يُعرف بالصفة ربّى فيها مئات الشباب، واستخدمهم جميعًا كمرشدين ومعلمين. كما بُنيت له صلى الله عليه وسلم حجرة في نهاية المسجد. وبذلك تمكن من متابعة أي حادثة تقع هناك، بالإضافة إلى تلقي الشباب الدروس منه صلى الله عليه وسلم ومن المعلمين الآخرين. وبذلك أتيحت لهم الفرصة لرؤية ومعايشة العلوم التي تعلموها نظريًّا بشكل عملي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤدي صلواته ههنا، ويستقبل كذلك الوفود، ويعمد إلى حل المشكلات الأخلاقية والحقوقية، ويلقي خطبه ويعقد مجالسه، كما كان يتخذ فيه أيضًا القرارات الإدارية. علاوة على أنه قد أنشأ المساجد في أحياء المدينة المنورة المختلفة، وقام من تم تعيينهم في هذه الأحياء بتحويلها إلى دور عبادة ومدارس13.
لم يستغل رسول الله صلى الله عليه وسلم المساجد فقط في أن يخطب في أصحابه بل استغل أيضًا أماكن الوقوف على عرفات، ورمي الجمرات، والنحر في منى، وصلاة العيدين؛ في هذا الصدد. وكان يغطي في هذه الخطب مساحة عريضة من الموضوعات بداية من القضايا الإيمانية إلى القضايا الأخلاقية، ومن الحقوق الأولية والحريات إلى التشريعات المختلفة، ومن المشكلات الاجتماعية إلى العلاقة مع الله تعالى.
أظهُر الدواب
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ مجموعة من الإجراءات في السفر والرحلات. فكان يصطحب دائمًا في سفره واحدًا أو مجموعة من أصحابه بداية من أهمّ الأسفار إلى المعارك الحربية، ومن جميع الزيارات حتى الولائم التي يُدعى إليها. وقد كان هذا الإجراء من أهم العوامل التي ساعدت في تنشئة وتعليم سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فقد لازمه في أغلب أسفاره وتحركاته تقريبًا. فكما رافقه في رحلة الهجرة، وأردفه صلى الله عليه وسلم خلفه على دابته من قباء إلى المدينة14. كما اصطحب كذلك سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه إلى الطائف، في رحلة استغرقت شهرين، شهد فيها زيدٌ الكثيرَ من المواقف واكتسب العديد من التجارب. كما أردف خلفه أسامة بن زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة وهو يعود سعد بن عبادة في مرضه، وفي طريقهما مرَّا بمجلس فيه أناس من فئات مختلفة فتحدث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أردفه أيضًا في حجة الوداع عند انتقاله من عرفات إلى المزدلفة15. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمسة أيام بتعيين أسامة بن زيد وكان ابن تسع عشرة سنة على رأس جيش المسلمين؛ وذلك لأن أسامة رضي الله عنه كان لديه العديد من التجارب والخبرات التي اكتسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره التي رافقه فيها.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردف على راحلته في أسفاره حربية كانت أو تعبدية شابًّا ذكيًّا ذا حافظة قوية. فكان يصطحب نفس الشاب في ذهابه وإيابه، وأحيانًا يردف واحدًا في ذهابه، وآخر في إيابه. وكانت هذه الأسفار تستغرق في بعض الأحيان عشرين يومًا (كغزوة مؤتة). فكان هذا الشاب الذي يحظى بإرداف رسول الله صلى الله عليه وسلم له على راحلته يشهد طوال رحلته جميع تحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ينزل عليه من الوحي الشريف، والقرارات التي يتخذها، والمناقشات التي يتحدث فيها، والدعوات التي يتضرع بها إلى الله تعالى؛ فكان يشهد كل هذا وينقله بشكل مفصَّل إلى الناس؛ يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كنتُ خلفَ رسولِ اللهِ ﷺ يومًا قال: يا غلامُ، إني أعلِّمُك كلماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنْتَ فاستعِنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ“16.
وقد أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة خمسين صحابيًّا خلفه على دابته، وقام بتعليمهم وإرشادهم طوال الطريق. أمثال سيدنا أبي بكر، وعثمان، وعلي، والفضل بن العباس، ومعاوية بن صخر، وأبي ذر الغفاري، وأبي الدرداء، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين… ويحدثنا سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن سفرته قائلًا: “أردفني رَسُول الله صلى الله عليه وَسلم خَلفه فَجعلت فمي على خَاتم النُّبُوَّة فَجعل ينفح عَليّ مسكًا وَلَقَد حفظت مِنْهُ تِلْكَ اللَّيْلَة سبعين حَدِيثًا مَا سَمعهَا معي أحد”17. وقد كان أكثر من أردفهم رسول الله خلفه: أبو هريرة (5374 حديثًا)، وعبد الله بن عباس (1660 حديثًا)، وجابر بن عبد الله (1540 حديثًا)؛ وهم أكثر من رووا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن زيد بن ثابت، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين.
ولقد كانت أظهر الدواب بمنزلة مركزٍ من مراكز التعليم والتدريب. وعلى هذا يمكن القول بأريحية إنه على أرباب العلم أن لا يخرجوا في أسفارهم فرادى، بل عليهم اصطحاب شاب يعمدون إلى نقل علمهم إليه في سفرهم، وهذا منهج نبوي بل وسنة نبوية.
مدرسة الحياة
لقد حوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة والأحداث إلى مؤسسة تعليمية للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فيرشدهم بوجهة نظره وتفسيراته وتقييماته الحكيمة إلى سبل تعلم الأشياء من كل موقف في الحياة. مثل: مقابلة المحن والشدائد بالصبر والإيمان، والعفو والصفح عن الناس، وعدم الوقوع في اليأس والقنوط في أي وقت كان، وعدم الاعتراض على قضاء الله وقدره في مواجهة الحوادث والأزمات، ومقابلة النعم بالشكر والثناء، وتتويج النصر بالتواضع والوقار، والتوجه إلى الله دائمًا بالدعاء، وتناول الأحداث والتطورات بالعقل والمنطق والمحاكمة العقلية وفي إطار الكتاب والسنة، والترابط والالتحام وقت الشدائد والأزمات… كان يعلِّم الصحابة كل تلك الأمور من خلال المواقف التي يتخذها عند مواجهة الحوادث وفي مجرى حياته اليومية. فأيًّا كانت الوقعة فإن التقييم الذي يقوم به والموقف الذي يتخذه كان يوجه الصحابة إلى الفكرة والنظرة والطريق والاتجاه والمكان الصحيح18.
الوظائف والمهام
وكانت المهام والوظائف التي يكلف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم بمثابة مركز تعليميّ آخر للشباب. فقد كلف سيدنا أبا ذر الغفاري وسيدنا عمرو بن عبسة منذ الأيام الأول للدعوة بمهمة الإرشاد والتبليغ لأقوامهما؛ وفي السنوات التالية قام بإرسال الطفيل بن عمرو إلى قبيلة دوس، وأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة. وقد كثَّف هذه المهام بعد الهجرة. وكان يكلف الشباب على وجه الخصوص ويرسلهم قادة للسرايا، وحملة للواء، وسفراء، وولاة، ومبلغين ومرشدين، وعاملين على جمع الزكاة، ووعاظًا، وأئمة… فكان صلى الله عليه وسلم يوصيهم ويقدم لهم النصائح التي تتضمن أوامره ونواهيه وتوجيهاته سواء عند استعمالهم أو عند تشييعهم لمحال مهامهم، أو عند اطلاعه على التطورات الواقعة بعد ذلك، وينقل إليهم كل المعلومات والخبرات التي تعينهم على وفاء المهمة التي يحملونها حقَّها19.
خلاصة القول
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بُعث معلمًا ومرشدًا وهاديًا يولي اهتمامًا كبيرًا لمسألة التعليم. فكان لا يهمل في تعليم الشباب ألبتة مهما ضاقت به الأمور ومهما كانت المشكلات والخطوب التي تواجهه، ويبحث عن حلول وطرق بديلة من أجل تنشئة الأجيال الواعدة تنشئة جيدة؛ فكان يلتقي بهم بشكلٍ ما، ويقوم بإعدادهم وتهيئتهم للمستقبل. لقد لقي المسلمون شدائد وصعابًا شتى في الفترة المكيَّة، ولم يتسنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الجلوس بين الشباب والحديث معهم بأريحية. وعلى الرغم من ذلك فقد حوَّل الجبال والوديان والمغارات وبيوت الصحابة وأماكن الشدة والصعاب إلى مدارس تعليمية؛ غذى فيها أرواحهم بحسن الخلق، والحق والعدل، والإيمان والإسلام. فكانت الغالبية العظمى من الصحابة الذين تم تنشئتهم في هذه المرحلة هم الذين كُلفوا بالمهام الكبيرة في الأعوام القابلة مثل إدارة الدولة، والولاية، وقيادة الجيش، والقضاء والوعظ والدعوة…
أما في المرحلة المدنيَّة قد تناول صلى الله عليه وسلم مسألة التعليم بشكل أكثر تنظيمًا وتخطيطًا؛ لأن الظروف في المدينة تختلف تمامًا عن التي كانت عليه في مكَّة. فجعل المساجد التي أنشأها مراكزَ تعليميةً، يلقي فيها دروسًا للشباب وفق مناهج محددة، ويأمر سواه من الصحابة بفعل ذلك. حتى إنه قد استغل أسارى المشركين في مهمة التعليم أيضًا. ووجه الشباب الناشئين إلى بيوت الصحابة، فتحولت المدينة إلى مركز تعليمي كبير، بالدروس والمجالس الموجودة فيها، وكأنها قد أعلنت عن حالة من التأهب القصوى.
في غضون ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم باستغلال أسفاره في هذا الشأن، فاصطحب الغلمان معه، وأردفهم على دابته، واهتم بهم عن كثب، ليحوِّل بذلك ظهور الدواب إلى مجالس علم ينير فها قلوبهم، ويهديهم سواء السبيل، ويدعو لهم بالبركة في العلم والعرفان. ولقد بيَّن صلى الله عليه وسلم عمليًّا أن تعليم الشباب هي مسألة حساسة لا يمكن إهمالها بأي شكل من الأشكال؛ فاستغلّ كل الأماكن وكل الوسائل من أجل تنشئتهم وتعليمهم.
Footnotes
- لمزيد من التفاصيل:
https://www.peygamberyolu.com/efendimiz-sas-genclerle-gelecege-yurumustur-1/#.XdFRhC3BLs0
- ابن هشام، السيرة النبوية، 156
- صحيح البخاري، التفسير، 77
- صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 6
- لمزيد من التفاصيل:
https://www.peygamberyolu.com/aktif-bir-sabir-ornegi-darul-erkam/#.XdWSQS3BI_U
- البيهقي، دلائل النبوة، 2/216؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 4/140؛ الهيثمي، كشف الأستار، 3/169 (2493)؛ أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، 1/285 (376)؛ إسماعيل بن محمد الإصبهاني، سير السلف الصالحين، 1/94
- بن هشام، السيرة النبوية، 228
- أحمد بن حنبل، المسند، 21/26 (13462)
- ابن هشام، السيرة النبوية، 199، 200
- ابن هشام، السيرة النبوية، 228
- الهيثمي، مجمع الزوائد، 4/11، 5/177؛ الحاكم، المستدرك على الصحيحين، 3/13؛ البيهقي، دلائل النبوة، 2/553
- ابن هشام، السيرة النبوية، 232؛ تاريخ الطبري، 2/394
- لمعرفة أسماء وأعداد وأماكن هذه المساجد، انظر: سنن أبي داود، الصلاة، 13؛ سنن ابن ماجه، المساجد، 9؛ الدار قطني: السنن، 2/85؛ السهيلي: الروض الأنف، 4/307؛ ابن شبة: تاريخ المدينة المنورة، 1/47
- صحيح البخاري، المناقب، 45؛ سنن أبي داود، الصلاة، 12؛ صحيح مسلم، المساجد، 1؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، 1/171.
- صحيح البخاري، الحج، 92
- سنن الترمذي، القيامة، 59
- ابن منده، معرفة أسامي أرداف النبي، 75
- صحيح البخاري، المناقب، 29؛ المغازي، 45؛ صحيح مسلم، الإيمان، 158
- للاطلاع على التوصيات أثناء التشييع انظر:
https://www.peygamberyolu.com/efendimizin-sas-egitim-icin-kullandigi-bir-zaman-dilimi-ugurlama-anlari/#.XdUWmi3BLs0