الأسس النبوية في التربية والتعليم (5): الحب والرحمة
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
الحب والرحمة، هما من أبرز السمات ومن أهم الأسس التي يتميز بها منهج النبي صلى الله عليه وسلم في نظرته للحياة والكون. وقد بُعث صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين كافة وعلى رأسهم الإنسان، فكان الحب والرحمة هما الأساس الذي تقوم عليه جميع معاملاته وعلاقاته، بدءا من حياته الأسرية إلى علاقاته بجيرانه، ومن التبليغ والإرشاد إلى علاقاته الاجتماعية والإدارية. ومن ثم يقوم منهجه التربوي والتعليمي في أساسه أيضًا على الحب والرحمة. فهو صلى الله عليه وسلم المعلِّم الذي حول الحياة بجميع مناحيها إلى رياض للحب والرحمة.
ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم قد أُرسل رحمة للعالمين وليس للمؤمنين فحسب1. والرحمة هي ظاهرة ناشئة عن تمازج واتحاد الحب والاهتمام والاجتهاد معًا، وانعكاس ذلك على العالم المحيط بنا في صورةِ معروفٍ دون مقابل. فالعبارة المشتركة التي اتفق عليها جميع الأنبياء بحسب البيان القرآني: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾2. وهذه التضحية هي تعبير صريح وانعكاس بارز عن حب عميق للبشر، فالمحب لا يتشوف لمقابل نظير حبه.
النبي الخاتم الذي يحب الإنسان من سويداء قلبه!
يشعر النبي صلى الله عليه وسلم من سويداء قلبه بالحب والاهتمام والرحمة العظيمة تجاه الإنسان، فيأتي القرآن الكريم ليقدِّر ويجل ويعدِّل هذا الشعور، ويخبر بحساسيته صلى الله عليه وسلم وتضحيته في هذا الشأن بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾3. لهذا فإن الإنسان الذي لا يحب؛ لا يهتم، ولا يرحم، ولا يتحمل مخاطبه، ولا يفتح حياته وقلبه للآخرين. فإن الحب الجاف المجرد من الاهتمام والاجتهاد لا يفيد بشيء. بينما الحب الحقيقي والرحمة الحقيقة هما جوهر التربية والتعليم ولبّهما؛ فمن لم يحب دون مقابل، لن يكون معلمًا ومربيًا بمعنى الكلمة. حتى ولو أصبح معلمًا فلن يُوفَّق في كل شيء؛ فبينما يرشد إلى طرق إعمار الدنيا، لن يستطيع تنوير الطريق المؤدي إلى الحياة الأبدية.
ومن هذا المنطلق فإن حب المرء ليس لشيء سوى الله، هو بمثابة روح التربية. فكان الحب العميق الذي يكنه النبي صلى الله عليه وسلم للإنسانية، وكذلك انعكاس ذلك الحب على الأفعال والتصرفات المفعمة بالشفقة والرحمة، أكبر وسيلة لهداية أعدى أعداء الإسلام وفتح قلوبهم في فترة قصيرة بلغت 23 عامًا. فقد أذاب صلى الله عليه وسلم بحبه هذا الذي لا يرجو عليه أجرًا، مشاعر الحقد والكره والبغض والانتقام والعداوة من قلوب مخاطبيه، ونجح في إقامة صرح له في قلب كل واحد منهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ“، وفي رواية: “خَيْرُ النَّاسِ…”4، هو بُعد آخر لهذا الحب العالمي. فدعوته صلى الله عليه وسلم المؤمنينَ إلى أن ينفعوا الإنسانية جمعاء، هي دليل صريح على أنه صلى الله عليه وسلم يحب الناس جميعًا، ويهتم بهم، ويريد مصلحتهم.
علاقة الطالب والمعلم القائمة على الحب
كانت علاقة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل معلمًا للبشرية مع أول تلامذته وهم الصحابة رضوان الله عليهم قائمة على الحب والرحمة. فإن القرآن الكريم عندما يتحدث عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد يقول: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾5. ومن هذه الجهة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يحب المؤمنين فحسب، بل إنه يحنوا عليهم بشفقة الأب كنتيجة طبيعية لهذا الحب. فبينما يربيهم وينشئهم، يقترب منهم بحب وشفقة، وبحسب التعبير القرآني أيضًا، إنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم حتى في أشد الأوقات وأصعبها برحمة واسعة قد غرسها الله تعالى في قلبه6.
ومثلما أنه صلى الله عليه وسلم كان معلمًا يحب طلابه، فإنهم أيضًا كانوا يحبونه أكثر من أنفسهم التي بين جنبيهم. فقد بذر نبي المحبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم بذور المحبة في أرواحهم. فكان حبهم له صلى الله عليه وسلم هو ثمرة الحب والاهتمام والاحترام الذي رأوه منه والذي غرسه فيهم. فهم يحبون معلمهم أكثر من أرواحهم ومن كل شيء، فيستمعون إليه باهتمام شديد، ويراعون اتباع سنَّته لأقصى الحدود. يحبونه لدرجة أنهم يستجيبون لأمره للوهلة الأولى دون جدال، ويطيعون أوامره ونواهيه بكل إخلاص. وبناء عليه فإن النتيجة الطبيعية والدليل القوي على حب النبي صلى الله عليه وسلم هو العيش وفقًا لسنَّته الشريفة.
لم يُر أحد يحب معلمه بهذا القدر!
تقوم التربية في الأساس على الحب والرحمة، والمعلم المثالي هو من يستطيع أن يفتح أبواب القلب بالحب والرحمة، وأن يقيم صرحًا له في قلوب مخاطبيه. والنبي صلى الله عليه وسلم هو معلم فريد من نوعه يجب الاقتداء به في هذه المسألة كما هو الحال في كل شؤونه:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من أهلي ومالي، وأحب إليّ من ولدي، لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخت الجنة رُفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك”. فلم يرد عليه صلى لله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾7. فيبشره صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة، ويخلصه من هذا القلق الذي يساوره.
توصية الناس بحب بعضهم بعضًا!
لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحب الناس ولا الرحمة بهم، بل إنه يعلمهم أيضًا حب بعضهم بعضًا. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن هذا من كمال الإيمان، فيقول: “والَّذي نَفسِي بيدِه، لا تَدخلُونَ الجنَّةَ حتّى تُؤمِنُوا، ولا تُؤمِنُوا حتّى تحابُّوا“، حتى إنه يدلهم على الطريق الذي يستطيعون من خلاله تأسيس رابطة المحبة، فيقول: “أوَلا أدلُّكُم على شَيءٍ إذا فعلتمُوه تحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ بينَكُم“8.
كذلك يخبرهم صلى الله عليه وسلم بأن محبة بعضهم بعضًا ليست محبة عادية، بل إنها تتبوأ مكانة كبيرة بعد محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل استشعار لذة الإيمان9، ولكن شريطة أن يكون هذا الحب في الله تعالى، فيقول صلى الله عليه وسلم: “أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ“10. فمثل هذا الحب لا يداخله النفس والأنانية. فيجب على المؤمن أن يحب أخاه المؤمن وأخاه الإنسان من أجل الله فحسب، ولا ينتظر مكافأة على عمله هذا إلا من الله عز وجل.
وبينما يعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسانية الحب، فإنه لم يقف عند حد القول فحسب، بل ربط مرة أخرى نقل هذا الحب إلى الحياة العملية وتحويله إلى رأفة ورحمة في العلاقات الثنائية بالإيمان، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه“11، وسنفهم جيدًا مقصده صلى الله عليه وسلم من في هذا الحديث من العبارات التالية التي قالها لأبي هريرة: “أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا“12. لأن هذا الفعل هو أمارة قوية توضح أن قلب الإنسان ليس بعيد فقط عن المساوئ والحيل والخداع والحسد والحقد، بل إنه مليء أيضًا بالأخوة والحب والشفقة والرحمة تجاه الآخرين.
لقد أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعًا وحضارة مثالية تقوم على مفهوم المؤاخاة والحب الذي لم يُر له مثيل إلى يومنا هذا، ومن الدساتير التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته في هذا الصدد هو أن يكونوا كأعضاء الجسد الواحد، فيقول: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكى منه عُضْوٌ تَداعى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمّى“13. ولهذا السبب يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعززوا علاقاتهم على جميع الأصعدة من خلال الحب وما ينتج عنه من انعكاسات مختلفة كالاحترام والتسامح والصلح والشفقة وحب الخير والتعاون المتبادل14. كما يوصي من يحبون بعضهم بعضًا في الله أن يخبروا مخاطبيهم بهذا الحب كسنَّة نبوية تؤكد وتعزز أواصر المحبة والأخوة فيما بينهم15.
الحب والرحمة ببقية المخلوقات
وكما علمنا صلى الله عليه وسلم حب الله، وحب رسله، وكذلك حب المؤمنين، وحب الإنسانية جمعاء، فإنه يغرس أيضًا شعور حب بقية المخلوقات وعلى رأسها الحيوانات، والرحمة بها، ومراعاة حقوقها. والحق أنه من حُرموا حب البيئة التي يعيشون فيها والطبيعة وكل شيء حي أو جماد من حولهم، لا يستطيعون أن يمنحوا الحب الحقيقي لمن حولهم. فالخَلق والموجودات جميعها قائمة في الأصل على أساس الحب والرحمة. والكائنات كلها هي مزيج من الحب والرحمة. فعدم حب شيء من الطبيعة أو بغضه –بخلاف الأشياء السلبية-، لا يتناسب مع شعور الحب الذي غرسه الله في الفطرة الإنسانية، بل ويفسده أيضًا.
ومن منطلق هذا المعنى فإنه ينبغي على الإنسان أن يحب مثلًا الحيوانات الموجودة في الطبيعة. لأنه يتجلى عليها أسماء الله وصفاته، وأنها أثر فني يدل عليه تعالى، وأنها مسخرة لخدمة الإنسان وطوع أمره بوظائفها التي تؤديها لتحقيق التوازن البيئي، وهي مخلوقات أؤتمن عليها الإنسان. حتى إنها بمثابة أمَّة بحسب التعبير القرآني: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾16.
وكما أن لهذه المخلوقات الحق في الحياة، فإن لها الحق أيضًا في الحب والرحمة. وكما ينبغي ألا يعتدي أي منها على حق الآخر، فينبغي على الإنسان أيضًا ألا يعتدي عليها. فإنها ستُحشر جميعها يوم الحشر17. وستؤدي الحقوق يوم القيامة، فتُقاد الشاة القرناء للشاة الجلحاء18. كما أن الإنسان سيعاقب على ما يلحقه بها من أذى، وسيثاب على ما قدمه لها من حب ورحمة. سأل صحابي النبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟”. فقال صلى الله عليه وسلم: “في كلِّ ذاتِ كبِدٍ رطبةٍ أجرٌ“19، ملفتًا بذلك النظر إلى هذه الحقيقة.
كما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأشكال مختلفة ضرورة التعامل بحب ورحمة مع الحيوانات وسائر الأحياء:
عن سعد بن عبادة: أن أمّه ماتت فقال: “يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟” قال صلى الله عليه وسلم: “نَعَمْ“، فقال سعد: “فأي الصدقة أفضل؟”، قال صلى الله عليه وسلم: “سَقْيُ الْمَاءِ“20. ويشمل حديثه هذا الإنسان والحيوان، ليعطي درسًا للبشرية بضرورة المحافظة على هذه المخلوقات وحمايتها.
وخلاصة القول، إن واحدًا من المعايير الكونية التي يعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلابه لغرس شعور الحب والرحمة فيهم هو: “الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا من في الأرضِ يرحمُكم من في السماءِ“21.
النتيجة:
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم رحمة ومعلمًا للعالمين، ومن أسمائه “الحبيب”22؛ أي المُحب والمَحبوب. فإن تلقيبه بهذا الاسم، وإطلاق اسم “حبيب الله” عليه، خير دليل على أنه أسس طريق التبليغ والإرشاد والتربية والتعليم على أساس المحبة. يقول الشاعر: “إن محمدًا أتى من المحبة، فما تكون المحبة دون محمد”. فمن يدركون أن أصل جوهره صلى الله عليه وسلم هو الحب، سيستمسكون بالحب في كل شؤونهم، ويتحركون به في كل أمورهم، وتنبض به قلوبهم في كل وقت وحين. ومن ثم فإن الأمهات والآباء والمعلمين والمرشدين الذين يحبونه صلى الله عليه وسلم، ويسيرون على نهجه، عليهم أن يغرسوا الحب والرحمة في مخاطبيهم بكل الوسائل، وأن يقطعوا كل السبل التي تؤدي إلى الغلظة والعنف، وأن ينشئوهم رموزًا للحب والرحمة.
Footnotes
- سورة الأنبياء، 21/107.
- سورة الشعراء، 26/109.
- سورة الشعراء، 26/3.
- الطبراني، المعجم الأوسط، (5787، 6026).
- سورة التوبة، 9/128.
- سورة آل عمران، 3/159.
- القاضي عياض، الشفاء، 2/118؛ الطبراني، المعجم الأوسط، 1/152. سورة النساء: 4/69
- صحيح مسلم، الإيمان، 93، 94؛ سنن الترمذي، الأطعمة، 45.
- صحيح البخاري، (6941).
- سنن أبي داود، (4599).
- صحيح البخاري، الإيمان، 6؛ صحيح مسلم، الإيمان، 71؛ سنن الترمذي، صفة القيامة، 59.
- سنن الترمذي، الزهد، 2؛ سنن ابن ماجة، الزهد، 24.
- صحيح البخاري، الأدب، 26، 27؛ صحيح مسلم، البر، 66.
- صحيح البخاري، الإيمان 7، المظالم 3، الأدب 57؛ صحيح مسلم، الذكر 38، البر 32، 58؛ سنن الترمذي، البر، 18.
- سنن الترمذي، (2392)، سنن أبي داود (5125).
- سورة الأنعام، 6/38.
- سورة التكوير، 81/5.
- صحيح مسلم، (2582)؛ مسند أحمد، 2/363 (8741)؛ الهيثمي، الزوائد، 10/352.
- صحيح البخاري، المساقاة (1094)، الوضوء 33، المظالم 23، الأدب 27؛ صحيح مسلم، السلام، (2244).
- سنن النسائي، الوصايا، 9؛ سنن ابن ماجة، الأدب؛ مسند أحمد، 5/284.
- سنن أبي داود، الأدب، 66؛ سنن الترمذي، البر، 61.
- سنن الترمذي، المناقب، 1؛ الدارمي، المقدمة، 8.