الأسس النبوية في التربية والتعليم (24): العقاب وبدائله!
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
الثواب والعقاب أسلوبان يستخدمهما المربَّون لتربية الأطفال والنشء تربية سليمة وتوجيههم نحو الصواب، ويُرجح بين كلا الأسلوبين وفقًا لتصرفات وسلوكيات المخاطب.
فكما أن لمبدأ المكافأة تأثيرًا عظيمًا في عملية التربية والتعليم، فإن للعقاب -بطبيعة الحال- تأثيرًا أيضًا إذا طبق وفق معايير محددة بعد بلوغ سن الرشد. فتنشئة الطفل أو النشء وإعداده من أجل المستقبل، مرهون منذ البداية بالعلاقة الطيبة والتواصل الصحي الذي يُقام معه، ثم يأتي بعد ذلك دور مبدأ الترغيب والمكافأة. ولكن لكي يجري أسلوب المكافأة على نحوٍ متوازن دون خلل، فهناك حاجة إلى عنصر العقاب. فلو كانت هناك مكافأة لمن أدَّى الواجبات المنوطة به على الوجه الأكمل أو أبلى بلاءً حسنًا، فلا بد من مقابل أيضًا إذا ما قصَّر في أداء واجباته. فإن الإنسان الذي يرى أنه سينال المكافأة في حالة التفوق، في حين أنه لن يُتخذ معه أي إجراء عندما لا يسعى للتفوق أو لم يؤد ما عليه من واجبات، فلا يمكن أن يحصل لديه انضباط نفسي، ولا يصير جزءًا من طبيعته. فمع أن كلمة العقاب تبدو مخيفة ومفزعة، فإنه عند التفكير فيها بجانب المكافأة، ولا سيما عندما تتحقق بشكل متوازن ومناسب للوضع، يكون لها عظيم الأثر في تحفيز المخاطب والحصول على نتائج أكثر إيجابية في التربية والتعليم. المهم هو تطبيق هذا المنهج بطريقة صحيحة وسليمة كما هو الحال في أسلوب المكافأة.
فطرة الطفل مهيّأة للتغيير!
ثم إن القرآن الكريم عندما يعد بالمثوبة والمكافأة فإنه يعد أيضًا بالجزاء والعقاب، ليوجه الإنسان إلى الإيمان والعمل الصالح من ناحية، ويرهبه ويبعده عن الشرك والكفر والشرور من ناحية أخرى. ومن ثم فإن الأنبياء جميعهم عليهم السلام كانوا “منذرين”؛ أي ينذرون من لم يصغ للحق والحقيقة وأعرض عنها بجهنم وعذابها، ويحذرون ويبعدون مخاطبيهم عن الشرك والكفر وجميع أنواع المعاصي والشرور وسوء الخلق. فهذا الأسلوب يقوم على توعية الإنسان منذ البداية وتنبيهه وإنذاره وإقصائه عن الشرور والمساوئ، فهو بمثابة الحماية والتحصين من الوقوع في الخطأِ والزلل. ولكي ينجح الإنسان في مجاهدته أحاسيسه السلبية والسيئة، فينبغي أن تُشحذ همته وإرادته، وأن يُحفز للاهتمام بالأنشطة التربوية والتعليمية، وأن يُشجع على تطبيق ما تعلمه على أرض الواقع.
يفتح الإنسان عينيه على الدنيا عند مولده، ولا يدري شيئًا، فعندما يعبر القرآن الكريم عن هذا، يقول: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا… ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/78). وفي ختام الآية الكريمة يتبين أن الإنسان مجهز بآلية تمكنه من معرفة الخير والشر، والصالح والطالح، والتفرقة بينهما، فيقول تعالى: ﴿… وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (سورة النَّحْلِ: 16/78). ومن ثم فإن الإنسان مزود بآلية تمكنه من الوصول إلى الكمال عبر التربية والتعليم.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ…“1.
ويلفت هذا الحديث الانتباه إلى الفطرة والخِلقة النقيَّة للإنسان. ومن ثم فإن الأطفال معصومون من حيث الفطرة، ومهيئون للتغيير والتوجيه نحو الخير والشر، والإحسان والإساءة، والصواب والخطأ. المهم هو تعليمهم الخير دائمًا، وتشجيعهم على فعل الخير والأفضل والصواب. فإن أكثر البيئات تأثيرًا في تطور الطفل وتربيته هي العائلة في المقدمة ثم المدرسة والمحيط الذي يعيش فيه.
وبينما يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم للأبوين في البداية مسؤولياتهم في هذا الصدد، يقول صلى الله عليه وسلم: “أَكْرِمُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ“2. وانطلاقًا من هذا الحديث يكلف صلى الله عليه وسلم الأسرة بالاهتمام بالأطفال، وتلبية جميع احتياجاتهم المادية والمعنوية، وتوجيه فطرتهم السليمة ومشاعرهم النقيَّة إلى الحب والشفقة والخير، وفتح قلوبهم على الإيمان والحق. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم ببيانه هذا، بل يوصي أيضًا بحسن معاملتهم، فاستعمل لفظ “أحسنوا” ليلفت النظر إلى قيمة المعاملة الحسنة في التربية من أجل التطور الشعوري والأخلاقي لدى الطفل. فكما تربطه هذه المعاملة الحكيمة بربه، فإنها أيضًا تربطه بطريقة إيجابية بالإنسانية والحياة والمجتمع والبيئة التي يعيش فيها، مما يجعله إنسانًا يمارس الإحسان في حياته، ويتحرك دائمًا من منطلق الخير والحق والعدل مطبِّقًا ذلك كله على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق يقول صلى الله عليه وسلم: “حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ“3.
إلا أن هذه المهمة لا تقع على عاتق الأبوين فحسب، بل تقع أيضًا على عاتق المؤسسات التعليمية والمجتمع على حد سواء. ومن ثم لا تنحصر هذه المبادئ التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم على الأبوين فحسب، بل هي موجهة أيضًا إلى المربين والمعلمين وأفراد المجتمع. فيكلفهم بواسطة توجيه الخطاب للآباء أن “اهتموا بأجيالكم وطلابكم، وأحسنوا معاملتهم، واحرصوا على حسن تنشئتهم”. ولهذا ينبغي للمؤسسات التعليمية والمجتمع أن يقفوا جنبًا إلى جنب مع الأسرة للاهتمام بالأطفال والنشء؛ بأن ينظموا أنشطة ممنهجة من أجل النمو البدني والتطور الذهني للطفل، وأن يتحلوا بأسلوب المعاملة الحسنة من أجل التربية الروحية والأخلاقية لديهم. وإلا فإن التناقضات والاختلافات الاعتقادية والأخلاقية والثقافية والعملية بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، سوف تقلب العالم القلبي والذهني للطفل والنشء رأسًا على عقب، وتلقي بهم في ازدواجية معقدة.
لذا فإن هؤلاء الصغار أصحاب الفطرة النقية والبريئة، لا يُهيَّؤون للمستقبل بأسلوب العقاب، بل ينبغي أن يحظوا بداية بالاهتمام، وأن تُلبى احتياجاتهم المادية والمعنوية بلطف وإحسان، وتُمد إليهم يد العون بحكمة ولين. وبطبيعة الحال فإن كل إنسان بمنزلة عالَم مستقل بذاته مزود بمشاعر وقابليات مختلفة. وبينما يلفت صلى الله عليه وسلم الانتباه إلى هذا الاختلاف يضرب المثل بالمعادن، فيقول صلى الله عليه وسلم: “النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا…“4. المهم هنا هو التعرف جيدًا على فطرة وطبيعة ومهارات الطفل، ومن ثم يتم تحديد المنهج المناسب للتربية والتعليم، فيُصبغ بالقيم الإنسانية والإسلامية والأخلاقية، ليحظى في النهاية بالفلاح والصلاح والنجاح.
تدريبه على التفكير في العقاب قبل ارتكابه الخطأ!
إن البراءة والنقاء ميزة وعنصر مهم في التربية والتعليم، فلهما دور مهم في التعرف على المخاطب جيدًا والاهتمام به، ثم يعقب ذلك تعليمه ما يجهله، وقد بعث الله جميع رسله وأنبيائه معلمين5، وأنزل عليهم الكتب التي نزلت لتعلِّم الناس ما لم يعلموا، وليفرقوا بين الخير والشر. لهذا فإنه قبل التطرق إلى أسلوب العقاب في تربية وتعليم الأطفال والنشء، فإن أول ما يجب فعله هو توعيتهم، وتلافي نقص المعلومات لديهم. فيتعلمون لماذا الشر شرًّا، ولما الخير خيرًا، والفرق بين الضار والنافع وذلك بأسلوب حكيم ليِّن. وإلا فإن التطرق إلى أسلوب العقاب أولًا قبل التوعية والتعليم ربما يؤدي إلى الظلم والعدوان. وتلك الواقعة التي حدثت لعبد الله بن بشر رضي الله عنه في عصر السعادة النبوي هي خير مثال على هذا، فيقص علينا رضي الله عنه بنفسه هذا الموقف، فيقول:
“أصابتني سِنَة فدخلت حائطًا من حيطان المدينة، ففركت سنبلًا فأكلت، وحملت في ثوبي، فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للرجل: “مَا عَلَّمْتَ إِذْ كَانَ جَاهِلًا، وَلَا أَطْعَمْتَ إِذْ كَانَ جَائِعًا“، وأمره صلى الله عليه وسلم فردَّ عليَّ ثوبي وأعطاني وسقًا أو نصف وسق من طعام6.
وكما يتضح من المثال، فإنه صلى الله عليه وسلم ينتهج أسلوبًا في تربية وتعليم الناس يقوم بداية على التوعية والتعليم. حتى عند وقوع المخاطب في الخطأ يحرص صلى الله عليه وسلم على اطلاعه على المسألة بجميع جوانبها تجنبًا للوقوع في الظلم، أو معاقبة المخاطب دون وجه حق، فيستكشف الوضع والحال والظروف التي تحيط بالمخاطب قبل أن يصدر حكمًا أو يوجه المخاطب نحو الصواب. فهذا الصحابي صاحب البستان الذي تعجل في اتباع أسلوب العقاب مع صاحبه، يخبره صلى الله عليه وسلم “مَا عَلَّمْتَ إِذْ كَانَ جَاهِلًا” ليبعث له برسالة فحواها: أما كان يجب عليك أن تعلمه أنه لا يجوز أن يأكل أحد من شيء دون إذن صاحبه، فإن لم يجد صاحبه فله أن يأكل فقط مما سقط تحت الشجر من ثمار ليشبع بطنه فحسب؟ بل ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك، فيقول له “وَلَا أَطْعَمْتَ إِذْ كَانَ جَائِعًا” منبهًا إياه على الخطأ الذي وقع فيه. ثم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ثوبه الذي أخذه منه، وليس هذا فحسب، بل ويأمره أن يعطي هذا المحتاج وسقًا أي 60 صاعًا (150 كليو جرام) من تمر.
التذكير بنتائج الشر بدلًا من العقاب!
وبدلًا من التفكير في العقاب من أجل تصحيح الخطأ، لا بد من توضيح النتائج السلبية للأفعال والتصرفات القولية والفعلية السيئة على حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وذلك بضرب الأمثلة والمواقف الواقعية، حتى تتشكل حواجز متينة أمام المساوئ، وتشحذ همم الأفراد. وهذا أسلوب انتهجه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. ومن هذا المنطلق فإن حياة الأنبياء ومجاهدتهم الشرور، والعواقب السيئة التي عوقب بها الأقوام التي لم تصغ إليهم ولم تجب دعوتهم، ينبغي أن تُدرَّس بالتأكيد، في كُتب تتوافق مع أعمار ومستويات المخاطبين. حتى إن القرآن الكريم يدعو ويحث على السير في الأرض والتجول للاعتبار والعظة، فيقول تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ (سورة الرُّومِ: 30/42).
تجربة العفو بدلًا من العقاب!
ينبغي التغاضي عن السلوكيات الخاطئة التي تصدر من الأطفال والنشء للمرة الأولى، مع مراعاة مراقبتهم عن بُعد، فإذا داوموا على القيام بالأفعال والتصرفات والأقوال غير المرغوبة، يتم تنبيههم بأسلوب حكيم ليِّن دون التسبب في إحراجهم أو إخجالهم. فإن العفو في هذه الحالة أكثر نفعًا وأكبر فائدة من التطرق مباشرة إلى أسلوب العقاب. وكان العفو يأتي على رأس المنهج النبوي في التربية والتعليم؛ حيث يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت صلى الله عليه وسلم، فلما كان في الثالثة، قال صلى الله عليه وسلم: “اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً“7.
ومن ثم فإن العفو في التربية والتعليم هو منهج أكثر تأثير في المخاطب من أسلوب العقاب. إذ إن تأثير العقاب مؤقت وقصير المدى، في حين أن تأثير العفو دائم وبعيد المدى. فإذا ما كان ثمة أسلوب أقوى وأفضل نفعًا من العقاب فعدم استخدامه يُعد خسارة ونقص في التربية والتعليم. والمهم ههنا استخدام هذا الأسلوب بتوازن واعتدال؛ أي ألا يُساء استخدام العفو. وللعفو ميزة أخرى ألا وهي تأليف قلب المخاطب وتحريك مشاعره، فمحاولة جعل المخاطب يضع نفسه مكان المتضرر من خطئه، يساعده في الشعور بالندم والإقلاع عن ارتكاب الخطإ. وهذا بلا شك يطور من شعوره ووجدانه، مما يثير لديه شعور الاشمئزاز من الإساءة، والاشتياق إلى الخير والأفعال السديدة. والغاية من التعليم في الأساس ليس العقاب بل تطوير مشاعر ووجدان المخاطب بالعفو والصفح واللين.
الوقوف على مصدر الخطإ بدلًا من العقاب!
في حالة تكرار المخاطب القول أو الفعل أو السلوك الخاطئ، فإنه يجب الإنصات إليه جيدًا والاقتراب منه أكثر حتى يتسنى الوقوف على مصدر وسبب الخطإ. فلا ينبغي التطرق إلى العقاب القولي أو الفعلي، قبل تحديد الأسلوب المناسب، ومحاولة مخاطبة عقل ومشاعر وقلب المخاطب ككل، وإسداء النصيحة إليه بضرب الأمثلة وبأساليب مختلفة. ولا ينبغي ترك المخاطب بمعزل مع خطئه وما يتمخض عنه من نتائج غير مرغوبة. لأن التعامل معه باهتمام وحب وشفقة رغم خطئه يعمل على إيقاظه وتنبيهه، كما يقربه هذا الأسلوب ليس من خطئه بل من والديه ومعلمه ومربيه، مما لا يدع بمرور الوقت حاجة إلى أسلوب العقاب. كما أنه عندما تُزال الأسباب التي تدفعه إلى الخطأ قدر الإمكان، يتمكن المخاطب من الوصول إلى الصواب. فإن كان هذا السبب المؤدي إلى الخطإ هو البيئة، فمن الفائدة تغيير الأصدقاء المحيطين به. وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعمة بالأمثلة على ذلك.
المكافأة المعنوية بدلًا من العقاب!
إن مكافأة الأطفال أو النشء معنويًّا بدلًا من العقاب في مواجهة سلوكهم الخاطئ يمكن أن يؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج سريعة وأكثر إيجابية. وهذه الواقعة التي حدثت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مغزى في هذا الصدد:
دخل رافع بن عمرو بستان صحابي من الأنصار، فأخذ يرمي النخل، ويأكل مما يسقط منه. فأتى به صاحب البستان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكيه ويطلب معاقبته. فاقترب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدوء، وقال له بصوت ملؤه الشفقة: “يا غلام، لم ترمي النخل؟“. فقال الغلام: “يا رسولَ اللهِ! الجوعُ”. فقال له صلى الله عليه وسلم: “لا ترم النخل، وكل مما وقع“.
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة الحكيمة، بل إنه اقترب منه أكثر، فمسح رأس الغلام ودعا له: “اللهم، أشبع بطنه“8.
وكما يتضح، فإنه صلى الله عليه وسلم يستمع إلى المشكلة بهدوء دون أن ينفعل أو يعنِّف الغلام. فلم يصيح في وجهه معنفًا إياه “كيف تفعل هذا الأمر؟” على العكس من ذلك، إنه صلى الله عليه وسلم يقترب منه بعطف وحب قائلًا له “يا غلام”، ويتحدث إليه برفق ولين، ويقدم له حلًّا بديلًا إذا شعر بالجوع مرة أخرى بقوله “كل مما وقع منها”. حتى إنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بهذا، بل يمسح على رأس الغلام، ويكافئه بالدعاء. فبدلًا من أن يعاقبه صلى الله عليه وسلم يكافئه معنويًّا؛ فرجح صلى الله عليه وسلم أسلوب المكافأة المعنوية على العقاب في التربية والتعليم.
هل أسلوب العقاب مفيد؟
في حالة تطبيق هذه الخطوات الموضحة أعلاه في التربية والتعليم، ولم تثمر عن نتيجة إيجابية، يتم اللجوء إلى أسلوب العقاب ولكن بمعايير محددة. إذ ينبغي على الأبوين والمعلمين والمربين أن يدركوا أنه يمكنهم بالعقاب القولي والبدني أن يفرضوا على المخاطب فعل السلوك الإيجابي الذي يريدونه، ولكنهم لن يستطيعوا أن يجعلوا هذا السلوك جزءًا من طبيعتهم. فلما كان الإكراه لا يأتي بخير، أقرَّ الحق تعالى في كتابه العزيز هذا المبدأ الإلهي: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ …﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/256). فيخاطب الحق تعالى العقل والقلب والروح والفكر معًا، ويؤكد على حرية الاختيار، ويَعِد بالثواب والعقاب، ولكن لا يُكره أحد على شيء. كذلك يخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (سورة الغَاشِيَةِ: 88/22).
فلن يكون الإنسان بالإكراه مؤمنًا ولن يتحلى بالخلق العظيم، ولن يصل إلى الكمال، ولكن يكون منافقًا. بينما الأفعال التي تصدر بحب ورغبة وطيب خاطر، فيكون لها قيمة كُبرى لأنها تصدر تعبيرًا عن الذات. ومن ثم فإن السلوكيات التي تقوم على الإكراه والضغط لا ترتقي بالإنسان إلى مستوى الكمال، فينبغي الوفاء بحق الإرادة، واحترام الذات. فحيثما كان الإكراه تلاشت الفضيلة وحل مكانها الهوى، فالهدف من العقاب هو ترسيخ السلوك الصحيح وليس إيقاع الضرر بالمخاطب.
خلاصة القول
- العقاب ليس الأسلوب الأمثل في التربية والتعليم، فليست ثمة حاجة إليه في مناخ يسوده التواصل الصحي والعلاقات الطيبة بين الآباء والأبناء، وبين المعلمين والطلاب. بمعنى آخر، لو أن ثمة داع إلى العقاب سواء في البيت أو المدرسة، فينبغي مراجعة جودة العلاقة والتواصل بين الأبناء والطلاب.
- إن تأثير العقاب مؤقت وقصير المدى، فغالبًا ما يزول السلوك الجيد بمجرد أن يزول الخوف أو الحزن أو الألم الذي سببه العقاب أو الإكراه. وغالبًا أيضًا ما يعتقد المخاطب الذي وقع عليه العقاب أنه قد نال جزاء ما صنع، ومن ثم يرى نفسه حر بعد ذلك. كما أن المخاطب إذا ألِف واعتاد أسلوب العقاب والإكراه، أصبح مناخ التربية والتعليم فاسدًا غير مجدي. أمَّا العقاب الذي يزداد شدته في كل مرة، يضر بشكل كبير بعلاقة الأبوَّة أو المعلم والمربي، ويتلاشى مبدأ الاحترام والتقدير الذي يقوم عليه التربية والتعليم. ولذلك فرغم أن أسلوب العقاب، مثل أسلوب المكافأة، يبدو أنه يقدم حلًّا على المدى القصير، إلا أنه لا يكفي لأن يصبح السلوك المرغوب جزءًا من طبيعة الإنسان.
- إن العقاب الذي يُظن أنه مفيد مثله مثل المضادات الحيوية تضر بقدر ما تفيد؛ أي ينبغي وضع الآثار الجانبية لها بعين الاعتبار. على سبيل المثال، يمكن لمشاعر الغضب والكراهية والانتقام تجاه الشخص الذي أجرى العقوبة أن تفصل الأطفال أو النشء وتبعدهم تمامًا عن معلميهم أو أولياء أمورهم، ويجعلهم أكثر ميلًا للعنف. فبينما يكون العقاب بهدف غرس السلوك الجيد في المخاطب، إذ به يكون سببًا في اكتساب المخاطب مشاعر العنف والشدَّة. ولهذا السبب يجب أن تكون مكافآت وعقوبات الآباء تجاه أبنائهم والمعلمين تجاه طلابهم مناسبة لنموهم الجسدي والعاطفي والروحي. لا ينبغي للمكافآت المقدمة إليهم أن تدللهم أو تجعلهم مدمنين لها، ولا ينبغي للعقوبة المطبقة أن تُلحق ضررًا دائمًا ليس فقط لأجسادهم ولكن أيضًا لعواطفهم. فلا ينبغي أن تتحول العقوبة إلى آلة ردع لتحقيق الانضباط في التربية والتعليم.
- الأطفال والنشء الذين يتعرضون للاضطهاد بالعقاب والتهديد قد يصبحون منافقين ذوي وجهين بدلًا من أن يتعلموا الخير، ويكون ذلك جزءًا من طبيعتهم. فعندما لا يكون هناك من يراقبهم أو يعاقبهم، فإنهم يتصرفون كما يحلو لهم؛ وعندما يروا كبارهم، فإنهم يخدعونهم ويتصرفون بطريقة ترضيهم.
Footnotes
- صحيح البخاري، الجنائز، 78 (1359)؛ صحيح مسلم، القدر، 6/23-25 (2658).
- سنن ابن ماجة، الأدب، 3 (3671).
- سنن أبي داود، الأدب، 144 (5162، 5163).
- صحيح مسلم، البر، 49/160 (2638).
- انظر: سنن ابن ماجة، المقدمة، 17 (229)؛ الدارمي، المقدمة، 32/361.
- سنن أبي داود، الحهاد، 93 (2620)؛ سنن ابن ماجة، التجارة، 67.
- سنن أبي داود، الأدب، 133 (5164)؛ سنن الترمذي، البر، 31 (1949).
- سنن أبي داود، الجهاد، 94 (2622)؛ سنن ابن ماجة، التجارة، 67 (2299).