الأسس النبوية في التربية والتعليم (23): التربية بالمثوبة والمكافآت المعنوية!

بقلم الدكتور/ سليم عبد الله

يمكن تصنيف المكافآت في التربية والتعليم إلى فئتين؛ مادية ومعنوية. وتتمثل المكافآت المادية في أشكال مختلفة ما بين ألعاب وأطعمة أو ألبسة وهدايا وفقًا لعُمر المخاطب واحتياجاته. وعلى الرغم من الاعتقاد بأن المكافآت المادية أكثر أهمية، فإن المكافآت المعنوية والعاطفية هي في الواقع أكثر وقعًا وتأثيرًا. لأن المكافآت المعنوية التي تخلق رضاء داخليًّا، لها تأثير أكثر إيجابية على النمو النفسي للمخاطب، وتشكل أرضية سليمة للتهيئة السليمة للمستقبل. ويمكن تناول المكافآت المعنوية في ثلاثة عناوين رئيسة:

الحب والاهتمام!

الحب هو أساس التربية والتعليم، وينعكس على أرض الواقع في صورة الشفقة والرحمة والاهتمام. فدون هذا لا يمكن الحديث عن التربية والتعليم، فمن لا يُحب؛ لا يهتم ولا يعبأ بمخاطبه ولا يصبر عليه ولا يتفانى في تعليمه. ومن لا يهتم ولا يجتهد؛ فلن يكون لحبه الجاف هذا قيمة تُذكر. لذا فإن الحب الذي يتحول إلى اهتمام وشفقة ورحمة، هو أحد أكبر المكافآت المعنوية.

كذلك فإن من أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم المبعوث معلمًا ورحمة للعالمين هو “الحبيب”1. فهو الحبيب والمحبوب والمعبِّر عن حبه للآخرين. فإن تسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم على وجه أخص ونسبته إلى الله بقول “حبيب الله”، خير دليل على أن منهج تبليغه وإرشاده وتربيته وتعليمه يقوم تمامًا على الحب والاهتمام والرحمة. فمن يدركون أن أصل جوهره صلى الله عليه وسلم يقوم على الحب، فلن يحرموا أولادهم ولا طلابهم من المكافأة بالحب.

الثناء والدعاء والتقدير!

تُعد مجاملات الآباء لأبنائهم والمعلمين لطلابهم إذا أبلو بلاءً حسنًا في التربية والتعليم والثناء عليهم وتقديرهم في التوقيت المناسب بمثابة مكافآت معنوية قيمة. فلكل طفل أو طالب مهارات أو سلوكيات تستحق المدح بالتأكيد. فإذا ما حانت الفرصة المناسبة تحتم على الآباء والمعلمين ألا يفوتوها في التقدير والثناء للأبناء والتلاميذ. فمن يحظون بالتقدير على سلوكياتهم الجيدة، يتأثرون إيجابيًا من هذه المعاملة، وتُشحذ هممهم. ثم إن هذا الثناء يحفزهم في الوقت نفسه ويوجههم إلى الصواب دائمًا.

وقد كان صلى الله عليه وسلم “معلمًا مقدِّرًا” دائمًا لطلابه وأصحابه الذين من حوله؛ فكما كان صلى الله عليه وسلم يحث طلابه دائمًا خلال تربيتهم وتعليمهم على العمل الصالح والخلق الحسن، كان يتابعهم أيضًا من كثب، فيثني على مواقفهم وسلوكياتهم الطيبة، وحرصهم على العلم والعبادة والطاعة، وعلى تمثيلهم الحق، وتضحياتهم وغير ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة لدرجة أنه قد أُفردت فصول مستقلة بعنوان “فضائل الصحابة، والمناقب، ومناقب الأنصار” في كثير من كتب العلماء. وقد لعبت المكافآت المعنوية من النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الثناء والمدح والتقدير دورًا مهمًّا في تربية وتعليم الصحابة الكرام، وتشكيل شخصياتهم، وتطور مواهبهم.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يكافئ مخاطبه بالثناء والدعاء له على الأفعال والسلوكيات والخصال الحميدة التي تعجبه فيه. فذات يوم طلب صلى الله عليه وسلم ماءً من عمرو بن الأخطب، وهو لا يزال غلامًا صغيرًا، فجاءه بقدح فيه ماء، فكانت فيه شعرة، فأخذها عمرو قبل أن يقدمها لرسول الله، فلما رآه صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مسح على وجه الغلام ودعا له “اللَّهمّ جَمِّله” تقديرًا على صنيعه المحمود هذا2.

كما يخبرنا سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليه ودعائه له بقوله: أتى النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءًا، فلما خرج قال: “مَنْ وَضَعَ هَذَا؟“، قالوا: ابن عباس، فقال صلى الله عليه وسلم: “اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ3. فكانت هذه المكافأة المعنوية سببًا في أن يكون ابن عباس رضي الله عنه “حبر الأمة، وترجمان القرآن”.

كذلك أبو هريرة رضي الله عنه لما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم سؤالًا، سُرَّ رسول الله وأثنى عليه. يقول أبو هريرة: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “لَقَدْ ظَنَنْتُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنْ لاَ يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ4.

وكما يتضح من الأمثلة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقابل السلوكيات الطيبة، وما يلقى من اهتمام وقُرب، وما يراه من شغف بالعلم، وما يُقدم إليه من خدمات وغير ذلك بالثناء والتقدير والدعاء مكافأة لمخاطبه. وبهذا يحفز رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبه على طلب العلم والتعلم، كما يُرسِّخ فيه السلوك الطيب الذي أبداه.

الاحتضان والمعانقة!

هناك جزء من المكافآت المعنوية تتمثل في القرب من الأطفال والنشء في الحياة اليومية، والتعبير عن حبنا الشديد لهم واهتمامنا بهم. فمن الأمثلة على ذلك على وجه العموم هو تقديرهم مثلًا بقول “أحسنت”، ومعانقتهم، وتقبيلهم، والتربيت عليهم، ومسح رؤوسهم، والتصفيق لهم، ومسك أيديهم، وغير ذلك من الأفعال الدالة على القرب.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل بحميمة وقرب شديد مع الأطفال؛ فكان يعانقهم، ويقبلهم، ويجلسهم على فخذه، ويمسح رأسهم ووجههم، ويقضي بعض الوقت معهم. فقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب عقولهم، وكذلك مشاعرهم وعواطفهم، ويقيم في الوقت ذاته اتصالًا عاطفيًّا معهم بالتلامس البدني كمسحه على رأسهم والتربيت عليهم، فاستقر في قلوبهم بأقواله، وأكّد ذلك بأفعاله، ومن ثم كان لهذا الأسلوب النبوي الفضل في تحبيب الطفل في التربية والتعليم، والتأكيد على السلوك الإيجابي لدى الطفل. وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم قد كافأهم، ورسَّخ فيهم السلوك المرجو. إذ إن التواصل البدني في أثناء التربية، هو عنصر مهم في لغة البدن. فمسح رأس طفل، ومصافحته، والتربيت على صدره وغير ذلك من المكافآت المعنوية، يكون تأثيرها في أغلب الأحيان أقوى من تأثير الكلمة والنصيحة. وهي مع ذلك تترسخ في ذهن الطفل، وتظل ذكرى جميلة لا ينساها طوال حياته.

كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم أسلوب المكافأة من أجل تأليف قلوب بعض الناس إلى الإسلام، حتى إنه يفعل ذلك بعد إسلامهم من أجل تثبيت الإيمان في قلوبهم، وتحبيبهم في الخير والعمل الصالح. وأطلق القرآن الكريم على هؤلاء اسم “المؤلفة قلوبهم” وأنهم من الأصناف التي تُصرف لهم الزكاة. ومن ثم تُستخدم الزكاة كوسيلة ومكافأة لتحفيز الناس إلى الهداية سواء كانوا محتاجين أم لا. على سبيل المثال صفوان بن أمية يقول: “أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الخلق إلي، فما زال يعطيني، حتى إنه لأحب الخلق إلي”5.

كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤلف ويرقق قلوب بعض رجال قريش ممن تخلوا حديثًا عن معتقدات وعادات الجاهلية، أو يحاولون التخلص منها، فيؤلف قلوبهم بالمكافآت المادية، مما يسهل من دخولهم الإسلام. وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك سواء دخلوا الإسلام أم لم يدخلوا.

وبالتالي كان لهذا الأسلوب عظيم الأثر في تشجيع غيرهم على اعتناق الإسلام، ورسّخ في الوقت نفسه إيمان من اعتنق الإسلام، وقوّى صلته به. لذلك خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا كبيرًا من غنائم حُنين لمن هم حديث عهد بالإسلام، وليس المهاجرين والأنصار. ثم إن العطايا التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم كنوع من الهدايا لرؤساء الأقوام وأصحاب النفوذ في عشائرهم، كانت سببًا في تأليف قلوب أقوامهم، ودخولهم الإسلام. فمن هؤلاء: أبي سفيان، وأبنائه، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، ومالك بن عوف… والواقع أن هؤلاء جميعًا أحسنوا إسلامهم بعد تلك المرحلة، وقدموا خدمات جليلة للإسلام.

خلاصة القول:

المكافأة، تُعد آلية مفيدة في تشكيل السلوك الإيجابي وترسيخه في المخاطب.

يجب أن تكون المكافأة في المكان والزمان المناسبين دون الوقوع في المبالغة والتفريط، وأن تكون وسيلة لتعزيز وترسيخ السلوكيات المرجوة. فإن استُخدِم هذا الأسلوب المفيد بدرجة مفرطة ومتكررة تلاشى تأثيره الإيجابي، وأصبح ضرره أكبر من نفعه.

إن المبالغة في المكافآت، أو الإفراط في الثواب، يدلل المخاطب، ويجعله نهمًا نحو المكافأة دائمًا. فالأطفال الذين تغمرهم المكافآت ولا يفعلون واجباتهم إلا من أجل المكافأة، لن تقنعهم حتى أغلى الهدايا والمكافآت والألعاب بمرور الوقت.

ينبغي ألا تكون المكافأة شيئًا ماديًا وفقط، فالتبسم في وجه المخاطب، والثناء عليه عند نجاحه في أمر ما، والدعاء له يكون كافيًّا في كثير من الأحيان.

إن عنصر التحفيز بالمكافأة، وتأثيرها الإيجابي، هو فعَّال بالنسبة للأعمار كلها. ومع ذلك فإن السنوات العشر الأولى من حياة الفرد التي يتعلم فيها، ويكتسب كثيرًا من التجارِب والخبرات تكون المكافأة فيها أكثر فائدة. ولا سيما في هذه المرحلة العمرية فإن المكافآت المعنوية والعاطفية تكون أكثر أهمية وفائدة من الهدايا والمكافآت المادية.

إن ماهية المكافأة مهمة بقدر مبدأ المكافأة. ومن هذا المنطلق، فإن المكافأة إذا كانت لا تُلبي حاجة المخاطب، أو أن المخاطب لا يريدها، أو يرى أنها لا تُعد مكافأة، لا يكون لها تأثير إيجابي. أو أن مكافأة المخاطب بشيء يمكنه الحصول عليه بسهولة لا يعني أي أهمية في التربية والتعليم.

إن ترجيح المكافآت المعنوية على المكافآت المادية هو عين الصواب، لا سيما من عُمر الميلاد إلى السادسة التي يتشكل فيها العقل الباطن لدى الطفل. ويكون ذلك من قبيل: اللعب مع الطفل، ومعانقته، والتربيت على ظهره، واصطحابه إلى المنتزه أو الملاهي أو حديقة الحيوانات، وشراء الألعاب والكتب المسلية له، وقراءة الكتب أو الرسم معه، أو مشاهدة الأفلام معه، وغير ذلك من الأفعال الإيجابية…

بينما المكافأة في عمر (6 : 12)، يجب أن تكون وفق نظام يراعي إلى حد بعيد مواهب المخاطب؛ فتُنظم على هذا الأساس الأنشطة الاجتماعية والرياضية. فيُشترى له دراجة على سبيل المثال، أو تُنظم له مسيرات مشتركة، ويوجه إلى رياضة توافق ميوله ومهاراته، أو يتم اصطحابه إلى نزهة أو إلى الطعام، وتقديم الأطعمة الشهية له من قبيل الكعك والحلوى، كذلك الخروج معه، وتنظيم المخيمات، وغير ذلك من الأنشطة المفيدة.

أما في مرحلة البلوغ، تكون المكافآت التي تبيِّن أنه أصبح محلًّا للثقة، وأن بإمكانه تحمل المسؤولية –تكون- أكثر فائدة. ومن الأمثلة على ذلك: السماح له بإعادة ترتيب حجرته، وتهيئة المناخ ليحتفل مع أصدقائه في المنزل، والخروج معهم في نزهة، وإرساله للنزهات أو المخيمات الصيفية التي ينظمها المعلمون، وقضاء وقت معه في البيت، والسماح له باستضافة أحد أصدقائه في المنزل، وغير ذلك من المكافآت من هذا القبيل التي تكون لها تأثير إيجابي في هذه المرحلة العمرية. ويمكن ترجيح مكافآت إضافية على ذلك وفقًا لعمر الطفل أو لإمكانات عائلته.

أما إذا وصل الطفل إلى عمر يستطيع أن ينجز عملًا، فإن أسلوب المكافأة لا يجد نفعًا في هذه المرحلة. لأن الابن الذي يرى أنه يحصل على المكافأة نظير أي عمل صالح أو سلوك طيب يقوم به، فإنه يفعل ذلك ليرضي والديه، وليحصل على المكافأة فحسب، وليس لأنه يعتقد بأنه يفعل ذلك بدافع أخلاقي. فالطفل الذي يؤسس حياته على أساس المكافأة، فإنه يهجر في الغالب السلوكيات الطيبة التي اكتسبها عندما لا يجد من يمنحه المكافأة، وفي هذه الحالة يخمد تمامًا حماس الطفل نحو الأفعال الطيبة؛ حيث إنه لا يدرك القيم والجماليات المادية والمعنوية التي ستجلبها له هذه السلوكيات والأفعال الطيبة. لذلك يجب أن يقوم مبدأ المكافأة على زيادة الوعي وليس التكليف.

ينبغي الاستفادة في التربية والتعليم من سمة التحفيز والتشويق التي في المكافأة؛ ولكن يجب في الوقت نفسه معرفة أن هذا المنهج ليس كافيًا وحده في التغيرات السلوكية المطلوبة. فيجب الانتباه إلى أن خاصية التحفيز الكامنة في مبدأ المكافأة ليست كافية لتحفيز المخاطب نحو السلوك المرجو، ولا تضمن تفعيله واستخدامه بشكل تام. فمن الأهمية أن تنبع الرغبة في التغيير والتطور أو التحلي بالانضباط النفسي من قرارة الطفل أو الشاب نفسه.

Footnotes

  1. انظر: سنن الترمذي، المناقب، 3 (3616)؛ الدارمي، المقدمة، 8 (48).
  2. ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، ص1679 (10000)؛ سنن الترمذي، المناقب، 9 (3629).
  3. صحيح البخاري، الوضوء، 10 (143)؛ صحيح مسلم، الفضائل، 30/138 (2477). كما دعا له صلى الله عليه وسلم بقوله ” وعلمه التأويل”، مسند أحمد (2397)؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 8/299. لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الاطلاع على مقال: إشعار المخاطب بالقرب.
  4. صحيح البخاري، الرقاق، 51 (6570).
  5. سنن الترمذي، الزكاة، 30 (666).
قد يعجبك ايضا