الأسس النبوية في التربية والتعليم (20): الحث على طلب العلم

بقلم الدكتور/ سليم عبد الله

كانت السمة البارزة في عهد الجاهلية، الذي بُعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو تجرّد الحياة العلمية والأخلاقية والدينية والحقوقية الاجتماعية من التوحيد والنظام. ولذلك فإن هذا العصر كان عصرًا جاهليًّا، تسود فيه العصبية، ويأكل فيها القوي الضعيف، وتغلب عليه كل أشكال الجور والظلم والنهب والطغيان. ثم إن القبائل العربية التي يعيش معظمها في هجرة وحياة بدوية كانت بعيدة البعد كله عن المفهوم المؤسسي والنظامي للتعليم كما هو الحال في تأخرها -بطبيعة الأمر- في كثيرٍ من المجالات الأخرى. ونظرًا لندرة من يعرفون القراءة والكتابة في هذا المجتمع وندرة أدوات الكتابة، فإن فنون الشعر والخطابة والأدب والأنساب قد حافظت على استمرارها شفاهيًّا1.

في مثل هذه المدة المظلمة التي انقلبت فيها القيم العلمية والأخلاقية والاجتماعية رأسًا على عقب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بُعث رحمةً للعالمين، وعلى رأسهم البشر، يحث محاوريه باستمرار على طلب العلم وتطبيق ما تعلموه على أرض الواقع، فأنشأ جيلاً مثاليًّا للإنسانية جمعاء من قلب مجتمع عربي بدوي. والحقيقة أن القرآن الكريم يلفت الأنظار ويقدِّر على نحوٍ خاص المستوى الذي وصل إليه هذا الجيل بالإيمان والعلم والأخلاق والعمل الصالح، فيقول تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ…﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/110).

القرآن الكريم، يحث على طلب العلم!

كانت أول آية نزلت من القرآن الكريم تلفت الأنظار إلى القراءة والكتابة والعلم، ومن جانب آخر تؤكد حقيقة أن مبتدأ كل شيء ومنتهاه مرهون بالعلم، كما تحث على طلب العلم وتحصيله، هي قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (سُورَةُ العَلَقِ: 96/1-5). ويقول المولى جل جلاله: ﴿… قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (سُورَةُ الزُّمَرِ: 39/9)، ليبيِّن القيمة التي يُكسبها العلم لصاحبه عند الله وعند الناس.

ويقول الله تعالى في آية أخرى: ﴿… إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ…﴾ (سُورَةُ فَاطِرٍ: 35/28)، مشيرًا إلى أن معرفة الله تعالى معرفة حقيقية، وخشيته تعالى حق الخشية لا يكون إلا بالعلم. كما يؤكد أنه لا يَفهم القرآن بحق ولا يعقله إلا العالمون، فيقول تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ﴾ (سُورَةُ العَنْكَبوتِ: 29/43).

وبهذا يتبين أن أرفع الناس مقامًا عند الله، هم العلماء الذين آمنوا بالله تعالى وأوتوا العلم وعملوا الصالحات. فهم يتبوؤون مكانة عظمى في مجتمعاتهم ليس بإيمانهم وعملهم فحسب، بل وبإرشادهم وهدايتهم الآخرين أيضًا. وكما أن الله تعالى سيرفعهم الدرجات العُلى بهذه الأوصاف، فإنه سيرفع أيضًا المجتمع الذي يقدِّر العلم ويجل العلماء، فيقول تعالى: ﴿… يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ… ﴾ (سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ: 58/11). فإن مرتبة العلم، هي أسمى وأرفع من كل القيم والمراتب على مستوى الفرد والمجتمع.

النبي صلى الله عليه وسلم، يحث على طلب العلم!

وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعًا إلى الإيمان والتوحيد ليخرج الإنسانية من ظلمات الجاهلية، كما دعاهم أيضًا إلى طلب العلم والتفكُّر والتدبُّر. لأنه لا سبيل لخلاص الإنسانية من الشرور والآثام والوصول إلى المكارم والإحسان إلا بهذا السبيل. فإن من الأسس النبوية الرئيسة في التربية والتعليم هو الحث على طلب العلم، والحض على العيش به (بالعمل الصالح). لأن الرغبة في طلب العلم والبحث التي تنشأ بالحض والتشجيع، هي أول درجات النجاح في التربية والتعليم. فإذا كان التحفيز باعثًا على الاهتمام بالعلم، وزيادة الشغف به، وحب التعلم، أصبح التعليم سهلًا، على العكس من ذلك فإن التثبيط يُصعِّب السهل وينفِّر منه.

ومن ثم يبيِّن النص القرآني أن مهمة الأنبياء جميعًا وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم هي إخراج الإنسانية من الظلمات إلى النور بالإيمان والعلم، وتصفيتهم وتطهيرهم من أدران الجاهلية، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (سُورَةُ الْجُمُعَةِ: 62/2)2.

لهذا يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق العلم بالطريق المؤدي إلى الجنة، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ3.

ولكي ينتشر العلم سريعًا ويسود المجتمع بأسره، فقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم مكانًا لطلبة العلم في المسجد النبوي الشريف، تُلقى فيه الدروس بشكل منتظم. عُرف هذا المكان بمدرسة “الصُفَّة”، فكان صلى الله عليه وسلم يحث الطلاب الماكثين في هذا المكان على المداومة على حلقات الذكر والعلم، ويعبر دائمًا عن فرحه بهم. فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -ذات يوم- من بعض حُجره، ودخل المسجد، فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرءون القرآن، ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعبيرًا عن فرحه بهم: “كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ، هَؤُلَاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا4.

كما يؤكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرورة استغلال أي مكان أو بيت في تحصيل العلم ومدارسته وليس المساجد فحسب، فيقول صلى الله عليه وسلم: “…وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ…5.

وهكذا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يحرص في عصره على قراءة القرآن الكريم بشكل صحيح وجيد إلى جانب فهمه فهمًا سليمًا، وكذلك انتشار العلوم المتعلقة به. يقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ6 حاثًّا أصحابه على التعمق في العلم. علاوة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتبر أيضًا الأنشطة العلمية من الأعمال الصالحة، كما يُخبر بأنها بمثابة حوض تطهير وتزكية للعبد، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ طَلَبَ العِلْمَ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى7.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الأمثلة الملموسة لأصحابه ليفهموا قيمة العلم جيدًا، ويلفت الانتباه إلى أن طالب العلم يحظى بثراء معنوي عظيم. فقد تطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الموضوع في إحدى خطبه، فقال: “أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟” فأجاب الصحابة: “نُحب ذلك يا رسول الله”. فيلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتباه إلى هذه الحقيقة: “أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ8.

البُعد عن مجالس العلم!

إن فضل العلم يعُمّ أيضًا المجالس والأماكن التي يُلقى فيها، ويُكسبها قيمة مختلفة. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر، وفي الوقت نفسه قد حذَّر من الابتعاد عن العلم وبطبيعة الحال عن مجالس العلم. فقد روى أبو واقد الليثي هذا الموقف الذي يبيِّن مدى اهتمام وحساسية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، فيقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد والناس معه، إذ أقبل نفر ثلاثة، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، قال فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا.

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ9. فهنا يحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرغب عن العلم والعلماء ومجالس العلم والذكر والتفكر، ويبتعد عنها، بأنه قد يبوء بالخسران الأبدي، وفيه أيضًا حثٌّ للمؤمنين على مجالس الذكر والعلم.

اطلبوا العلم قبل أن يُقبض!

وبينما يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين على طلب العلم والاهتمام به يؤكد أيضًا على ضرورة تقدير العلماء، ويبيِّن أن هذا مسؤولية اجتماعية. فإن حماية الدين والإيمان والعلم والمجتمع، والحفاظ على استمرارية وتطوير الأنشطة العلمية، مرهون بوجود رجال العلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا10.

ومن ثم فإن العلم والعمل الصالح هما السبيلان -بعد الإيمان- اللذان يجعلان الإنسان كاملًا ويتحلى بالفضائل. بينما المجتمع الذي يهمل العلم والبحث العلمي، لا يرتقي ماديًّا ولا معنويًّا، ويصير متخلفًا عن الأمم التي تهتم بالعلم؛ حيث تقع المجتمعات التي تفقد علماءها في الزيغ والضلال بمرور الوقت، ولا تنتبه لذلك أصلًا. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتوى دون علم، ووصف من يضلل غيره بالخائن، فيقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ11.

العلم في مواجهة فتن آخر الزمان!

كما يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه والمؤمنين من فتن عظيمة ستحدث في آخر الزمان، ويخبر بأن العلم سيُقبض، وسيسود الجهل، ومن ثم يبيِّن صلى الله عليه وسلم أن السبيل للتحصن من هذه الفتن هو بسلاح العلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: “سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ12.

العلم يُخلد ذكرى الإنسان حتى بعد موته!

عندما يحث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم وتحصيله، يشير إلى أن هذا العلم سبب من أسباب خلود الإنسان بعد الموت، يقول صلى الله عليه وسلم: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ13. كما يذكر صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يغبط الإنسان أخاه إلا في العلم والإنفاق في سبيل الله، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ14.

ونظرًا لهذا المستوى من المعرفة الذي يكتسبه الناس من العلم والخدمات التي يقدمها للإنسانية حتى بعد الموت، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين لن يشبعوا من هذا الخير أبدًا، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لَنْ يَشْبَعَ المُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ يَسْمَعُهُ حَتَّى يَكُونَ مُنْتَهَاهُ الجَنَّةُ15. كما يوضح في حديث آخر نهم المؤمن في طلب العلم والحرص على تحصيله، فيقول صلى الله عليه وسلم: “الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا15.

السعي والرحلة في طلب العلم!

بينما يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلب العلم، يحث أيضًا على السعي والسفر في سبيل تحصيل ولو معلومة جديدة إذا لزم الأمر. فيقول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: “يَا أَبَا ذَرٍّ، لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ، عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ16.

ولهذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إن الرجل لا يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم”17 محفزًا من حوله على طلب العلم. فإن تشجيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعشق وشوق الصحابة إلى طلب العلم والتعلم، كانت سببًا في نشأة واستمرار “رحلة العلم” حتى نهاية السنة السادسة من الهجرة. وبفضل هذا أصبح العلم يؤخذ من مصدره، وفي الوقت نفسه مكَّن من انتشاره بطريقة تشمل المجتمع بأسره.

وكما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبيه على العلم والتعلم، حثهم أيضًا على نقل هذا العلم والحق والحقيقة والجماليات وتطبيقها على أرض الواقع لدرجة جديرة بالبحث والتناول.

Footnotes

  1. لمزيد من المعلومات حول وضع التعليم في عهد الجاهلية، انظر: جواد علي، المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، 8/226-259.
  2. انظر: سورة البقرة، 2/129، 151، 231.
  3. سنن الترمذي، العلم، 19؛ سنن أبي داود، العلم، 1.
  4. سنن ابن ماجة، السنة، 17 (229)؛ الدارمي، المقدمة، 32 (361).
  5. صحيح مسلم، الذكر، 22/38 (2699).
  6. صحيح البخاري، العلم، 13؛ سنن الترمذي، العلم، 1.
  7. سنن الترمذي، العلم، 2.
  8. صحيح مسلم، صلاة المسافرين، 41/250، 251 (802، 803).
  9. صحيح البخاري، العلم، 8؛ صحيح مسلم، السلام، 10/26 (2176).
  10. صحيح البخاري، العلم، 34؛ صحيح مسلم، العلم، 5/13 (2673).
  11. انظر: سنن أبي داود، العلم، 8.
  12. سنن ابن ماجة، الفتن، 9؛ الدارمي، المقدمة، 32.
  13. صحيح مسلم، الهبات، 14 (1631).
  14. صحيح البخاري، العلم، 15؛ صحيح مسلم، المسافرين، 47/ 266-268 (815، 816).
  15. سنن الترمذي، العلم، 19.
  16. سنن ابن ماجة، أبواب السنَّة، 16 (219).
  17. صالح بن عبد الله بن حميد، ندرة النعيم، 7/ 2976.
قد يعجبك ايضا