الأسس النبوية في التربية والتعليم (2): الحب والشفقة
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
الحب هو أساس التربية ولبّها؛ والشفقة هي انعكاس لهذا الحب على أرض الواقع واستحالته فعلًا ملموسًا. ومن ثم فإن الحب هو البذرة، والشفقة والرحمة هما ثمرته. فلا مجال للحديث عن التربية والتعليم دون هذين الأساسين الحيويين. لأن الحب والشفقة هما آليتان لهما تأثير كبير في استنارة العقل، وتطوير المحاكمة العقلية، وتقوية الذاكرة وتنشيطها فضلًا عن القلب والعواطف. فلا سبيل إلى حب العلم ولا حب المعلم دون شعور المحبة، ولا سبيل إلى فتح أبواب القلب على الحقائق والانشراح بها دون الشفقة والرحمة. والحق أن هاتين الآليتين كانتا جزءا لا يتجزأ من المنهج التربوي للنبي صلى الله عليه وسلم. فقد تعامل صلى الله عليه وسلم بأسلوب ملؤه الحب والشفقة تجاه الصغار وتجاه طلابه وأصحابه، وأوصاهم أيضًا بالاقتداء به في هذا الأمر.
الحب في الله، والإفصاح عن هذا الحب!
الحب هو الأساس الذي تقوم عليه التربية، ولا أهمية لهذا الحب دون الإفصاح عنه، فلا تقل سنَّة الإفصاح عن الحب في التربية أهمية عن شعور الحب نفسه. لأنه إذا علم الطفل أو الشاب بأنه محبوب، وعُبِّر له عن ذلك، أحب معلمه وأحب درسه على حد سواء. وعلى النقيض من ذلك فإن الحب غير المعلن لا يعطي ثمرته المرجوة، ولا يسهم في التعليم. ومن ثم فإنه من الخطأ عدم التعبير عن الحب الذي قد ينبع من منطلق الفكرة التي تقول: “لو أفصحت عن حبي فقدت سيطرتي عليهم أو تدللوا”. لأن الحب غير المعلن يكون مجهولًا في معظم الأحيان، ومن الممكن أن يخلق هذا الجهل فجوة بين الطالب ومعلمه، وبين المعلم وطلابه. وفي النتيجة يصبح المعلمون والطلاب في المدرسة، والآباء والأبناء في المنزل، يتشاركون نفس المحيط لكنهم كالغرباء.
ومن هذا المنطلق فإن المنهج الذي يطبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوصي به في التربية هو حب الغير، والإفصاح عن هذا الحب، يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا أحبَّ الرجلُ أخاه فلْيُخبِرْه أنه يُحبُّه“1. وانطلاقا من هذا المنهج النبوي، أتى رجل النَّبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فمرَّ به صاحبه، فأشار إليه قائلًا: “يا رسول الله إني لأحب هذا”، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أأَعلمْتَهُ؟” قال الرجل: “لا” فقال صلى الله عليه وسلم: “أعلِمْهُ“، فلَحِقَهُ الرجل، فقال له: “إني أحبك في الله”، فرد عليه صاحبه: “أحبَّك الذي أحبَبْتني له”2.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطبق هذا المنهج التربوي في حياته، ويوصي الآخرين الالتزام به، فكان بين الحين والآخر يظهر حبه لأصحابه وأبنائهم وأهله وأحفاده. فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ حفيديه، الحسن والحسين، فيقعداهما على فخذيه، ثم يضمهما بشفقة، ويقبلهما؛ حتى إنه لم يكتف بهذا، بل يدعو أمامهما قائلًا: “اللَّهُمَّ ارْحَمْهُما فإنِّي أرْحَمُهُما… اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهُما فأحبَّهُما“3، معلنًا أمامهما عن حبه لهما وشفقته عليهما.
وفي موقف آخر، بينما الحسين رضي الله عنه يلعب مع أقرانه في الشارع، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تقدم أمام القوم، وبسط يديه، فجعل الحسين يفِرُّ ها هُنا وها هُنا، ويضاحِكه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى أخذه، فقبَّلَه صلى الله عليه وسلم وقال: “حُسَيْنٌ منِّي، وأَنا مِن حُسَيْنٍ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سبطٌ منَ الأسباطِ“4.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر حبه هذا أمام أصحابه أيضًا، ليكون قدوة حسنة لهم في تربية أبنائهم. فذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، يلثُمُ هذا مرة وهذا مرة، حتّى انتهى إلى أصحابه. فقال له أحد أصحابه وقد تأثر من هذا المشهد الرقيق: “يا رسول الله، إنك لتحبهما؟” فقال صلى الله عليه وسلم: “من أحبَّهما فقد أحبَّني ومن أبغضَهما فقد أبغضَني“5، مؤكدًا على وجوب حب من يحبهم صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم فإن أول منهج تربوي في المنزل هو الحب والشفقة، وهذا الحب يُكتسب من الأب والأم. يقول صلى الله عليه وسلم: “إنّ الوُدَّ يُتَوارَثُ“6. وسبيل ذلك هو الشعور بالحب، والإفصاح عن هذا الحب، ثم تحويله إلى شفقة ورحمة وتسامح ورفق ولين، ومعايشة ذلك في الحياة اليومية، ولا ينبغي في الوقت نفسه تجاهل أنه حق للغير.
الشفقة: تجسيم للحب
لا يقل الحب أهمية في النمو والتطور النفسي والروحي بقدر لبن الأم في النمو والتطور البدني والجسماني للطفل. لأن الحب هو البذرة التي ستنبت في فطرة الطفل النقية جميع ألوان الخير والجمال. غير أن القيمة التربوية للحب اللفظي الذي لم يتحول إلى اهتمام وشفقة ورحمة تكاد لا تذكر، إن لم تكن معدومة. بتعبير آخر، ما يجعل للحب قيمة وأثرا هو أن يتحول إلى اهتمام وشفقة ورحمة. ومن هذا المنطلق فإن الشفقة والرحمة هما أحلى ثمار الحب وأكثرها فائدة. ولا تكاد حياة نبي المحبة والرحمة صلى الله عليه وسلم تخلو من الأمثلة على هذا الخلق النبوي.
وها هنا ذا يعرِّفنا سيدنا أنس رضي الله عنه عن هذا الجانب من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال خدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين متواصلة، يقول رضي الله عنه: “ما رأيت أحدًا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم ابنه مُستَرْضَعًا في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، وكان ظِئْرُه قَيْنًا، فيأخذه، ويقبله، ويرجِع”7.
وفي هذا الصدد أيضًا، يقص سيدنا أنس رضي الله عنه موقفًا حضره، يقول: “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب والحسن على فخذه، فيحدث الناس، ثم ينحني ويقبِّل الحسن، ويقول: إني أحبه كثيرًا”8. معبرًا عن حبه له.
كما يروي أبو بريدة رضي الله عنه موقفًا آخر، فيقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ دخل الحسن والحسين المسجد، يمشيان ويعثران ويقومان، فما لبث صلى الله عليه وسلم إلا أن قطع خطبته، فنزل من منبره فأخذهما فحملهما، وأجلسهما أمامه، ثم أكمل خطبته، وقال: “صدقَ الله: إنَّما أمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ. رأيتُ هذينِ يمشيانِ ويعثرانِ في قميصيْهما فلم أصبر حتّى نزلتُ فحملتُهما“9.
إنسان يراعي الشفقة حتى في أثناء الصلاة
كما لا يهمل النبي صلى الله عليه وسلم شفقته بالأطفال حتى في وقت أداء العبادة إذا لزم الأمر، فيهتم بهم بقدر لا يفسد الصلاة. فذات يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد لصلاة العشاء ومعه أحد أحفاده. فتقدم صلى الله عليه وسلم فوضع الغلام، وكبَّر للصلاة. فلما سجد، صعد الغلام على ظهره ﷺ، فأطال السجود. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال الناس: “يا رسول الله، إنك سجدت بين ظَهْرانَيْ صلاتِكَ سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يُوحى إليكَ؟!” فقال صلى الله عليه وسلم: “كلُّ ذلكَ لم يكُنْ، ولكنَّ ابني ارتَحَلني، فكرِهتُ أنْ أُعجِّلَه حتى يَقْضيَ حاجتَه“10.
ومن مظاهر شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه يأخذ حالة المصلين من خلفه بعين الاعتبار، فلا يغفل عن الشيوخ والأمهات، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إنِّي لَأَقُومُ في الصَّلاةِ أُرِيدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيها، فأسْمَعُ بُكاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلاتي كَراهيةَ أنْ أشُقَّ على أُمِّهِ“11. فلما تعارضت عادته ﷺ في الصلاة مع الرحمة بالصبي والشفقة على أمه؛ قدم جانب الرحمة والشفقة عليهما.
إن رحمته وسعت جميع الصغار!
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخص أبنائه وأحفاده فحسب بحبه ورحمته، بل كان يفعل ذلك أيضًا مع أبناء أصحابه. ومن الأمثلة على ذلك: قول سيدنا جابر بن سمرة رضي الله عنه: “صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأُّولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، -يقول جابر- وأما أنا فمسح خدِّي، فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار”12.
ويروي كذلك سيدنا سعيد بن زيد فيقول: “ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة”13. ويحكي عمرو بن هريرة فيقول: “ذهبت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام، فمسح على رأسي، ودعا لي بالرزق”14. ويقول أيضا يوسف بن عبد الله بن سلام: “سمّاني النبي صلى الله عليه وسلم يوسفَ، وأقعدَني على حِجرِه، ومسح على رأسي”15. ويذكر ابن ربيعة بن الحارث فيقول: “بعثني أبي، وبعث العباس الفضل ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخلنا عليه فأجلسنا عن يمينه وعن يساره، فحصرنا كأشد حصر تراه”16.
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال ويعطف عليهم فحسب، بل كان يهتم بهمومهم كذلك. فعندما استشهد أبو بشير بن عقربة في غزوة أحُد، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم ببشير، فإذ به يبكي، فقال له صلى الله عليه وسلم ” اسكُت، أَما تَرضَى أَن أَكُونَ أَنا أَبُوكَ، وَعَائِشَةُ أُمُّكَ؟“17، مهونًا بذلك على الغلام فقده أبيه. فتبسم بشير وقال: “بَلَى“. فمسح على رأسه رحمة به.
ليس منا من لا يرحم صغيرنا!
رُوي أن أعرابيًّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل أحد أحفاده، فقال: “أتقبِّلون صبيانكم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت أحدًا منهم”، فقال صلى الله عليه وسلم: “مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ“18. وفي موقف مماثل لهذا، يرد صلى الله عليه وسلم على من استغرب فعله هذا بقوله: “أوَ أمْلِكُ لكَ أنْ نزعَ اللهُ من قلبِكَ الرَّحْمَةَ؟!”19. كما يحذر صلى الله عليه وسلم بشدة من حرمان الأطفال من الحب والشفقة، فيقول: “ليسَ منّا منْ لمْ يرحمْ صغيرَنا“20. فجعل حبهم مركزًا وأساسًا للتربية والتنشئة السليمة. حتى إنه لم يكتف بهذا، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لا تُنزَعُ الرَّحمةُ إلَّا من شقيٍّ“21، ملفتًا النظر إلى سوء العاقبة التي قد يُمنى بها الإنسان نتيجة عدم رحمته بغيره. وفي هذا الصدد نجد النبي صلى الله عليه وسلم يثني على نساء قريش اللائي يتعاملن برحمة وشفقة مع أبنائهن، كما يقدِّر في شخصهن جميع من يتصف بهذه الصفة النبيلة من الأمهات والآباء والمعلمين الرحماء إلى يوم القيامة.
خلاصة القول:
“الحب” شعور فطري مكنون في الطبيعة البشرية. ومن الواجب تعزيز وتطوير هذا الشعور الذي غرسه الله تعالى في الفطرة الإنسانية من خلال التربية والتعليم. فعلى حد تعبير الأستاذ سعيد النورسي “يصل الإنسان إلى الكمال بالتعلُّم”. ويتحقق هذا في المرتبة الأولى في الوسط المفعم بالحب والرحمة الذي ينشئه الوالدان، ثم في المناخ التعليمي للمعلمين المفعمين بالحب، ثم في البيئة الاجتماعية المليئة بالحب والرحمة التي أنشأها المجتمع الواعي. لذا فإن الحب والشفقة هما أساس التعليم وجوهره. لكن ينبغي على الآباء والمعلمين أن يحولوا حبهم القولي إلى شفقة ورحمة عملية، وبذل الكثير من الجهد في سبيل تحقيق ذلك. إذ يتطلب التعليم مجهودًا كبيرًا بقدر الحب. فمن لم يجتهد فلن يجدي حبه القولي نفعًا، ولن يكون مصدر حياة للطلاب. ومن هذه الجهة فإن الحب والشفقة مصدر تحفيز للمرء، وعامل أصيل في تأسيس رابطة قوية بين الآباء وأبنائهم وبين المعلمين وطلابهم. ولا سبيل للتربية السليمة والتعليم النافع في وسط يفتقر إلى هذه الرابطة القوية.
Footnotes
- سنن الترمذي، الزهد، 54 (2392)؛ سنن أبي داود، 122 (5125).
- سنن أبي داود، الأدب، 122 (5125).
- صحيح البخاري، فضائل الصحابة، 18؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 57-59.
- سنن ابن ماجة، المقدمة، 11؛ الحاكم، المستدرك، 3/177.
- ابن سعد، الطبقات، 6/360-362.
- البخاري، الأدب المفرد، ص 15 (43).
- صحيح البخاري، الأدب، 18؛ صحيح مسلم، الفضائل، 63.
- صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 56.
- سنن أبي داود، الصلاة، 225-227 (1109)؛ سنن الترمذي، المناقب، 30 (3774).
- سنن النسائي، التطبيق، 82. هناك رواية أخرى في هذا السياق حول حفيدته صلى الله عليه وسلم “أُمامة بنت العاص”، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامةَ بنت العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا قام حملها. (صحيح البخاري، الصلاة 106، الأدب 18؛ صحيح مسلم، المساجد، 41.
- صحيح البخاري، الأذان، 65.
- صحيح مسلم، الفضائل، 80.
- صحيح البخاري، الدعوات، 30.
- البخاري، الأدب المفرد، ص 221 (632).
- البخاري، الأدب المفرد، ص 134 (367).
- ابن حجر، المطالب العالية، 2/441.
- البخاري، التاريخ الكبير، 2/78.
- صحيح مسلم، الفضائل، 65؛ سنن الترمذي، البر، 12.
- صحيح البخاري، الأدب، 18؛ صحيح مسلم، الفضائل، 164.
- سنن أبي داود، الأدب، 66 (4943)؛ سنن الترمذي، البر، 15 (1919).
- سنن أبي داود، كتاب الأدب (4/ 441 ط مع عون المعبود): «4942».