الأسس النبوية في التربية والتعليم (11): عدم التصريح بأخطاء المخاطب وإحراجه!
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
يُعتبر “التصريح بأخطاء المخاطب وإحراجه” من التصرفات الخاطئة التي تتكرر في التربية والتعليم. حيث يعتقد كثير من الآباء والمعلمين أنهم بهذه الطريقة يؤهلون أبناءهم ويعدونهم ليكونوا بناة للمستقبل. والحقيقة أن الإنسان مجبول على النسيان، فيقع في الخطأ نتيجة النسيان أو العجلة أو التسرع أو جوانب الضعف المختلفة الكامنة فيه. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ“1. لذا فإنه من المهم هنا هو اتخاذ الموقف المناسب إزاء الأخطاء، وتقديم التوجيه الصحيح لمن أخطأ، وإثارة الإرادة والوعي والحرص لديه حتى يبتعد عن الخطأ. ومن ثم تكون الاستراتيجية الأساسية التي يجب اتباعها في مواجهة الأقوال والأفعال والسلوكيات الخاطئة من الآخرين، هي التعامل معهم بطريقة تمكنهم من التخلص من أخطائهم، وتحويل أخطائهم إلى سلوكيات سليمة، وليس إحراجهم أمام الآخرين.
عدم التصريح بأخطاء الآخرين!
لم يصرح رسول الله صلى الله عليه وسلم قط بأخطاء الآخرين، بل كان يتناول الأمر بشكل عام في مجلسه أو خطبته، ويشير إلى الخطأ دون أن يذكر اسم الشخص، منبهًا على عدم تكرار الأمرة مرة أخرى. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟” 2.
وفي موقف آخر استعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من قبيلة أزد على صدقات بني سليم، يُدعى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فلما جاء لتسليم ما جمع من صدقات، قالَ: هذا مالكم وهذا هدية لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صَادِقًا. ثُمَّ خطب صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ 3.
فلم يصرِّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطأ ابن اللُّتْبِيَّةِ، ولم يجرح مشاعره، بل إنه حول هذه الواقعة إلى فرصة ووسيلة لتعليم المجتمع وتوعيته حتى لا يقعوا في خطأ مثله. فنبَه الجميع على هذا الأمر دون أن يُصرِّح باسم الشخص المخطئ عند معالجته المسألة، وإنما استخدم عبارات عامة. وقد أبرز بأسلوبه هذا ذوقه الرفيع في التعامل وكشف عن القيمة الكبيرة التي يكنّها للإنسان وكرامته.
الوقاية المعنوية من الخطأ!
إن اتخاذ الاحتياطات اللازمة مسبقًا من أجل حماية المخاطب من الوقوع في الخطأ يعتبر من الوسائل المهمة في التربية أيضًا. فلم يكتف الله عز وجل في كتابه العزيز أن يأمر بفعل الخير وينهى عن الشر، بل حثَّ على الأفعال التي هي وسيلة للخير، ونهى عن الأفعال التي هي وسيلة للشر. كذلك من أهم قواعد أصول الفقه الإسلامي قاعدة “سد الذرائع”، أي غلق الأبواب المؤدية إلى المحظور، ومن ثم فهو مبدأ مهم ينبغي الالتزام به في التربية والتعليم.
على سبيل المثال: حرم الإسلام الخمر والميسر 4، وعليه فقد حرَّم الأسباب والوسائل التي تؤدي بالإنسان إلى شرب الخمر أو لعب الميسر، وبهذا فقد حمى المخاطب قبل أن يقع في الخطأ. ويمكننا أن نطلق على هذا الأمر “الوقاية المعنوية”. وإلا فإنه سيكون من الصعب جدًّا تصحيح الخطأ بعدما وقع فيه المخاطب.
وفي موقف آخر، عيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل واليًا على اليمن، يقضي بين الناس، ويعلمهم الإسلام والقرآن، ويجمع الزكاة والصدقات. فلما حان موعد ذهابه إلى اليمن، خرج معه النبي صلى الله عليه وسلم يودعه، وأوصاه قائلًا: “إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ“5.
وكما يتضح من هذا الموقف، فإنه صلى الله عليه وسلم عندما كلف سيدنا معاذ رضي الله عنه بهذه المهمة الكبيرة أوصاه متخذًا بذلك الاحتياطات اللازمة حتى يؤدي المهمة المنوطة به على الوجه الأكمل، ولا يخطأ عندما يقوم بعمله. حتى إن سيدنا معاذ رضي الله عنه طلب إليه أن يوصه أيضًا بما يجب عليه فعله إذا أخطأ أو أذنب، فقال له صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ“6. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا، بل إنه يعِّلم سيدنا معاذ وأبا موسى الأشعري الذي بعثه صلى الله عليه وسلم مع معاذ إلى اليمن، -يعلمهما- هذا المبدأ الذي يعصمهما من كثير من الأخطاء عند سفرهما، فيقول صلى الله عليه وسلم: “يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا“7.
أسرع إلى الإرشاد وليس الإحراج!
إن الإنسان عجول8، ولهذا يتحرك في أغلب الأحيان بعجلة وانفعال، فيثور على المخاطب دون أن يفكر في صحة أو خطأ فعله. ومثل هذا الفعل الشعوري يؤدي إلى ابتعاد المخاطَب عن القائمين على تربيته وتعليمه، ويُلقي به في بحر الأخطاء ويزج به بين شياطين الإنس والجن، لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: “الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ“9، مشيرًا صلى الله عليه وسلم دائمًا إلى ضرورة أن يتحرك الإنسان بحكمة وبعقل ومنطق، ومعطيًا الجميع درسًا في الحلم والتأني. فالاعتدال والتأني والحلم خلق طيب يؤدي إلى حل المشكلة قبل أن تتضخم، فكان صلى الله عليه وسلم يتحرى المشكلات التي تًعرض عليه جيدًا، ويتأنى في الأمر ولا يتعجل في اتخاذ القرار. ويمكن عرض كثير من الأمثلة من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد:
ومنها: أن رافع بن عمرو دخل بستان صحابي من الأنصار، فأخذ يرمي النخل، ويأكل مما يسقط منه. فأتى به صاحب البستان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكيه ويطلب معاقبته. فاقترب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدوء وتأنٍ، وقال له بصوت ملؤه الشفقة: “يا غلام، لمَ ترمي النخل؟“. فقال الغلام: “يا رسولَ اللهِ! الجوعُ”. فقال له صلى الله عليه وسلم: “لا ترم النخل، وكل مما وقع“. ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النصيحة، بل إنه اقترب منه أكثر، فمسح رأس الغلام ودعا له: “اللهم أشبع بطنه“10.
وكما يتضح، فإنه صلى الله عليه وسلم استمع إلى المشكلة بهدوء دون أن ينفعل أو يعنِّف الغلام. فلم يصح في وجهه معنفًا إياه بقوله “كيف تفعل هذا الأمر؟” ولم يرهبه أو يخجله. على العكس من ذلك، اقترب منه صلى الله عليه وسلم بعطف وحب قائلًا له “يا بني”، وتحدث إليه برفق ولين، كما قدم له حلًّا بديلًا إذا شعر بالجوع مرة أخرى بقوله “كُل مما وقع”. حتى إنه لم يكتف بهذا، بل مسح على رأسه، واحتضنه داعيًا له. لذلك فإن لبّ التربية والتعليم هو الهدوء والتأني واللين وتوجيه المخاطب إلى الصواب. لأن الأطفال لا يدركون في الغالب أنهم مخطئون أو أن ما يفعلونه خطأ. ومن ثم من الممكن أن يتسبب التعنيف، والصياح، والعقاب في تصدعات في نفسية الطفل لا يمكن إصلاحها. فمن المهم منذ اللحظة الأولى من المشكلة أن يرى الطفل أو النشء من هو أمامه (الأم، الأب، المعلم، المربي، المرشد، المسؤول…) الملاذ الآمن والهادئ الذي يمكنه اللجوء إليه.
لا تُخجِل المخاطب، وأرشده إلى الصواب!
يُعد التصريح بأخطاء المخاطب، وما يترتب عليه من توبيخه وإهانته، وأحيانًا تهديده بمثابة عنف لفظي. والواجب تذكيره وإرشاده وتعليمه الصواب بأسلوب ليِّن وبقول طيِّب. ومن ثم يأمر القرآن الكريم ويوصي في هذا الأمر على ضرورة استخدام الموعظة الحسنة والتذكير وليس التعزير والتوبيخ والتعنيف، يقول تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الذَّارِيَاتِ: 51/55). فالطفل أو النشء المخطئ يحتاج إلى الاحتضان بحب، والتوجيه إلى الصواب بهدوء ولين، والإرشاد بالشفقة والرحمة، وليس التعزير والعقاب. لأن الإرشاد بإثارة مشاعر الحب والاحترام أسهل بكثير من إثارة شعور الخوف وعدم الثقة بالتوبيخ والإفصاح عن الخطأ.
ومن الأمثلة على ذلك، ما رواه عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه الذي تربى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ“. فما زالت تلك طعمة عمر بعد ذلك11. وكما يتضح من المثال، لم يعاتب صلى الله عليه وسلم الغلام بأسلوب منفِّر بأن يقول له: “كيف تأكل هكذا؟ هل هذه طريقة لائقة لتناول الطعام؟” ولم يصرح له بخطئه. بل على العكس من ذلك فإنه علمه بأسلوب هادئ وجميل كيف يتناول طعامه.
لا تُحرج المخاطب، بل أقنعه!
الإنسان مدني بطبعه، ولا يكون التغلب على المدني إلا بالإقناع، فليس ثمة مسألة تستعصي على الحل إذا ما تم الحديث مع المخاطب بالعقل والمنطق والمحاكمة العقلية ومراعاة مشاعره على حد سواء. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم ينتبه إلى هذا الأمر في المشكلات التي كانت تُطرح عليه، فلم يُخجل مخاطبه قط، ويتقرب إليه بالحكمة والإقناع.
التدخل السليم في الوقت السليم!
إن التصريح بالخطأ لا يُعلِّم المخاطب الصواب، بينما التدخل السليم في التوقيت المناسب يساهم بشكل كبير في تحويل الأخطاء إلى سلوكيات صحيحة. ولكن إذا تباطأ المرء في التدخل في الأمر، لم يعد من السهل معالجة المفاهيم الخاطئة والأخطاء والشرور التي تتكامل مع الطبيعة البشرية. فعلى المربين والمسؤولين، أن يتابعوا مخاطبيهم عن كثب، وأن يتدخلوا في الوقت المناسب ويتعاملوا بحكمة وبصيرة تجاه الأخطاء التي يتم إبلاغهم بها أو يرونها بأنفسهم.
ففي حديث شريف أن ثلاثة رهط جاءوا إلى بيت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: “أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي“12.
وكما نرى في الحديث الشريف، نجده صلى الله عليه وسلم يتدخل من فوره تجاه هذا الفهم المفرط عند بعض الصحابة. وبينما يفعل هذا لم يوبخهم ويحرجهم قائلًا “كيف تقللون من عبادتي، وتبتدعون مفهوم عبادة ودين وفقًا لهواكم؟” على العكس منذ ذلك فقد استغل صلى الله عليه وسلم فهمهم الخاطئ هذا للتقوى، ليعلِّم الأمَّة أن مقياس التقوى الحقيقي لا يمكن أن يكون وفق هوى الناس وأفكارهم الخاصة، وأنه لا ينبغي عليهم إلا اتباع السنة النبوية في جميع الأحوال.
ستر العيوب، والحث على التوبة!
إن الأصل في الإسلام ستر العيب وعدم إحراج الآخر به أو نشره. يقول صلى الله عليه وسلم: “…ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة“13. أما من يتصرفون بخلاف ذلك، فإنهم سيعاقبون بالمثل، يقول صلى الله عليه وسلم: “مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ“14. لذا فإن الصواب ليس في إفشاء أخطاء الناس، بل العفو والستر والتوجيه إلى التوبة وإصلاح ما حدث.
وبينما يدعو القرآن الكريم الناس إلى التوبة15، يُذكِّر بضرورة أن يحث المؤمنون بعضهم بعضًا على التوبة. ويقول صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ… وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً“16؛ فيوجه الناس من ناحية إلى التوبة، ويشير من ناحية أخرى إلى ضرورة حث الجميع على التوبة بدلًا من أن يُخجل بعضهم بعضًا. وفي هذا الصدد نجد سيدنا عمر رضي الله عنه خير مثال على هذا الأمر:
فقد روي أن رجلًا كان ذا بأس وكان يوفد على سيدنا عمر رضي الله عنه لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في هذا الشراب. فدعا سيدنا عمر كاتبه فقال: اكتب؛ من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(غافر: 3)، ثم دعا وأمَّن من عنده، ودعوا له أن يقبل الله بقلبه، وأن يتوب عليه.
فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول: “غافر الذنب”، قد وعدني الله أن يغفر لي، و”قابل التوب شديد العقاب” قد حذرني الله عقابه، “ذي الطول” والطول الخير الكثير، “لا إله إلا هو إليه المصير”، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع وانصرف تمامًا عن هذا الأمر. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخًا لكم زل زلة فسددوه، ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا عونًا للشيطان عليه17.
النتيجة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفسد العلاقة التي بينه وبين مخاطبيه بالتصريح بأخطائهم وعيوبهم، ولا يلومهم أو يوبخهم أو يسيء إليهم بالقول أو الفعل على حد سواء. ولم يحذر الأشخاص الذين يرتكبون الأخطاء في كثير من الأحيان بشكل مباشر، بل كان يرجح الأساليب غير المباشرة، فكان منهجه الحكيم وتدخلاته في الوقت المناسب سببًا في استبدال الأفكار والسلوكيات الخاطئة بالأفكار والسلوكيات الصحيحة. لقد استهدف الأخطاء التي ارتكبت، وليس الأفراد، وكان شديد الحرص على عدم الإضرار بشخصية أي فرد يتصرف بشكل خاطئ. وفي الواقع، كان أحيانًا عندما يرى شيئا لا يعجبه، يلتزم الصمت حتى لا يُحرج مخاطبه، ويبعث بالرسالة بملامح وجهه. إذ يمكن فهم هذا الموقف بسهولة من تعابير وجهه صلى الله عليه وسلم18. لقد كان حساسًا للغاية وحذرًا في هذا الشأن حتى إنه بعد فتح مكة، لم يتحدث عن الأخطاء التي ارتكبها قومه بحقه وبالمسلمين؛ ولم يحرجهم حتى بما ارتكبوه من أعمال وحشية وقتل وتعذيب. كما لم يسمح حتى بإحراج من أسلم حديثًا بآبائهم الذين ماتوا على شركهم. فغلى المعلمين والمربين أن يتخذوه ﷺ قدوة في وسائلهم التعليمية ومنهجهم التربوي.
Footnotes
- سنن الترمذي، القيامة، 49 (2499)؛ سنن ابن ماجة، الزهد، 30 (4251).
- سنن أبي داود، الأدب، 6 (4788).
- صحيح البخاري، الهبة، 17 (2597)؛ الأيمان، 3 (6636)، الحيل، 15 (6979)؛ صحيح مسلم، الإمارة، 7/26 (1832).
- انظر: سورة المائدة، 5/90.
- صحيح البخاري، المغازي، 60 (4347).
- سنن الترمذي، البر، 55 (1987)، مسند أحمد، 5/153 (22112).
- صحيح البخاري، الجهادي، 164 (3038)؛ صحيح مسلم، الجهاد، 3/6-8 (1732-1734).
- انظر: سورة الإسراء، 16/11.
- سنن الترمذي، البر، 66 (2012).
- سنن الترمذي، البيوع، 54 (12889)؛ سنن ابن ماجة، التجارة، 67 (2299).
- صحيح البخاري، الأطعمة، 2، 3 (5376)؛ صحيح مسلم، الأشربة، 13/108 (2022).
- صحيح مسلم، النكاح، 1/5 (1401)؛ صحيح البخاري، النكاح، 1 (5063).
- صحيح مسلم، الذكر، 11/38 (2699)؛ سنن الترمذي، القراءة، 12 (2945)؛ سنن أبي داود، الأدب، 68 (4946).
- سنن ابن ماجة، الحدود، 5 (2546).
- انظر: سورة النور، 24/31؛ سورة هود، 11/3؛ سورة التحريم، 66/8.
- صحيح مسلم، الذكر، 12/41-43 (2702)؛ صحيح البخاري، الدعوات، 3 (6307).
- أبو نعيم، الحلية، 4/97-98.
- انظر: صحيح البخاري، الأدب، 72 (6102)؛ المناقب، 23 (3562)؛ صحيح مسلم، الفضائل، 16/67 (2360).