الأسس النبوية في التربية والتعليم (10): اجتناب الصياح ورفع الصوت!
بقلم الدكتور/ سليم عبد الله
يلجأ كثير من الآباء والمعلمين إلى الصياح ورفع الصوت مع أبنائهم وطلابهم كوسيلة لحل المشكلات التي تستعصي عليهم في مرحلة التربية والتعليم. فيظنون أنهم يسيطرون على مخاطبيهم بالصياح، ويربونهم بالتخويف والترهيب. والحال أنه ليست ثمة فائدة تُذكر من العنف اللفظي وهذه الإساءة المعنوية في التربية، على العكس تمامًا فإنها تؤثر على التطور النفسي والذهني والبدني والاجتماعي للمخاطب. بالإضافة إلى أن إهانة إنسان ما لا تُكسب المرء هيبة وقيمة بين الناس. فإن كان الآباء والمعلمون يرون أن الصياح والتعنيف له فائدة على الأطفال والنشء، فالواقع أن هذا الأسلوب سيكون سببًا في حدوث مشكلات وجروح في شخصية المخاطب لا يمكن مداواتها طوال العمر. ولهذا فإنه من المبادئ الأساسية التي أكد القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة على ضرورة الالتزام بها من أجل التربية والتعليم هو مبدأ “التحكم في الصوت واللفظ”، أي مبدأ “لا تصيح”.
نهي القرآن الكريم عن رفع الصوت!
يقول الحق تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (سورة الإِسْرَاءِ: 17/53)، وللمحافظة على هذا المنهج القرآني، يضع الحق تعالى مبدأ “عدم رفع الصوت” معيارًا أساسيًا في التربية والتعليم والتواصل بين الناس، فيقول عز وجل: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ…﴾ (سورة لُقْمَانَ: 31/19) لتؤكد هذه الوصية التي أوصى بها سيدنا لقمان عليه السلام ابنه على رسالة فحواها “ضرورة ضبط الأسلوب ونبرة الصوت عند الحديث”، والنهي عن الصياح في المخاطب وعدم مضايقته حتى ولو بالقول والصوت. وبعدما وضع القرآن الكريم هذا المبدأ، استخدم تشبيهًا يسترعي انتباه الجميع، فيقول تعالى: ﴿…إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (سورة لُقْمَانَ: 31/19) وكأن القرآن الكريم يقول للإنسان: لا تتكبر مثل الشيطان وتقول (أنا أعلم)، ولا تغتر ولا ترفع صوتك، لأن رفع الصوت مثل نهيق الحمار ليس له أي أهمية تُذكر في التواصل والتربية والتعليم. حتى أن بعض العلماء قالوا بحرمة الصياح ورفع الصوت انطلاقًا من هذا التشبيه القرآني1.
لذلك فإن “صفة الحديث” أي كيفية التحدث لا تقل أهمية عن الحديث المتبادل في التواصل والتربية. وقد بيَّنت الدراسات التي أجريت في هذا الصدد أن نبرة الصوت لها تأثير بنسبة 38% في التربية والتواصل بين المخاطبين، أما النسبة المتبقية والمتمثلة في 55% فهي تعود للغة البدن، و7% للكلمات المنتقاة في الحوار. حتى إن الكلمات المنتقاة والعبارات المختارة غالبًا ما تحدد نبرة الصوت، لذلك يجب الانتباه إلى نبرة الصوت من أجل إمكانية إقامة تواصل صحي مع المخاطب، ومن أجل أن يكون الحوار مثمرًا في تعليم القيم. فالأصوات والكلمات التي تم ضبط نبرتها وجرسها تكون مغلَّفة بالحب والشفقة والاحترام، بينما اللحظة التي يرفع فيها المرء الصوت يتلاشى فيها هذا المعيار، ويحل مكانه الغضب والحقد والعداوة، ومن ثم تتعقد مسألة التربية والتعليم؛ لأن الصياح يوتِّر المخاطب، ويتسبب في تعصبه وصياحه كذلك. وفي مناخ كهذا توترت فيه الأعصاب، لم يعد المخاطبون يسمع بعضهم بعضًا، ولا يصغون ولا يفهم بعضهم بعضًا. ففقدان السيطرة على نبرة الصوت بشكل متبادل، يؤدي إلى نزاعات متلاحقة غير منقطعة. فإذا ما فقد الإنسان السيطرة على نفسه، بدأ في فقدان السيطرة على صوته، وفي هذه الحالة، سرعان ما تتوقف التربية والتعليم وتفسحان المجال للمبارزات اللفظية والإساءة المعنوية ومن ثم العنف.
لُطف النبي صلى الله عليه وسلم مع مخاطبيه
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش حياة قوامها “الخلق العظيم”. فكان يعامل الناس في علاقاته من منطلق هذا الخلق العظيم، ويحسن إلى الجميع2، ولا يتخلى عن اللياقة والظرف في خطابه معهم. فعندما تتحدث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن تقول: “لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ“3، فتلفت رضي الله عنها الانتباه إلى أسلوبه العام الذي يسود حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم.
كما أنه ليس ثمة ولو مثال واحد على موقف يرفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم صوته متأثرًا بمشاعره عندما يتحدث أو يتواصل مع الناس سواء في حياته الأسرية أو الاجتماعية على حد سواء. فهو القائل صلى الله عليه وسلم: “تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ“4 واضعًا هذا المعيار أساسًا للمعاملة بين الآخرين، ولم يحد عنه قط طوال حياته. فكان عندما يتحدث إلى الناس يختار كلماته بعناية كبيرة، ويتبع دائمًا منهجًا لينًا يأسر القلوب في خطاباته وأحاديثه. وقد نقل صحابته الكرام الذين تتلمذوا وتربوا على يديه هذا المنهج النبوي القويم إلى حياتهم. ويظهر ذلك جليًا في أقوالهم كقول سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “إنما البر شيء هيِّن؛ وجه بشوش ولسان لين”5.
الصياح لا تأثير له!
لا يمكن لأي إنسان أن يتحمل معنويًّا أو يقبل نفسيًّا الصياح حتى ولو كان في قول الحقيقة أو التذكير بها. حيث يشعر بالانزعاج من المتحدث الذي يصيح، ولا يعد ينصت إليه حتى ولو كان يقول الحقيقة. فإن كان هو الآخر قويًّا صاح مثله، أو أنه يقبل الأمر ظاهريًّا، بينما في نفسه يرفضه تمامًا. والحال أن الإنسان إذا اقترب من مخاطبه بالقول اللين، واللسان العذب، يؤثر عليه تأثيرًا إيجابيا، ويقترب كثيرًا من الحل مهما كانت المشكلة. فعندما أرسل الحق تعالى سيدنا موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون الذي طغى وتجبَّر قائلًا: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (سورة النَّازِعَاتِ: 79/24) قال عز وجل لهما: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (سورة طَهَ: 20/44)، ليضع سبحانه وتعالى بذلك مبدأ ثابتًا لا يتغير لجميع المؤمنين إلى قيام الساعة في شخصهما عليهما السلام في صفة الخطاب وأسلوب الاقتراب من المخاطب في الدعوة والتبليغ والتربية والتعليم بشكل خاص.
لا ترفع صوتك، فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد!
غالبًا ما يحمل الصياح في طياته الإهانة والتحقير والتسفيه، والحال أنه صلى الله عليه وسلم يقول: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره… بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم…“6 فينهى عن الإهانة والتحقير مهما كان السبب والموقف. فإن احتمالية تنشئة أناس كاملين وصالحين عن طريق الصياح والتحقير هو أمر محال، وفي النهاية يكون الخاسر كلا الطرفين. ولا سيما لو تم التطرق إلى هذا السلوك كثيرًا، يتشكل في قلب ومشاعر المخاطب الاضطراب والخوف والقلق، مما يجعله عرضة لفقده فرصة التربية والتعليم تمامًا. ولهذا فإن السبيل إلى النجاح في التربية والتعليم، هو أن يستفيد الآباء والمعلمون من قوة الحب والشفقة والصدق والكلمات المنتقاة بدلًا من التفكير في الاستفادة من قوة الصياح. لأن ذلك هو الأسلوب الذي يمنح المخاطب الطمأنينة والثقة، ومن ثم يكون له تأثير على مشاعره، ويؤدي إلى اكتسابه للفضائل التي يحتاج إليها.
الصياح يؤثر سلبًا على احترام الشخص!
إن الصياح يؤثر على شخصية وكيان المخاطب، كما يؤثر في الوقت نفسه على احترام المتحدث وسلامته الروحية. فالتحدث بنبرة صوت معتدلة وطبيعية، يعكس احترام المرء وثقته في نفسه وصحة كلامه وقوة رأيه. لأنه لا أحد يتجاوز حد الاحترام ويصيح في مخاطبه غير الذي يشك في نفسه وفي قيمه. لذلك لم يستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصياح والتحقير في أي وقت قط كمنهج في التربية والتعليم. وكان يقترب من الأخطاء والتقصير الذي يقع من المخاطب بالشفقة والمسامحة والرحمة، ويعمل على تنبيهه وإرشاده بتوضيح الأمر له. ومن أقرب الشهود على هذا الخُلق النبوي، هو سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: “لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبابًا، ولا فحاشًا، ولا لعانًا، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ما له ترب جبينه“7.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف المعلم الجيِّد: “عَلِّمُوا، وَلَا تُعَنِّفُوا؛ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَنِّفِ“8. فعلى المربي ألا يصيح في مخاطبه، ولا يهدده، ولا يخوفه، ولا يعنفه، ولا يحقره، ولا يسخر منه، بل عليه أن يعامله بلين، وحب، وشفقة، ورحمة، واهتمام.
اترك الصياح، واصبر!
لو تمت مقابلة أخطاء وقصور الصغار بالصبر والحلم وليس الصياح، لأصبح من الممكن إصلاح الموقف. ومن هذا المنطلق فإن الصبر هو مفتاح الحل، وفي الوقت نفسه وسيلة مهمة ستحول دون تهدم جسور التواصل مع المخاطب. فإذا تم التحدث بلين وصبر وما يتمخض عنهما من التعامل بالعقل والمنطق والحكمة في العديد من المشكلات فسيتم الوصول إلى الحل بسهولة بمرور الوقت. يقول تعالى: ﴿…وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/146)، لتخبر الآية الكريمة بأن الله تعالى يحب الصابرين، كما أنها تتضمن حقيقة أن المخاطب سيحب الصابرين كذلك، فالله إذا أحب عبدًا حبَّب فيه خلقه9. وأساس التربية والتعليم أن يكون في مناخ قائم على الحب والرحمة. فهؤلاء الذين يحبون ويداومون على حبهم بصبر، يمكنهم حل مشكلاتهم في بوتقة الحب والاحترام دون الحاجة إلى العنف اللفظي.
يقول صلى الله عليه وسلم: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ“10. فيلفت صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث الشريف الأنظار إلى قيمة امتلاك النفس عند الغضب في العلاقات الثنائية وما يتضمنها من التربية والتعليم. كما يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿…إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/153)، ليكشف عز وجل بذلك في الوقت نفسه عن السرِّ المهم للتواصل والتربية السليمة، ألا وهو الصبر. ومن هذه الجهة فإن تحلى المربون والمعلمون بالصبر، تعلم الطلاب الصبر كذلك، واستمرت التربية والتعليم. أما في الأوساط التي يستولي عليها العجلة والتسرع، يسود فيها الصياح والغضب والبغض والكره، بدلا من التربية والتعليم. كما أن الشخص الذي يتم التعامل معه بهذا الشكل، يتعلم الغضب والصياح. ولهذا ينبغي أن يكون هذا المبدأ الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم معيارًا أساسيًّا في سلوكيات الجميع، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: “مَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْهُ بِهِمْ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ“11.
اعتذر إذا رفعت صوتك!
يشعر الآباء الذين يصيحون في أبنائهم أحيانًا بالندم وتأنيب النفس والحزن، ويقولون: “كيف صحت في هذا البريء؟ أجل، لقد أخطأ هذا الصغير، ولكنني قد جرحت مشاعره بصياحي، وأخطأت التصرف. لم يكن عليّ فعل ذلك!”. والحقيقة أن هذا التأنيب وسيلة مهمة لتحريك شعور المسؤولية في سبيل إصلاح الخطأ، ومداواة الجرح الذي أصاب مشاعر المخاطب. وبحسب البيان النبوي فإن الأصل في السنَّة المطهرة هو: “لَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ“12. أمَّا من لم يتحل بالصبر وتأنيب النفس وهذا المعيار في معاملاته فإنه تقع على عاتقه مسؤولية الاعتذار، وفتح صفحة جديدة مع مخاطبه. وبهذه الطريقة لا يسمو المرء بخلقه فحسب، بل إنه يكون أيضًا أسوة حسنة لمخاطبه كذلك.
وضح السبب إذا رفعت صوتك!
إن الاعتذار عن رفع الصوت على المخاطب لا يعني تركه مع قصوره وأخطائه. على العكس من ذلك، بل ينبغي على الآباء والمعلمين أن يوضحوا لمخاطبيهم بالأدلة العقلية والمنطقية وفقًا لمستوياتهم واستيعابهم الأضرار المعنوية والمادية للخطأ أو التقصير أو الذنب الذي اقترفوه والذي كان سببًا في الصياح والغضب، وأن يحرصوا على أن يحولوا دون أن يكرروا هذا الخطأ مرة أخرى. ومن ثم ينبغي الاقتراب من المخاطب بالتسامح والرحمة واللين والإرشاد مع تنبيهه على أخطائه. فإن لم تتخذ المربي عقب اعتذاره خطوات قولية وفعلية جادة من أجل إصلاح المخاطب؛ فلن تكون للمسامحة أو الاعتذار وحده أي فائدة في تغيير هذا المخاطب بالمعنى الإيجابي.
فذات يوم، بينما رسول الله صلى الله عليه في وسلم في مسجده، أتى أعرابي، فانصرف إلى زاوية من زوايا المسجد، وبال فيها. فثار الصحابة عليه ليمنعوه. فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: “دَعُوهُ“. وبعد أن انتهى الأعرابي من تبوله، قال صلى الله عليه وسلم: “أَهْريقوا على بولِهِ ذنوبًا من ماءٍ، فإنّما بُعثتُمْ ميسِّرينَ ولم تُبعَثوا معسِّرينَ“13. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي ونصحه بأسلوب هادئ وليِّن: “إنّ هذِه المَساجِدَ لا تَصْلُحُ لِشيءٍ مِن هذا البَوْلِ، ولا القَذَرِ إنّما هي لِذِكْرِ اللهِ، والصَّلاةِ وقِراءَةِ القُرْآنِ“14. وهكذا وضح له صلى الله عليه وسلم سبب صياح وثوران الصحابة عليه، وفي الوقت نفسه نبهه بخطئه وأرشده إلى الصواب.
تكرار التعبير عن الحب!
إن الصياح حتى ولو كان بشكل غير مقصود يؤثر سلبًا على المخاطب، فهو يشعره بأنه غير مرغوب فيه وغير محبوب من قِبل أبيه أو أمه أو معلمه. والاعتذار وحده في هذه الحالة لن يكون كافيًا، ولهذا ينبغي على الآباء والمعلمين تكرار التعبير الشفهي عن حبهم له لما له فائدة كبيرة في هذا الصدد. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ“15، مشيرًا صلى الله عليه وسلم بذلك إلى ضرورة التعبير عن الحب عند الحاجة إليه. كما أنه من الأهمية بمكان إحياء سنَّة التهادي ولا سيما في هذه الحالة التي جُرحت فيها المشاعر، يقول صلى الله عليه وسلم: “تهادوا تحابوا“16. لذلك يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه لأبنائه: “يا بني! تبادلوا بينكم؛ فإنه أوَدُّ لما بينكم“17. بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد في أحاديث شريفة على أن التهادي يُذهب ما في القلب من حزن وحقد وكره وعداوة، ويغرس مكانها المشاعر والأفكار الطيبة18.
اترك الصياح، وأسس حوارًا جديدا
من الأخطاء أيضًا التي يقع فيها الآباء والأمهات والمعلمون الذين يصيحون في الأطفال والنشء هو قطعهم التواصل والحوار اعتقادًا منهم أن هذا سيصلح الأخطاء في فترة قصيرة. وهذا التصرف يعني معاقبة المخاطب الذي ربما لم يلحظ بعد خطأه، ولِمَ تم الصياح في وجهه في الأساس، وهو تصرف ليس له أية فائدة تُذكر. فكلما زادت الهوَّة بينهم، ضاعت فرصة التربية والتعليم والإرشاد بنفس القدر. ولهذا فإن أنسب طريق ينبغي اتباعه في هذا الأمر، ليس مواصلة قطع التواصل، وإنما محاولة تأسيسه من جديد. وبالتالي فإن أفضل بداية لهذا هو فعل الخير، ودفع السيئة بالحسنة. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34). فينبغي أن يكون هذا المعيار القرآني، والذي له أمثلة عديدة من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مبدأ أساسيًّا لكل أب وأم ومعلم من أجل التربية والتعليم.
ومن ثم فإنه إذا تم دفع السيئة بالحسنة بشعور الإحسان، لزالت المسافة التي تفصل بين الآباء أو المعلمين ومخاطبيهم، وتشكلت علاقة أقوى من ذي قبل بحسب التعبير القرآني في قوله تعالى: ﴿…ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/34). والحقيقة أن قدرة الشخص على دفع السيئة بالحسنة وليس كبح الغضب والصياح فحسب لهو خُلق لا يتيسر للجميع التحلي به؛ إذ يتطلب إرادة قوية وعزمًا شديدًا. ولكي يمتلك الإنسان هذه القوة، فقد بيَّن القرآن الكريم آليتين اثنتين لهذا، هما: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (سورة فُصِّلَتْ: 41/35). أمَّا الضيق والحزن والامتعاض وجرح المشاعر والصياح واتخاذ مواقف طويلة الأمد وغيرها من التصرفات الخاطئة، سوف تبعد الأبناء من آبائهم، والطلاب من معلميهم ومرشديهم، وتجعلهم بمنأى عنهم.
النتيجة
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى تصرفًا خاطئًا أو قصورًا فلا يتملكه الغضب ولا الصياح في مخاطبيه حتى ولو تغيرت تعبيرات وجهه، فإنه في مثل هذه الحالة لا يحقر الشخص ولا يسخر منه ولا يلومه وينقص من شأنه أمام الناس، بل يحافظ دائمًا على احترامه للناس وحبه وشفقته عليهم وتقديره لهم، فيكون أسوة حسنة لهم في هذا الشأن. كان صلى الله عليه وسلم يقول ما يريد قوله بأسلوب مؤثر يسوق إلى الخير، فلم يجرح المشاعر قط، حتى ولو تضايق هو فلا يسعى إلى مضايقة أحد. بل يتخذ سبيل العفو، ويأمر بالخير، ويعرض عن الجاهلين الذين لا يفهمون لغة الحال ولا اللسان19. وكان يقترب من المخاطب بشفقة، ويحتضنه بنظراته التي تفيض حبًّا، وكلماته التي تفيض احترامًا وتوقيرًا، وينصحه ويصحح خطأه. ولم يكن يغضب لنفسه قط، ولا يمتلكه شعور الانتقام. لهذا فإن جميع الآباء والمعلمين الذين يعنفون الأطفال والنشء أثناء تربيتهم من وقت لآخر، ويغضبون في وجوههم، ويصيحون بهم، ويظنون أن هذا سيكون له تأثير في تعليمهم، ولا يرون وسيلة أخرى سوى هذا، هم في الحقيقة محتاجون لمن يرشدهم في هذه المسألة.
Footnotes
- انظر: ابن كثير، تفسير سورة لقمان، الآية: 19.
- انظر: سنن الترمذي، البر، 55.
- سنن الترمذي، البر، (2016)؛ مسند أحمد، 6/174.
- سنن الترمذي، (1956).
- البيهقي، شعب الإيمان، 10/404.
- صحيح مسلم، البر، 10 (2563).
- صحيح البخاري، الأدب، 38 (6031).
- الطيالسي، المسند، (2659).
- انظر: صحيح البخاري، بدء الخلق 6، الأدب 41؛ صحيح مسلم، البر، 157.
- صحيح مسلم، البر، 107.
- مسند أحمد، 6/383 (27153)، الهيثمي، الزوائد، 1/48.
- سنن ابن ماجة، (4171)؛ مسند أحمد، (23498).
- صحيح البخاري، الوضوء، 58 (220، 221)؛ الأدب، 80 (6128)؛ سنن أبي داود، الطهارة، 138 (380، 381)؛ سنن الترمذي، الطهارة، 112 (147).
- صحيح مسلم، الطهارة، 30/100 (285).
- سنن أبي داود، الأدب، 122 (5124)؛ سنن الترمذي، الزهد، 54 (2393).
- البخاري، الأدب المفرد، ص 159، رقم 594.
- البخاري، الأدب المفرد، ص 159، رقم 594.
- انظر: سنن الترمذي، الولاء والهبة، 6 (2130).
- انظر: سورة الأَعْرَافِ: 7/199.