الأخذ بالأسباب والتوكل في حياة رسول الله
بقلم: يوجَل مان
غزوة أُحد نموذجًا
تعد الإرادة والأخذ بالأسباب والتوكل بمثابة الركيزة التي تقوم عليها جميع أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحركاته وحملاته. فقد كان يعطي إرادته حقها على الدوام وهو يضطلع بأداءِ مهمة النبوة، وتحويلِ القرآن الكريم إلى واقع عملي، وإعادةِ تشكيل وإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، وحلِ جميع المشكلات التي تقابله. فهو من ناحية يؤمن ويثق في أن الله تعالى ناصرُه وموفِّقُه، ومن ناحية أخرى يستخدم العقل والمنطق والمحاكمة العقلية حتى النهاية من أجل أداء مهمته على الوجه الأكمل وذلك من باب الأخذ بالأسباب، فكان يتخذ كافة التدابير اللازمة من أجل حل المشكلات التي تقابله، وكان يخطو كل الخطوات اللازمة في زمانها ومكانها المناسبين. ثم يتوكل على ربه انقيادًا للأمر الإلهي، وإجلالًا للإرادة الربَّانية. فكان يتناول المسألة بكل جوانبها دائمًا بشكل متكامل يراعي فيه الموازنة بين الأخذ بالأسباب والتوكل مع مراعاة الجوانب المنوطة به. فكل لحظة في حياته الدعوية التي استمرت ثلاثًا وعشرين سنة مليئة بأمثلة ونماذج من هذا القبيل. وإننا هنا نريد أن نكشف عن هذا الجانب لديه صلى الله عليه وسلم من خلال غزوة أُحد التي يجب ألا تُقرأ على أنها “معركة حربية فحسب”.
عيون المسلمين في مكّة
بيَّنت التطورات التي وقعت بعد الهجرة إلى الحبشة أن بطش المشركين ليس مقصورًا على مكة فحسب. إنهم يقصدون إطفاء نور الله، حتى لا يبقى أي مسلم يتنفس في أي مكان على وجه البسيطة؛ لذا كان المشركون من أهل مكَّة يشكلون التهديد الأكبر والخطر الأعظم على المسلمين أينما حلوا أو ارتحلوا، يؤيد هذه الحقيقة تلك الرسائل التهديدية التي أرسلها مشركو مكة بعد الهجرة إلى الطوائف غير المسلمة في المدينة المنورة والعمليات التحريضية للقبائل المجاورة ضد المسلمين في المدينة[1].
إن دفع التهديدات ودرء الخطر على مستوى الأسباب مرهون قبل كل شيء بالاطِّلاع على التطورات في حينها، فالاعتداء والهجوم المباغت قد يؤدي إلى نتائج وعواقب وخيمة. من أجل ذلك أذِن رسول الله لبعض المسلمين في البقاء في مكَّة[2]، وسيكون على هؤلاء المسلمين الذين لم تنكشف هويتهم بعد جسُّ نبض أهل مكَّة، وتهدئةُ حدة العنف في مكَّة لصالح المسلمين، وإطْلاعُ المدينة المنورة آنًا فآنٍ بكل الخطط والمشاريع المرسومة من أجل القضاء على الإسلام.
كان العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أحد الباقين في مكَّة؛ وعندما أرسل كتابًا يطلب فيه الهجرة إلى المدينة، لم يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه البقاء قائلًا: “إِنَّ مُقَامَكَ مُجَاهِدٌ حَسَنٌ” فأقام بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم[3]. ولقد كانت المهمة المكلف بها سيدنا العباس في الوقت الذي كان فيه مشركو مكة يهدّدون كيان المسلمين ووجودهم؛ تحمل أهمية حياتية كبرى؛ حيث أرسل كتابًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيه بتحرك جيش مكَّة من أجل الثأر لقتلاهم في بدر والقضاء على المسلمين. وقد ساعد هذا على إتاحة الفرصة أمام المسلمين لكي يأخذوا كافة التدابير والاستعدادات والمشاورات والاستنفار اللازم من أجل الدفاع عن أنفسهم.
شبكة التخابر السريعة
لم يكن يتأتى الاطلاع على التطورات ومجريات الأحداث في مكَّة ونواحيها في حينها إلا عن طريق تأسيس شبكة تخابر سريعة. وقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتابع عن كثب ما يدور في المنطقة بفضل الدوريات الأمنية والاستطلاعية التي يرسلها، وكان يخرج هو أيضًا في الحملات التي يقومون بها، ويعقد المعاهدات الأمنية مع القبائل التي تتواجد بين مكَّة والمدينة، كما أسس شبكة تخابر سريعة؛ فرغم أن المسافة بين المدينتين كانت تستغرق ثمانية أيام، إلا أن كتاب سيدنا العباس رضي الله عنه الذي يخبر بتحرك جيش مكة، قد وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غضون ثلاثة أيام فقط[4]. وكذلك لما أتى المشركون يوم أُحد أرسل أوس بن عبد الله الأسلمي غلامه مسعود بن هنيدة من “العرج” على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم على وجه السرعة[5]. وكذلك فعل أيضًا عمرو بن سالم الخزاعي؛ لما قدم في نفر من خزاعة، ساروا من مكة أربعًا، فوافوا قريشًا وقد عسكروا بذي طوى، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر على الفور[6]. وهذا يوضح وجود أُناس وخيول متأهبة في نقاط معينة لنقل الأخبار بشكل سريع.
السِّرية والكتمان
وصل كتاب العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب مسجد قباء وهو يركب دابته، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَاسْتَكْتَمَ أُبَيًّا مَا فِيهِ، فَدَخَلَ مَنْزِلَ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ فَقَالَ: فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: لَا، فَتَكَلّمْ بِحَاجَتِك. فَأَخْبَرَهُ بِكِتَابِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ، وَقَدْ أَرْجَفَتْ يَهُودُ الْمَدِينَةِ وَالْمُنَافِقُون، وَقَالُوا: مَا جَاءَ مُحَمّدًا شَيْءٌ يُحِبّهُ”[7].
استكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدًا الخبر أيضًا، وانطلق على الفور إلى المدينة، فقد كان يريد أن يبلغ أهل المدينة بنفسه خبر تحرك جيش مكة بقوة كبيرة للهجوم على المدينة، وذلك في الوقت المناسب بعد أن يقوم بكل المشاورات والتقييمات اللازمة، ودون أن يعطي فرصة إلى أن يدب الخوف والذعر في نفوس أهل المدينة. ومن خلال ذلك أيضًا سيقوم بجسّ نبض اليهود والمنافقين؛ لكن زوجة سيدنا سعد التي لم يكن يعلم بوجودها حينئذ، قد سمعت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أفضت به إلى جيرانها غير مدركة لحساسية الأمر، فوصل الخبر إلى المدينة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم [8].
الدوريات الأمنية والمناوبات
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان أول ما قام به أن شكَّل وحدات أمنية، وكلفها بأمن المنطقة حول المدينة. وقد تم تكليف بعض الصحابة لتأمين حجرة النبي صلى الله عليه وسلم تحسبًا لأي احتمال وارد[9].
المشورة وإستراتيجية القتال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي المشورة أهمية كبيرة من أجل الوصول إلى حل للمشكلات. فكان يأتي على رأس التدابير التي يتخذها من أجل التخلص من المشكلة: الحصولُ على القناعة العامة في المسائل التي تهم المجتمع، وجعلُ الجميع جزءًا من الحل. وقد فعل ذلك في مسألة مقدم جيش أبي جهل بشكل مفاجئ قبل بدر، فقد أصدر قراره النهائي بعد أن استشار أصحابه في الأمر. وكان في هذه المرة أيضًا يريد أن يحصل على القناعة العامة من الجميع وتحديد الخطوات التي سيخطونها معًا في مواجهة الخطر الزاحف نحوهم.
كان رأيه صلى الله عليه وسلم ألا يخرجوا من المدينة ويدافعوا عنها من الداخل[10]؛ إذ إن المدينة كانت تشتعل بالحروب الأهلية والثأر منذ 120 عامًا حتى مقدمه صلى الله عليه وسلم. لذا كانت البيوت محكمة البناء، ومتلاصقة ببعضها البعض، وكأنها أُنشئت على شكل قلعة وحصن منيع. وكانت أزقة وأحياء القبائل محاطة بالأسوار، فلو تمت المقاومة من الداخل لانقسم جيش مكَّة وتفرَّق بعدد شوارع المدينة وبذلك تُصبح قوتهم وتفوُّقُهم العددي بلا قيمة. فترمي النسوة والصبية الحجارة من فوق الصياصي والآطام، فيسهل عليهم القتال والعدو مشتت. علاوة على أن خطر قيام اليهود والمنافقين بهجوم مباغت ضد المسلمين من الخلف سيزول بطبيعة الحال.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس درعًا فوق درع
في نهاية المشورة صدر القرار بالخروج إلى الجبهة لملاقاة جيش المشركين المتمركز على مقربة من أُحد. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهيأ للخروج، وقد ارتدى درعين بمساعدة سيدنا أبي بكر وعمر اللذين كانا معه في حجرة السعادة. والحقيقة أن مسألة حمايته كانت موكَّلة إلى الرعاية الإلهية، يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/67). لكن رغم ذلك أخذ مغفره ودرعه مراعيًا الأخذ بالأسباب، ومتخذًا كل الاحتياطات التي تتطلبها الحرب وزيادة[11].
إقدام صغار الشباب وبسالتهم
لم يضم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد كما كان الحال في بدر الشباب الذين لا يحتملون القتال على الجبهة لحداثة سنهم[12]، وذلك من باب الرحمة والشفقة بهم، كما أن وجودهم قد يُضعف من قوة الجيش وصلابته، فكان هذا من العوامل التي دفعته إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء. فقد يراهم المشركون صغارًا فيهجمون عليهم فيحصدون من بينهم الشهداء في بداية القتال، مما يُضعف الحالة النفسية لدى جنود المسلمين. بيد أن الحالة النفسية والتحفيزية لدى الجنود لها أهمية وتأثير كبير في الطريق المؤدية إلى النصر؛ لذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيهم عدة مرات بما فيها خطبة الجمعة حتى اللحظة التي بدأ فيها القتال؛ وألقى كلمات تهيج حماسهم وعزمهم وإرادتهم، وأخبرهم بأن لهم النصر ما صبروا، ليصل بحالتهم المعنوية والنفسية إلى الذروة.
حماية الباقين في المدينة
قبل أن يتحرك رسول الله إلى أُحد جعل النساء والغلمان والمرضى والعجائز في حصون منيعة وأماكن آمنة؛ كما أنه عهد بأمر تأمينهم إلى الشباب الذين لم يسمح لهم بالانضمام إلى صفوف الجيش نظرًا لحداثة سنهم. وهكذا وضع المدنيين تحت حماية وحراسة مشددة، وكلَّف صغار الشباب الحزانى بمهمة ترضيهم، وقد حال أيضًا دون انشغال الجنود الزاحفين إلى الجبهة بعائلتهم وأقربائهم؛ فهناك بعض المجموعات التي لم تشترك في القتال وعلى رأسها بنو النضير، وهؤلاء لا يؤمَن مكرهم بشكل تام.
الاحتراس من الهجمات المباغتة
تحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى أُحد في يوم الجمعة بعد صلاة العصر 14 شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وفي الطريق التفت إلى أصحابه قائلًا: “مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ؟” أي من طريق لا يمر عليهم. فقال أبو خيثمة رضي الله عنه: “أنا يا رسول الله”. فمضى بهم من طريق مختلف إلى أُحد دون أن يلحظ ذلك أحد من المشركين[13]. وكان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أيضًا هو حماية جنوده؛ فمن الممكن أن يقع جيشه في شِراك المشركين قبل أن يتخذوا وضع القتال وقبل أن ينظموا صفوفهم، مما يؤدي إلى عواقب وخسائر وخيمة.
عدم القتال بدون إذن
وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدّم إلى أُحد، قال لجنوده: “لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ“[14]. فإذا ما وقع هجوم قبل تمركز الجيش، ودون تحديد مهام ومواقع الجنود، والقيام بكافة الاستعدادات اللازمة واتخاذ وضعية القتال قد يُشعل هذا نيران حرب عشوائية بلا استعداد مع أهل مكَّة، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يلقي بأصحابه إلى التهلكة.
اختيار يوم السبت للقتال
خرج كعب بن الأشرف زعيم بني النضير الذي يستنكر نصر المسلمين في بدر بوفد من ستين رجلًا إلى مكّة رغم أن هذا إخلالٌ لعهد المدينة. وذلك من أجل تحريض مشركي مكَّة وحثهم على الثأر لقتلاهم في بدر.
فلما وصل مكَّة أعلن عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة، وأخذ ينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من رؤوس الشرك الذين أصيبوا ببدر ليثير مشاعر الانتقام لدى قريش ويشعل نيران الكره والبغض لديهم من أجل إشعال فتيل حرب جديدة[15]. وقد نجح كعب في إثارة أهل مكَّة الذين يبكون قتلى بدر، وقد عقدوا الأيمان ونذروا النذور من أجل الثأر لقتلاهم. ولم يكتف كعب بن الأشرف بإقناع أهل مكَّة أن يلاقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانية (في أُحد)، بل تحالف معهم على قتاله صلى الله عليه وسلم[16].
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعلة كعب وما تحالف به مع قريش. فبناءً على هذا الحلف من الممكن أن يقدِّم بنو النضير جميع ألوان الدعم إلى أهل مكَّة، حتى إنهم قد يعتدون على المدنيين الذين خلفهم المسلمون في المدينة، أو يهجمون على المسلمين في الجبهة من الخلف. وفي كلتا الحالتين يظل المسلمون بين نارين.
خرج جيش الشرك من مكَّة في الخامس من شوال، ووصل خبر خروجهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامن من شوال. ونزلوا أُحدًا في يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر شوال وتمركزوا هناك[17]. كان بمقدور رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تأهب واستعد لمدة أربعة أيام بالمدينة أن يخرج لملاقاة جيش قريش بمجرد وصولهم مستفيدًا من تعبهم وفتورهم؛ لكنه خرج لملاقاتهم بعد ثلاثة أيام في يوم السبت الخامس عشر من شهر شوال[18]. حيث كان السبت يوم استراحة لليهود، لا يعملون فيه شيئًا، ويستريحون ولا يقاتلون، لذا كانت خيانتهم للمسلمين وهجومهم من الخلف وتجاوز الطقوس الدينية المقدسة لديهم في هذا اليوم احتمالًا ضعيفًا جدًّا. وهكذا دفع رسول الله خطر بني النضير وأفشل تحالفهم مع قريش باختياره يوم السبت لملاقاة المشركين. كما أن مخيريق وكان يهوديًّا حبرًا عالمًا أخذ يدعو اليهود قائلًا: “يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق”، لكنهم أبوا وقالوا: “إن اليوم يوم السبت”، وقد قال رسول الله في حقه: “مُخَيْرِيق خَيْرُ يَهُودٍ” لما أظهر من وفاء يوم أُحد[19].
المناوبات والدوريات الأمنية
عندما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي إلى أُحد وجنّ عليهم الليل نزلوا بالشيخين، لكن لا أمان لقريش، ومن المحتمل بشكل كبير أن يهجموا على المكان الذي نزل فيه المسلمون. لهذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ التدابير الأمنية اللازمة، فكلّف محمد بن مسلمة ومعه خمسون من الصحابة لعمل مناوبات ودوريات أمنية حول المكان الذي يبيتون فيه. ولذلك لما أراد عكرمة بن أبي جهل أن يهجم على المكان ليلًا رأى سيدنا محمد بن مسلمة، فهابه ورجع برجاله من حيث جاء[20].
الرماة على الجبل
انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت السحر إلى أُحد، وبعد صلاة الصبح أخذ يصفّ أصحابه، وأقعد خمسين رجلًا من الرماة على جبل عينين بأُحد[21]. ولقد كان العامل وراء اتخاذه صلى الله عليه وسلم هذا الإجراء هو تشكيل أهل مكَّة كتيبة من مائتي فارس على رأسهم خالد بن الوليد. فمن المحتمل بقدر كبير أن تتحرك هذه الكتيبة من خلف الجبل ليباغتوا المسلمين من الخلف. وقد حصل هذا بالفعل، فقد قام المشركون بعدَّة حملات على المسلمين من الخلف، لكن خفقت جميعها بفضل هذا التدبير والحذر الذي يتخذه رسول الله في كل غزواته.
التنبيه على الرماة
لقد كان التنبيه الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرماة الذين جعلهم على الجبل؛ نموذجًا مختلفًا تمامًا للتدابير التي كان يتخذها؛ فإنهم في النهاية بشر، ومن المحتمل أن يقرروا ترك مواقعهم على الجبل إذا كانت الغلبة لهم، وذلك بحسب سير الحرب؛ لذا راعى رسول الله هذه الحقيقة ولم يكتف بتحديد مواقعهم على الجبل فحسب، بل إنه أمرهم قائلًا: “إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ“[22]. كانت هذه الكلمات بمثابة تدبير حيوي قد اتُّخذ ليحول دون نزولهم عن الجبل بدون إذن.
إعطاء الجيش ظهره للجبل
لقد كانت من سعة رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في كل الجبهات أنه كان يتخذ كافة التدابير اللازمة من أجل حمايتهم. ويأتي على رأس هذا أنه جعل الجيش ظهره للجبل[23]؛ حيث إن ذلك يحول دون أن يتعرضوا لهجوم من الخلف فيصبحوا بين نارين، كما أن هذا الإجراء سيتيح لهم حال الهزيمة التراجع والتقهقر للوراء نحو الجبل لتقليل الخسائر البشرية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فإذا ما انقلبت الأمور على المسلمين سيجني المسلمون ثمار هذا التدبير الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة إلى جبل أُحد الذي سيصبح مأوى لنجاة وإنقاذ حياة الصحابة رضي الله عنهم[24].
التوكل
إن التوكل هو أخر حلقة في سلسلة التدبير والأخذ بالأسباب لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإرادة والعقل والمنطق والمحاكمة العقلية حقها من أجل أن يتجاوز المسلمون هذه النازلة، واتخذ التدابير والاحتياطات اللازمة من بداية المرحلة إلى آخرها، ثم توكل على الله من أجل أن يمن عليه بحسن العاقبة نتيجة هذه التدابير التي اتخذها. والحق أن آخر تدبير يجب أن يأخذه العبد في جميع أموره هو التوكل، ثم إن إحالة العبد النتيجة إلى الله تعالى بعد أن يقوم بكل ما يتوجب عليه، ولجوءه إليه، واعتماده عليه؛ هو بمثابة بث الروح في التدابير والاحتياطات التي اتخذها. فإن أي حركة أو حملة تحدث دون أخذ التقدير الإلهي في عين الاعتبار قد يجرّ الإنسان إلى نتائج أخرى؛ حيث إن الحكم في النهاية يعود إلى الله الذي تكمن آلاف الحِكَم في مقاديره.
استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتخاذ التدابير اللازمة خلال المعركة وبعدها: فقد جعل أصحابه يخرجون في آثار أهل مكة حتى مغادرتهم المدينة (حتى لا يعتدوا على المدنيين في طريق العودة ولا ينهبوا خيرات المدينة)؛ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصاب مع أصحابه رغم جراحهم إلى أن نزلوا بحمراء الأسد حتى يمنعوا المشركين من العودة والاعتداء ثانية؛ ثم مكث هناك ثلاثة أيام مبتعِدًا عن جو الفتنة الذي يؤججه المنافقون واليهود بسبب النتيجة التي آلت إليها غزوة أُحد؛ وقد أخذ معه إلى حمراء الأسد من قاتل معه من الصحابة فحسب ليبيِّن صلى الله عليه وسلم لهم عمليًّا أنه قد عفا عن الجميع بما فيهم الرماة الذين تخلوا عن مواقعهم، ويثق فيهم جميعًا (وقد كان هذا سببًا في استجماع الصحابة قواهم الحسية والفكرية والفعلية في وقت قصير جدًّا).
النتيجة
إن رسول الله بصفته بشرًا ومرشدًا وقائدًا قد أعطى إرادته حقها عند تنفيذ وتحقيق المسؤوليات التي تقع على عاتقه، ولم تخامر ذهنه فكرة أنه نبي، وأن ربه وعده بحمايته وعصمته. وأن قدرته ستتدخل وتنقذه هو وأمته؛ ومن ثَمّ فليجلس الجميع في بيوتهم ولينتظروا هلاك الأعداء أو يذهبوا إلى أُحد ويشاهدوا تدمير الملائكة لمشركي قريش…”.
إن إعطاء الإرادة حقها إزاء المشكلات، واتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة، ثم التوكل على الله إنما هو أمر قرآني وجزء لا يتجزأ من شخصية رسول الله وسجيته وعزيمته. وهذا ما دفع رسول الله إلى أن يجيب السائل الذي سأله: “يا رسول الله أَأُرسل ناقتي وأتوكل أم أعقلها وأتوكل؟” فقال صلى الله عليه وسلم: “بل اعقِلْها وتوكَّلْ“[25]، وهذا ما دفعه أيضًا إلى أن يعقل دابته “البُراق” في حلقة بالمسجد الأقصى، ثم واصل رحلة معراجه من هناك[26].
اتخذ رسول الله في أُحد أيضًا كافة التدابير اللازمة، ثم أخذ ينتظر عون الله ومساعدته. فلما صدق في أخذه بالأسباب انتصر بعون الله وتأييده، وعندما أُخِلّ واحد من هذه الأسباب تغير مسار الحرب التي انتصروا فيها، وتحول النصر المطلق إلى هزيمة مؤقتة. وبذلك أخذ الصحابة الكرام العبرة اللازمة من هذه الحادثة، فقابلوا هذه النتيجة بالرضا التام والصبر الجميل حتى لا يعيشوا خسرانًا آخر في الآخرة.
إن هذا الحال الذي يتسم به رسول الله في تصرفاته والذي يشكل نمط حياته هو جانب آخر يجب أن نحتذي به حتمًا في كل شأن من شؤوننا وخاصة في أوقات الأزمات والمفاجآت.
[1] أبو داود، الخراج، 23 (3004)؛ البيهقي، دلائل النبوة، 3/178، 179.
[2] سورة الفتح: آية 25.
[3] ابن سعد، الطبقات الكبرى، 4/25.
[4] الواقدي، المغازي، 1/189.
[5] ابن الأثير، أسد الغابة، 88.
[6] الواقدي، المغازي، 1/205.
[7] الواقدي، المغازي، 1/189.
[8] الواقدي، المغازي، 1/189.
[9] الواقدي، المغازي، 1/192.
[10] ابن هشام، السيرة النبوية، 377؛ الواقدي، المغازي، 1/193.
[11] ابن هشام، السيرة النبوية، 378،379؛ الواقدي، المغازي، 1/196،199.
[12] ابن هشام، السيرة النبوية، 379؛ الواقدي، المغازي، 1/197.
[13] ابن هشام، السيرة النبوية، 379؛ الواقدي، المغازي، 1/199.
[14] ابن هشام، السيرة النبوية، 379؛ الواقدي، المغازي، 1/200.
[15] ابن هشام، السيرة النبوية، 371.
[16] الطبراني، المعجم الكبير، 11/251؛ الطبري، التفسير، 7/143.
[17] الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2/502؛ الدياربكري، تاريخ الخميس، 2/185.
[18] ابن هشام، السيرة النبوية، 398.
[19] ابن هشام، السيرة النبوية، 391.
[20] انظروا: الواقدي، المغازي، 1/198.
[21] ابن هشام، السيرة النبوية، 379؛ الواقدي، المغازي، 1/200.
[22] صحيح البخاري، المغازي، 17؛ ابن هشام، السيرة النبوية/ 379؛ الواقدي، المغازي، 1/203.
[23] الواقدي، المغازي، 1/200.
[24] ابن هشام، السيرة النبوية، 394.
[25] سنن الترمذي، صفة القيامة، 60.
[26] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، 74.