“التشييع والتوديع” مؤسسة تعليمية نبوية
بقلم: يوجَل مان
كانت الغالبية العظمى ممن آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مكَّة والمدينة من فئة الشباب والفتيان. فهم من سيحملون على عاتقهم الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، ونقلهما إلى الأجيال القادمة، ونشرهما في ربوع الأرض. إلا أن هؤلاء الفتيان الذين نشؤوا في بيئة الجاهلية ولم يتلقوا بعد أي تعليم أو تربية حتى ربيع عمرهم كان يجب تنشئتهم تنشئةً جيدةً. وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستثمر كل وسيلة وكل لحظة وكل فرصة وكل إمكانية في هذا الغرض رغم ما يتعرض له من القمع والظلم؛ فكان يستغل كل هذه الفرص والإمكانات في مدِّهم بالقيم الأخلاقية والحقوقية والعسكرية والاقتصادية والإدارية والدينية.
كان يستخدم الجبال والمغارات والوديان والأسفار والسرايا والغزوات والمساجد والديار ومناسبات الزواج والخطب والمجالس والدروس وأوقات العبادة والأعياد والأفراح والمواليد والجنازات وعيادات المرضى وأوقات طرح السؤال وتصويب الأخطاء وحتى ظهور الدواب في تنشئة أصحابه وتربيتهم. وفي هذا السياق نجد أن أكثر الأوقات التي كان يحرص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أوقات تشييعه الصحابة وتوديعهم؛ حيث كان ينظر إليها وكأنها مؤسسة تعليمية وتربوية.
فعندما يبعث واحدًا أو مجموعة من الصحابة لأداء وظيفة ما، كان يهتم به بنفسه، ويُقلّه دابته، وفي أغلب الأحيان يخرج معه إلى مشارف المدينة لتشييعه، وفي تلك الأثناء يوجه له الأوامر والتوصيات والنصائح والتنبيهات والتحذيرات التي ستعينه على أداء مهامه على الوجه الأكمل. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستثمر شعور المسؤولية الذي يغشى الصحابي عند تكليفه بأداء مهمة ما، والجو الشاعري الذي ينشأ عن الفراق، في تهيئة ذلك الصحابي وإعداده للقيام بالخدمة المكلف بها.
بعث قادة السرايا والجيوش
وكما لم يستسِغ مشركو مكَّة منذ اللحظة الأولى الإسلام، لم يتقبلوا كذلك هجرة المسلمين إلى المدينة؛ فبدؤوا في الزحف بجيوشهم إلى المدينة للقضاء عليهم. علاوة على بثهم الكره والحقد بين القبائل العربية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطابات الكراهية التي ذاعوها في شبه الجزيرة العربية منذ العام الرابع للبعثة. فكانت هذه القبائل التي احتذت بالقرشيين تنتهز كل فرصة للاحتشاد من أجل الاعتداء على المسلمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتابع التطورات في المنطقة عن كثب، فكان يرسل في كل مرة السرايا من أجل تفرقة هذه التجمعات وتشتيتها؛ محاولًا الحافظة على أمن المنطقة، وضمان سلامتها واستقرارها. فكان يشكل الوحدات والكتائب بأعداد متفاوتة بحسب حجم القوة التي سيواجهونها، ويعيّن على رأسهم في كل مرة تقريبًا قائدًا جديدًا لهم. وحين انطلاق القادة من المدينة كان صلى الله عليه وسلم يوجه لهم مجموعة من التنبيهات والتوصيات التي تؤهلهم في هذه الساحة. فيوصيهم أولًا بتقوى الله، وعدم مخالفة أوامره وتجاوز حدوده، وحسن معاملة من هم تحت أيديهم من الجنود، ثم ينصحهم بـ:
“اغْزُوا باسْمِ اللهِ في سَبيلِ اللهِ، قاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا، وَلا تَغْدِرُوا، وَلا تَمْثُلُوا، وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وإذا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعُهُمْ إلى ثَلاثِ خِصالٍ، أَوْ خِلالٍ، فأيَّتُهُنَّ ما أَجابُوكَ فاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلامِ، فإنْ أَجابُوكَ، فاقْبَلْ منهمْ، وَكُفَّ عنْهمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى التَّحَوُّلِ مِن دارِهِمْ إلى دارِ المُهاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذلكَ فَلَهُمْ ما لِلْمُهاجِرِينَ، وَعليهم ما على المُهاجِرِينَ، فإنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا منها، فَأَخْبِرْهُمْ أنَّهُمْ يَكونُونَ كَأَعْرابِ المُسْلِمِينَ، يَجْرِي عليهم حُكْمُ اللهِ الذي يَجْرِي على المُؤْمِنِينَ، وَلا يَكونُ لهمْ في الغَنِيمَةِ والْفَيْءِ شيءٌ إلّا أَنْ يُجاهِدُوا مع المُسْلِمِينَ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الجِزْيَةَ، فإنْ هُمْ أَجابُوكَ فاقْبَلْ منهمْ1، وَكُفَّ عنْهمْ، فإنْ هُمْ أَبَوْا فاسْتَعِنْ باللَّهِ وَقاتِلْهُمْ، وإذا حاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فلا تَجْعَلْ لهمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَلا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحابِكَ، فإنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحابِكُمْ أَهْوَنُ مِن أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسولِه“ِ2.
بعث الولاة والدعاة
عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن واليًا وداعيًا في ربيع الأول من السنة التاسعة من الهجرة، أركبه عند المسجد النبوي دابته، ومشى معه أكثر من ميل، وعندما كان يجر راحلة سيدنا معاذ من لجامها، كان في الوقت ذاته يقدم له هذه النصائح والتوصيات:
“إنَّكَ تأتي قومًا أَهلَ كتابٍ، فادعُهم إلى شَهادةِ أن لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنِّي رسولُ اللَّهِ، فإن هم أطاعوكَ، فأعلِمْهم: أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ افترضَ عليْهم خمسَ صلواتٍ، في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوكَ، فأعلمْهم: أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قدِ افترضَ عليْهم صدَقَةً في أموالِهم، تؤخذُ من أغنيائِهم فتوضعُ في فقرائِهم، فإن هُم أطاعوكَ لذلِكَ، فإيّاكَ وَكرائمَ أموالِهم، واتَّقِ دعوةَ المظلومِ، فإنَّها ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ حجابٌ“3. وأمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذَ من كل ثلاثينَ بقرةً تبيعًا أو تبيعةً جذَعًا أو جذعةً، ومن كل أربعينَ بقرةً مسِنَّةً. وأن يأخذَ من كلِّ حالِمٍ وحالمةٍ من أهلِ الذِّمَّةِ دينارًا أو قيمتَه من المعافرِ، وأن يأخُذَ مِمّا سقَتِ السَّماءُ وما سُقيَ بعلًا العُشرَ، وما سُقِيَ بالدَّلوِ نصفَ العُشرِ4.
“يا مُعاذُ، أُوصيكَ بتَقوى اللهِ العَظيمِ، وصِدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وتَركِ الخيانةِ، وخَفضِ الجَناحِ، ولِينِ الكَلامِ، ورَحمةِ اليَتيمِ، والتَّفَقُّهِ في الدِّينِ، والجَزَعِ مِن الحِسابِ، وحُبِّ الآخِرةِ، يا مُعاذُ، ولا تُفسِدَنَّ أرضًا، ولا تَشتِمْ مُسلِمًا، ولا تُصدِّقْ كاذِبًا، ولا تُكذِّبْ صادِقًا، ولا تَعصِ إمامًا عادِلًا، والتفقُّهِ في القرآنِ، يا مُعاذُ، أُوصيكَ بذِكرِ اللهِ، وأنْ تُحدِثَ لكلِّ ذَنبٍ تَوبةً، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانيةِ، يا مُعاذُ، إنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنَفْسي، وأكرَهُ لكَ ما أكرَهُ لها، يا مُعاذُ، إنِّي لو أعلَمُ أنّا نَلتَقي إلى يَومِ القِيامةِ لأَقصَرتُ لكَ الوَصيَّةَ، يا مُعاذُ، إنَّ أحَبَّكم إليَّ مَن لَقِيَني يَومَ القِيامةِ على مِثلِ الحالةِ التي فارَقَني عليها“5.
وكانت قد حانت لحظة الوداع، فطلب سيدنا معاذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه وصية أخيرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمْحُها، وخالقِ النّاسَ بخُلقٍ حسنٍ”6. وفي لحظة انطلاقه الأخيرة إلى اليمن، اقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذنه وقال له: “حفِظَكَ اللهُ مِن بيْنِ يَدَيكَ ومِن خَلفِكَ، ودَرَأَ عنك شَرَّ الإنسِ والجِنِّ”7.
سير الخلفاء الراشدين على المنهج النبوي
ولقد واصل الخلفاء الراشدون الذين قاموا على أمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنهج النبوي الشريف. فكانوا يقدمون لمن يبعثونه لأداء مهمة بالخارج بمجموعة من النصائح والتوصيات والتنبيهات التي من شأنها أن تسهل عمله، وترسّخ قدمه، وتُعِينه على أداء مهمته في المكان الذاهب إليه.. ومن النماذج الدالة على ذلك، عندما أمَّر أبو بكر الصديق رضي الله عنه سيدنا يزيد بن أبي سفيان على جيش المسلمين إلى الشام، خرج يشيعه بنفسه، وأوصاه بتلك النصائح المهمة:
“إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأخرجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد بن سعيد، فإياك وعُبِّيَّة8الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينهم فيروا خللك ويعلموا علمك، وأنزلهم في ثروة عسكرك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم… وحتى في ساعة القتال يوصيه: ولا تقتلوا امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخربن عامرًا، ولا تعقر شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلًا، ولا تحرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن… يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا حتى يدخله جهنم، ومن أعطى أحدًا حمى الله فقد انتهك في حمى الله شيئًا بغير حقه، فعليه لعنة الله”9.
وقد واصل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المنهج النبوي الشريف كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فكان يقدم التوصيات والنصائح لمن يبعثهم خارج المدينة. على سبيل المثال، عندما أمَّر سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على جيش المسلمين إلى العراق قال له:
“إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق، فعود نفسك ومن معك الخير، واستفتح به واعلم أن لكل عادة عتادًا، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله. واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء، منها السر، ومنها العلانية، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبدًا حببه، وإذا أبغض عبدًا بغضه فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس”10.
خلاصة القول
إن كل لحظة وكل حركة وكل فعل في حياته صلى الله عليه وسلم كانت تفيض بالخير والحِكمة. فقد كان صلى الله عليه وسلم يستغلّ كل فرصة وكل مكان وكل زمان بشكل مثمر وهو يربّي هذا الجيل المثالي والمعجز من الصحابة؛ فلم يحصر تعليمهم وتربيتهم بمكان أو زمان محدد، بل حول الحياةَ إلى أعظم مؤسسة تعليمية بالنسبة لهم؛ فكان يستثمر العلاقات الاجتماعية والحوادث والمشكلات المجتمعية وحتى أوقات التشييع والوداع أحسن استثمار.. وقد سار على نفس النهج الخلفاء الراشدون الذين اقتفوا أثره ، وصدقوا في إخلاصهم واتباعهم له صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الصدد يجب على كل من يقتدي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في هذا الأمر أن يستغلّ الوقت ولو كان قليلًا، ولحظات الاجتماع ولو كانت قصيرة، في تنشئة وتربية من هم تحت إمرتهم، وإعدادهم للمستقبل. ويجب ألا تنحصر تربية الإنسان وتنشئته في أشخاص بعينهم أو أوقات وأزمنة معينة.
Footnotes
- للاطلاع على أصل الحكم انظر: سورة الأنفال: 8/72
- صحيح مسلم، الجهاد، 3 (1731)؛ سنن الترمذي، السير، 48 (1617)؛ الديات، 14 (1408)؛ سنن أبي داود، الجهاد، 90 (2612، 2613)؛ سنن ابن حبان، الحدود (4473)
- صحيح البخاري، 1 (1395)، 41 (1458)، 63 (1496)، المظالم، 9 (2448)؛ صحيح مسلم، الإيمان، 7 (29/19)؛ أحمد بن حنبل، المسند، 3/498 (2071)؛ النسائي، السنن الكبرى، 3/45 (2313).
- أحمد بن حنبل، المسند، 36/338 (22013)؛ النسائي، السنن الكبرى، 3/17 (2245)، 3/32 (2281)؛ الطبراني، المعجم الكبير، 20/129 (262).
- ابن كثير: التاريخ، 18/194، 195، 85/408.
- الطبراني: المعجم الكبير، 20/144 (295، 296، 297، 298)؛ ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/439.
- ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/1847؛ ابن عساكر، التاريخ، 58/413.
- الكبر والفخر والنخوة.
- أحمد بن حنبل، المسند، 21.
- ابن كثير: البداية والنهاية، 7/36.